23 ديسمبر، 2024 7:33 م

دول الربيع العربي – تساؤلات عن المستقبل الاقتصادي

دول الربيع العربي – تساؤلات عن المستقبل الاقتصادي

على الرغم من أن الربيع العربي لم تتفتح أزهاره في الدول التي عاشته كمصر وتونس أو غيرها، التي لم تحسم معركتها بعد، فإن الغيوم بدأت بالتجمع في سماء تلك الدول مهددة بتحويل ذلك الربيع إلى خريف حقيقي في صعيدي السياسة والاقتصاد معا. فبعض دول الربيع تسير على حافات الأزمة المعاشية بالفعل. ولا زالت الأسئلة تتكاثف حول مستقبل السياسات الاقتصادية، التي ستتبعها النظم التي ستولد من هذا المخاض.

وعلى الرغم من أن الإجابة عن تلك الأسئلة لا يزال في حكم المجهول، إلا أن هناك بعض المؤشرات التي يمكن للمراقب أن يسترشد بها ليستشرف منها صورة المستقبل ولو بشكل أولي. علينا أولا أن نصف الشكل النمطي للسياسات الاقتصادية في دول الربيع قبل حدوث الانتفاضات الأخيرة كما هي مرتسمة في ذهن مواطن تلك الدول وليس كما هي في الواقع.

هذا التمييز مهم للغاية، فالنخب السياسية والاجتماعية ستحاول أن تبني واقعا مناقضا لما كان عليه الأمر فيما مضى. واقع يقوم على تجنب كل السياسات والممارسات الخاطئة، التي رافقت مسيرة الحكومات السابقة والعمل على النقيض من مسارها. كما ينبغي أن نقر، ابتداء، أن إذا كانت هذه الانتفاضات العربية وليدة القهر والاستبداد السياسي والفردية، فإنها، وبالدرجة نفسها، وليدة المعاناة المعاشية والفشل الاقتصادي والإحباط المادي. ينظر المواطن العربي إلى النظم التي أطيح بها على أنها نظم عملت لصالح النخب الحاكمة، واتسمت بقدر كبير من الفساد وسوء الإدارة وغياب المنظور الاستراتيجي في التنمية، وأنها عملت للحكام وللأغنياء أكثر مما عملت للطبقات الفقيرة والمواطن العادي، وأنها هي المسؤولة عن الفقر والبطالة وتردي الخدمات. غير أن هناك شريحة أخرى من المجتمع تناقض هذا التوصيف عادّةً تلك النظم، في المستوى الاقتصادي، نظما تبنت تحرير الاقتصاد والانفتاح على الاقتصاديات العالمية والاستثمار الأجنبي بلا ضوابط أو مراعاة للمصالح الوطنية. ونجد أن هناك حنينا خفيا (يجد تعبيراته في بعض الأحيان من خلال بعض التصريحات والمواقف) للقطاع العام ولدور أكبر للدولة في ضبط وتسيير الاقتصاد، مع نقد متزايد لفوضوية نظام السوق وإهماله التنمية الحقيقية، التي تصيب بعطاياها أوسع الشرائح الاجتماعية. كما نجد في أوساط واسعة كراهية متأصلة لطبقة رجال الأعمال وكذلك للمستثمرين الأجانب.

مثل هذه الصورة النمطية في الأذهان وتلك التوجهات الجماهيرية قد لا تفرز في المستقبل بالضرورة نظما اشتراكية يلعب فيها القطاع العام دورا رئيسا، ويعاد فيه للدولة دورها التقليدي الذي مارسته في العقود الماضية. لكن وجود مثل هذه النزعات العامة قد يشل يد الدولة، وهي تحاول تشجيع قطاع الأعمال الوطني على الانخراط بصورة أكبر في عملية إحياء الاقتصاد، كما ستجعل من تحرك الدولة لجلب الاستثمارات الخارجية أكثر صعوبة. وبالطبع، فإن هذا سيفاقم من حدة الأزمة الاقتصادية التي تواجهها تلك الدول.

من جهة أخرى، ستعمل تلك التوجهات على إعاقة أي تعاون واسع مع المنظمات المالية الدولية كمنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك الدوليين، بخاصة إذا ترتب على مثل هذا التعاون أثمان محلية باهظة يدفعها المواطن، أو تنتج عنها قبول وصفات تلك المنظمات لإصلاح الاقتصاد مقابل منحها ومساعداتها.

علينا أن نضع نصب أعيننا بعض الحقائق الكبيرة التي تفرض علينا مراعاتها ونحن نتطرق لمثل هذا الموضوع المهم.أول هذه الحقائق يتمثل في أنه لن يكون هناك حسم في مسائل الاقتصاد قبل أن تحسم مسائل السياسة، ويتقرر من سيحكم تلك الدول وما هي الأيديولوجية التي يحملها وما هو المنظور الاقتصادي الذي يتبناه. بصورة مبدئية تشير أغلب التقديرات إلى أن القوى المرشحة للعب دور أكبر في الحياة السياسية القادمة لدول الربيع العربي هم الإسلاميون أولا يليهم بعض القوى الليبرالية واليسارية غير المتجانسة.

