19 ديسمبر، 2024 1:04 ص

ديالكتيك الايديولوجيا في المشهد السياسي العراقي

ديالكتيك الايديولوجيا في المشهد السياسي العراقي

شكلت الاثنيات القومية والطائفية والعشائرية وسيلة، وظفتها التيارات السياسية لخدمة ايديولوجيتها السياسية ظنا منها أنها ممكن بهذا الفعل أن تأخذ حيزاً أكبر من حجمها الحقيقي . على حساب ثوابت ايديولوجية يبدو أنها لا تفقه منها شيئا وعلى حساب الوحدة الوطنية ومشروع بناء دولة. فوقعت في شطحات دراماتيكية ألبستها كاركترات كوميدية . وأول تمظهر لهذا الديالكتيك الايديولوجي هو تجلبب الإسلام السياسي بجلباب المرجعية التي سرعان ما نأت بنفسها عن المستنقع السياسي بكل أطيافه . إذ لايمكن التوفيق بين مبدئية المرجعية وبين مكيافيلية وبراگماتية السياسة . فأخذ الإسلام السياسي يعتاش على النسغ الطائفي مستفيداً من دعم الأجندات الخارجية بغض النظر عن توافقه الفكري معها . فلا غرابة أن تجد ميليشيا سنية تقاتل بدعم إيراني أو ميليشيا شيعية تقاتل بسلاح سعودي خليجي أو الاثنان يتقاتلان ضد بعضهما البعض بسلاح أمريكي إسرائيلي وتحاصصوا المساجد واستثمروا المناسبات الدينية؛ لكي يوهموا الشارع الانتخابي أنهم جزء من الكهنوت الذي عليهم الحصول منه على صكوك الغفران أو تنادر المقاولات أو فرص التعيينات لقاء حزمة نقدية بالدولار حصرا .
الإسلام السياسي بكلا شقيه الشيعي والسني . سقطت عنهما ورقة التوت الإسلامية فكان البديل يشكل ( ارتداد ) على الأقل على وفق مفاهيمهم؛ نحو الجاهلية العشائرية و العرف العشائري و السنينة ؟! ( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً  ـ النساء الآية 60  ) . لأنها أيسر انقياداً وأطوع أعناقا؛ ولأن غالبية نخبها من خريجي معارض السيارات ومن لهم ( cv ) في إدارة مكاتب دلاليات العقار . وهي تجتهد لنصرة ممولها تحت مبدأ ( لاحظ ولابخت انصر أخاك ظالما او مظلوما ) ولأن الأحزاب في مفهومها لا تختلف كثيرا عن مفهوم العشيرة   .
 وقد استغلت هذه الأحزاب انعدام الطبقة الوسطى من المثقفين والعلماء والأدباء والتكنوقراط والطبقة الصناعية الوطنية( لأسباب يطول شرحها ) من جانب .و الآخر تحول الحواضر المدنية وعلى رأسها العاصمة بغداد إلى بيئة ريفية غير منضبطة متحللة القيم لما توفره  من ملاذات ومتاهات وزحمة تؤمن لها التحلل من التزاماتها الأخلاقية العشائرية والقانونية . في الوقت الذي تفتقر فيه للأهلية الحضارية.  وهنا ينحسر صوت العقل أمام طبول التخلف التي تضخمت؛ بسبب ضعف السلطة الأمنية وانعدام الإرادة السياسية وسنوات من المحرومية والتهميش والأمية .
وكما كانت ( المقاومة الشعبية والشبيبة الديمقراطية ) وبالاً على الشيوعيين في زمن عبد الكريم قاسم . و ( الحرس القومي ) وبالاً على البعثيين عام63 فإن مشايخ الديمقراطية ستكون وبالاً على الإسلام السياسي .
أما الشيوعيون فقد اختاروا أهون المتناقضين مع ايديولوجيتهم  فهم بين مطرقة الفكر الديني الذي يعتبرونه ميثولوجيا( خرافة ) وإفيون في أدبياتهم وبين سندان الفكر القومي الشوفيني .
فما كان من الحزب الشيوعي الذي لم يجد الثقة في نفسه لخوض الانتخابات في الدورة الأولى إلا الانضواء تحت جناح السيد علاوي الذي وضع اليد على أسلاب البعث المنحل .  فوجد الشيوعيون أنفسهم يدا بيد مع جلاديهم وهذه مفارقة أساءت لرصيدهم في الشارع تداركوا موقفهم هذا في الدورة الانتخابية الثانية بعد فوات الأوان .
أما التيار القومي الذي توارث داحس والغبراء والبسوس .  فإنه كالبندول تارجح بطروحات تفتقر إلى المنطقية ويتبنى أمجاد الطواغيت على امتداد التاريخ العربي لتعزيز أضغاثه ( الكلام الذي لا تاويل له ) .  وتعددت الرؤية القومية بين الانقلابيين العسكر لايجمعها رابط إلا المزايدة بالشعارات . هؤلاء الذين تسلطوا على رقاب العباد في البلاد العربية بدءً من  عبد الناصر و الأسد وصدام وانتهاءً بالقذافي، ولكن الذي يهمنا في هذه العجالة موضوعان من أطروحاتهم أولهما :  الديمقراطية التي تجسدت بالعديد من الأجهزة الامنية والسجون والمقابر الجماعية التي تفتقت عنها ذهنيتهم !  والموضوعة الثانية : هي اتفاقهم على اختلاف مشاربهم بمعاداة الرجعية .  فبالنسبة للديمقراطية فإنها ليست من أبجدياتهم وانقادوا إليها صاغرين مكرهين مكبلين .  علهم يحظون بالسلة بعد أن فقدوا العنب .
