ان الانقسام المذهبي في العراق ادى الى بروز فئة اجتماعية من الميليشيات والاحزاب وقوى الامر الواقع، ضمت شرائح من الطبقة المتدنية (حثالات وسفلة المجتمع العراقي) وفئات شعبية فقيرة ومهجرين نزلت الى الشارع بهدف اظهار ازدرائها واستهانتها بالمؤسسات التي لم تسمح لها في السابق بالاستفادة من مكاسب العيش ومغانمه فأثبتت نفسها بطرق واساليب شتى، وتمكنت من اعادة توزيع الدخل لصالحها والانضمام بسرعة مذهلة الى الفئة المهيمنة من خلال نهب موارد الدولة والمؤسسات الخاصة والمواطنين، فحققت ثراءً فاحشاً بوساطة الصفقات والسرقات والمضاربة بالعملة الوطنية والتهريب وقبض الرشاوي… مراكمة بذلك قدراً كبيرا من الارباح غير المشروعة، كما برزت فئة من اثرياء الاحتلال وما بعده نتيجة سيطرتها على مناطق ذات قيمة تجارية او صناعية او عقارية او بسبب علاقتها بالفعاليات على الارض او السيطرة على مرفق عام او ثقب في انبوب نفط غير شرعي او تجارة ممنوعة كالمخدرات والاسلحة والسلع غير المرخصة من قبل الدولة….
ولا تكمن خطورة الميليشيات في حراكها السريع فحسب بل بما حملته معها الى موقعها الطبقي الجديد من افكار وقيم ومعايير الطبقة الاجتماعية التي انتمت اليها سابقاً.. فأصبحت قيمة الفرد ومكانته وكرامته ليست في المنافسة الخلقية او العلمية بل بما يحققه من دخل وقدرة على الانفاق الاستهلاكي، كما تبدل مفهوم العمل من قيمة انتاجية تهدف لبناء المجتمع الى وسيلة لجمع المال فقط.
انني هنا عندما اتحدث في مقالي هذا عن الميليشيات، فانا اقصد بها القوى الحزبية التي فقدت معناها الحزبي الدقيق وجمدت وتحجرت وتقوقعت ايديولوجياً وتحولت الى عامل تفكيك للدولة وتصديع مجتمعها، والى ميليشيا عسكرية طائفية او مذهبية غير مكترثة بشعارات التغيير والاصلاح او تمثيل قضايا القوى التي رفعتها وانطلقت منها. كما لا اعني بالميليشيات، القوى التي حملت السلاح واستباحت المجتمع والدولة فحسب وتحولت عملياً الى ما يشبه جمهورية ميليشيات بل المناخ الذي شاع وتأثر بطروحاتها وقيمها وسلوكياتها. فالميليشيات كبنية عسكرية سياسية انتجت ظواهر ثقافية وقيمية وفكرية وسلوكية اضحت طابع الثقافة العامة خلال عقد الكوارث. ومن هنا يمكن القول، ان عقد الكوارث انتج ثقافته وكل من انخرط فيه دخل في لعبته…
وخلال عقد الميليشيات الذي ما زال راهناً… اصاب الانفلات كل نواحي الحياة الادارية والسياسية والاجتماعية والثقافية والمعرفية والاقتصادية، حدث هذا تحت مظلة القيم التي اشاعتها هذه القوى الجديدة وشجعتها، فتحول الضعف الى قوة: التهريب تجارة، والقتل والذبح بطولة، والسرقة شطارة، والرشوة مهارة، والهجرة انفتاح، والتقليد ابداع، والطائفية واقع سوسيولوجي، وتوظيف الاقارب والمقربين ولاء ووفاء، والتعددية المتنافرة المتناحرة تفاعل حضاري، والهزيمة انتصار… ان كل هذه القيم الجديدة ترعرعت خلال عصر الميليشيات وهدفت في نهاية الامر الى عدم العودة الى الدولة الشرعية او قيام المجتمع العراقي من كبوته.