وإذا جئنا إلى الإسلاميين وفكرهم الاقتصادي، نجد أنه عبارة عن توجهات عامة غير تفصيلية مع تفضيل واضح لنظام الاقتصاد الحر وخبرة محدودة في إدارة الدولة ورغبة في تبني سياسات تجلب الشعبية على المدى القصير. إما التيارات الأخرى فليست أحسن حالا؛ فهي أيضا أبعد ما تكون عن امتلاك مواقف محددة وبارزة تجاه قضايا الاقتصاد والتنمية. وربما يقود مثل هذا الوصف إلى استنتاج مفاده أن إرضاء الشارع والمواطن العادي وتخفيف العبء عنه سيكون البوصلة الأساسية التي توجه قرارات وسياسات أولئك الحاكمين الجدد في مجال الاقتصاد؛ وبتعبير آخر أن كسب الشعبية سيكون أصلا في التحرك الاقتصادي. وهنا لا بد من التنبيه إلى أن تجربة العديد من الدول أثبتت أنه لا أضر ولا أخطر على اقتصاديات الدول من الاستسلام للمطالب الشعبية والفئوية التي قد تبدأ ولا تنتهي. فالانسياق إلى هذه الرغبات العامة يلغي مفهوم التوجه الاستراتيجي في بناء الاقتصاد، ويرهن القرار الاقتصادي برجل الشارع، ويجعل تلبية المطالب الوقتية أصلا في اتخاذ القرار تأتي على حساب المصالح والحسابات بعيدة المدى.

وفي آخر المطاف، يكتشف الحاكمون الذي أرادوا إرضاء الجماهير بأي ثمن بأنهم لم يبنوا اقتصادا ولا ارضوا مواطنا.سوف يسعى الحاكمون الجدد سواء أكانوا أحزابا أم تيارات لكي يؤسسوا قاعدة اقتصادية ومادية لحكمهم. وفي ظل التنافس السياسي المحموم والمتوقع بين الإسلاميين والعلمانيين ومحاولة كل طرف تثبيت ركائزه في السلطة، سنجد محاولات لحيازة مواقع قوة اقتصادية لكي يستعان بها في التنافس السياسي. ومثل هذه المحاولات ستزيد من حدة الصراع الاجتماعي. كما ستطيح بمراكز قوة اقتصادية أخرى يحوز عليها المنافسون أو المحايدون، الذين لا يسايرون التوجهات التي ستكون لها اليد العليا في إدارة الدولة.

كل هذه السيناريوهات ـ في حال حدوثها ـ قد تضعف مصداقية الدولة، وتنفي عنها صفة الحياد الاجتماعي. إن تأخر الربيع العربي في طرح ثماره ـ في مستوى حياة المواطن اليومية ـ سيزيد من حدة الجدال الداخلي. وإذا ما تفاقمت المعاناة في ظل الفوضى السياسية والاجتماعية المتوقعة، فإن هذا سيأكل من مصداقية التيارات التي قادت التغيير، ويمنح نوعا من رد الاعتبار لمن تمت الاطاحة به.

مثل هذه الظواهر، لو حدثت، ستجعل الحكام الجدد تحت ضغط أكبر لتبني السياسات الشعبية على حساب الاستراتيجيات والسياسات التنموية الصائبة على المدى البعيد. سيكون من قبيل المغالطة أن نتوقع سخاء من الدول الغربية أو المنظمات الاقتصادية الدولية تجاه دول الربيع العربي لو تولى الحكم فيها مجموعات إسلامية أو قوى راديكالية.

ورغم أن الغرب يخشى ولا يتمنى انهيارا اقتصاديا يعقبه انتشار للفوضى وتصاعد للتطرف مع موجات نزوح وهجرة واسعة لأوروبا من هذه الدول، إلا أن الغرب سيراقب المشهد عن كثب وهو يتوقع أن يؤدي الفشل الاقتصادي وما يتبعه من سخط شعبي إلى محاصرة التيارات الراديكالية في عقر دارها والتضييق عليها تمهيدا لإلغاء خياراتها المتطرفة ودفعها إلى مواقع الاعتدال والواقعية، ولسان حال هؤلاء يقول: ها أنتم تسلمتم السلطة وملكتم الحكم والدولة فأرونا ما أنتم فاعلين؟بالتأكيد، إن إسقاط نظام حكم غير صالح عملية أسهل بكثير من بناء نظام صالح وإدارة كفء، وهذا هو التحدي الذي تواجهه القوى والتيارات التي سوف يقدر لها أن تمسك زمام الأمور في دول الربيع العربي.

[email protected]