أما الرجعية التي كانت محور ادبياتهم  . والتي استمدوا شرعية وجودهم من خلال معاداتها والنضال من أجل القضاء عليها. سرعان ما ارتموا في أحضانها وأصبحوا مطية عمياء لأشد أفكارها تعصبا وتزمتاً (الوهابية السلفية ) يأتمرون بأمر دوائر المخابرات السعودية ويمولون دعاياتهم الانتخابية بأموال “البترو دولار” الرجعية . وقد حاز إخراج الشيعة من قوميتهم العربية على إجماعهم … .  وهذا الانزلاق لايقل زيفا في الوعي عن محاولاتهم الشوفينية في تعريب الكرد في العراق وسوريا  . والزنوج في جنوب السودان .  والبربر والطوارق والأمازيغ في المغرب العربي .  فانزلقوا إلى متاهات أيديولوجية كشفت زيف الوعي الذي غشيهم .  بل تعدى ذلك إلى التحالف الضمني والصريح مع إسرئيل .  التي طالما ازبدوا وعربدوا برميها في البحر؛ ضد الشيعة أين ما وجدوا سواء في لبنان أو العراق أو اليمن والبحرين والأحساء والقطيف وإيران . والآن بعد أن ضاقت  بهم الأرض بما رحبت بفضل الربيع العربي وسقطت ملاذاتهم في ليبيا ومصر وسوريا انكفأوا إلى الفدراليات .  لتحقيق حلمهم القومي تحت شعار ( أمة عربية واحدة   ذات فدرالية بائسة!! ) .
أما المحور الرئيس الذي وقع خارج سياقات المنطق الديالكتيكي لمسار الأحداث .  هو ولادة الديمقراطية في العراق يتيمة الأبوين تبناها أعداؤها. فالمسرح السياسي يخلو من الليبراليين والديمقراطيين والعلمانيين إلا من بعض الأسماء التي تداركتها الشيخوخة .  ونتيجة للوضع الاجتماعي المتردي افتقدوا القاعدة الجماهيرية ( الردة العشائرية .  وثقافة الريف . والإسلام السياسي ) ناهيك عن أن الطبقة الوسطى لم تتمكن من إيجاد محط قدم لها .  أو حواضن في البيئة العراقية . أو رئة تتنفس من خلالها أو تمارس نشاطها .  فقد أغلقت المسارح والمعارض ودور السينما ومناطق الترفيه الاجتماعية والمهرجانات العلمية والثقافية والتجارية .  فهرب أصحاب هذا التيار خارج العراق أو إقليم كردستان بانتظار ما تتكشف عنه غبرة العصف السياسي  .
ومما زاد في بلل طين الليبراليون أنهم انزلقوا إلى الإصطفافات الطائفية  . فضيعوا المشيتين هذا من جهة  . ومن جهة أخرى استحوذت الأجندات السياسية على مؤسسات المجتمع المدني التي كان من الممكن أن يكون ملعبها حكرا على التيار الليبرالي الديمقراطي العلماني .  وقد جسدوا فشلهم من خلال أنانيتهم التي أفصحوا عنها بتشرذمهم وعدم اندماجهم بمكون واحد .  فما زالوا يعيشوا في عصر البسطيات ولم يصل إليهم نظام المولات!
مما شكل هذا المرتع الخصب بيئة لنمو الفطريات و الطفيليات الإقليمية ابتداءً من وهابية ال سعود وطائفيتهم الى علمانية اتاتورك العصملية الى ولاية الفقيه الايرانية الاسلامية الى شركات الحماية الامريكية الاسرائيلية .  واصبح كل من هب ودب يدلو بدلوه من صاحب الكتاب الاخضر الى صاحب نظرية الهلال الشيعي الى اخوة نيرة ( الكويتية صاحبة حواضن الأطفال أمام أعضاء الكونكرس الأمريكي ) إلى النجم الصاعد بعل موزة .
في العراق والدول العربية ضيعت  فكرة القومية والايديولوجيا الكثير من الوقت والجهد و البناء وكلا المفهومين عفا عنهم الزمن وهما بتاثيرات اوربية تجاوزتها منذ أمد بعيد .
فالزمن الذي كانت فيه الأحزاب تشكل وفق مثلث الايديولوجيا , والكارزما القيادية الكهنوتية المقدسة , والقاعدة الشعبية العمياء من الرفاق , قد ولى وحل محله البرنامج العملي الذي يتغير وفقا لمتطلبات المرحلة , والتكنوقراطية المؤهلة لتطبيقه , والشريحة المستفيدة منه .
أما الايديولوجيا والمعتقد، فإنهما قناعة ذاتية تتطور ذاتيا لدى الفرد تبعا لتجاربه و مراحل عمره ومصالحه وبيئته الطبقية والاجتماعية ولا تملى على الآخرين قسراً .
أما القومية لا يسعفها مدعيها مهما شكلوا من أحزاب تحت لوائها؛ لأن أصالتها ونقاوة عرقها مطعون فيه في ظل مهد حضاري تعاقبت عليه عباد الله جميعا من الفرس و الأسكندر المقدوني إلى المغول والرومان والترك إلى الإنكليز والفرنسيين والطليان وانتهاءً بالأمريكان .