واذا كانت الدولة العراقية لم تسقط رسمياً خلال عقد الكوارث بفعل الصراع والفتك المسلح الوحشي بين الجماعات الدينية المتنافسة ناهيك عن العنف غير المتناهي بين الميليشيات والاحزاب والطوائف وداخل كل طائفة وحزب وميليشا، الا ان الدولة العراقية توقفت بالفعل خلال هذا العقد عن صناعة قرارها بنفسها وممارسة سيادتها وسيطرتها على الشارع وامساكها بمجتمعها المدني واشرافها على اقتصادها وادارتها وفضائها… واكتفى ما تبقى من اجهزتها الادارية بتقديم الغطاء الشرعي للاجراءات العامة والخاصة، وحداً ادنى من الخدمات العامة، عدا ذلك تخلت الدولة طواعية او اكراهاً عن سيادتها على اجزاء من البلاد لصالح قوى الامر الواقع من الميليشيات مسلحة واحزاب فيما خضعت اقسام اخرى للوجود الايراني، وكانت مصلحة ايران وما زالت تكمن في الابقاء على الميليشيات والانقسامات في البلد ليسهل عليها السيطرة وفرض نفوذها… فترك المواطنون هنا وهناك تحت رحمتها فاقام بعضها سلطة شبيهة بسلطة الدولة، فيما عجز بعضها الآخر عن ذلك ثم تلاشى.
في عقد الكوارث لم توجد حكومة في العراق واي جانب موجود منها لا يتمتع بأية سلطة واصحاب السلطة الحقيقيون ليسوا هم الحكومة، وفي الواقع تقاسمت السلطة الحقيقية في العراق جماعات من زعماء العشائر ورجال الدين والاقطاعيون وزعماء الميليشيات والاحزاب…
صحيح انه تم خلال عقد الكوارث تشكيل ثلاث حكومات وان العلاقة لم تنقطع بين مؤسسات الحكم العراقية بهدف التعاطي مع المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والامنية، وصحيح ايضاً ان البرلمان ولجانه يجتمعون من دون اكتراث لمآسي الشارع العراقي، وتعمل مؤسسات الدولة الخدمية والامنية الى حد ما لكن الصحيح ايضاً ان هذا الامر شكل جانباً نظرياً لادعاء الشرعية اذ بقيت سلطة الحكومة اسيرة قراراتها، عاجزة عن تحريك الادارة المشلولة والمسلوبة الفاعلية لحل المشكلات المعيشية للمواطنين. هذه المشكلات التي شاءت الميليشيات والاحزاب تركها على الارض عبئاً على الحكومة وليس اعترافاً بشرعيتها وسيادتها، كما ان البرلمان وان اجتمع وتحركت لجانه فهو لم يكن في الواقع يستطيع ادعاء التمثيل الشعبي للمواطنين بسبب تمركز السلطة خارج جدرانه…
اما مؤسسات الدولة سواء الخدمية او الامنية فما زالت اسماً على غير مسمى وعديمة الفعالية رغم التقارير التي كانت تكتب عن سوء الادارة وهيمنة الميليشيات عليها، بناء على ذلك، فان ادعاء الشرعية لا يعني انها موجودة وتجري ممارستها.
ان التفكيك قد يؤدي الى تجزئة الدولة حين لا يعود هناك من بديل آخر، من هنا فان تخلي الحكومة العراقية عن مقومات سيادتها وسلطتها افقدها الشعور بحقها الشرعي في الحكم وبالتالي في الحصول على اعتراف المواطنين بهذا الحق. وهذا ما افسح المجال امام الطوائف الدينية المتنافسة لادعياء كيانية مستقلة وجعل ادعاء الشرعية الذي ظلت الحكومات العراقية تروج له ظاهرياً طوال عقد الكوارث يفتقر الى الوسائل الفعالة واتخاذ التدابير لدعمه، فتحولت الى مجرد دولة ميليشيات واحزاب لصوصية…
[email protected]