23 ديسمبر، 2024 4:52 ص

دولة تبتلع الرأي العام …

دولة تبتلع الرأي العام …

بعد الأنقلاب الدموي ( الأمريكي بأمتياز ) في 08 / شباط / 1963 , والأجهاض على ثورة 14 تموز 1958 واسقاط حكومتها الوطنية وتصفية رموزها ومشروعها العراقي , وضعت ذات القوى الخارجية برنامجاً مرحلياً لتدمير الشخصية العراقية وتشويه وتمزيق الهوية الوطنية المشتركة ثم تفتيت وتغييب الدور التاريخي المؤثر للرأي العام العراقي , وعبر تصفيات واغتيالات منظمة داخل صفوف الأنقلابيين , انتهت بالأنقلاب الأبيض عام 1967 , وعبر ترتيبات خارجية لاحقة , توج العميل المشبوه اخلاقياً واجتماعياً ونفسياً صدام حسين طاغية على العراق , وبعد ان وضعت تحت تصرفه قوة السلطة والمال والأعلام , كلف بأشعال حربين مدمرتين اختتمت بحصار ظالم على الشعب العراقي , جعل المواطن منهكاً محبطاً يائساً لا يفكر بأبعد من جزئيات يومه وانقاذ عائلته , ونسى تماماً مستقبل اجياله ومصير وطنه , وبعد ان تجاوزت القوى الخارجية ابعد نقطة في مشاريعها , طرحت مشروع تحرير العراق احتلاًلاً , اخطر حلقة من مسلسل اطماعها , جمعت حوله قوى كانت في الأصل جزءً من مخطط تمزيق العراق وفرض الأستسلام على دولته, واخرى اذلها الأحباط مستسلمة لمشاريع ومخططات الآخر , فكان يوم 09 / نيسان / 2003 , حيث كان غيثها فرهدة وتهريب التاريخ الحضاري للعراق, جريمة وقحة غير مسبوقة اشتركت فيها مخابرات دولية واقليمية واطراف محلية مشبوهة , تبعتها تشكيلة مجلس الحكم الموقت على اساس طائفي عرقي , اسقط الهوية العراقية المشتركة ورفع الهويات الفرعية المتناقضة بديلاً .

المواطن العراقي , المشغول بفرحه , منطلقاً خارج تنور جهنم المحرقة البعثية , يوزع الحلوى وابتسامات الرضا والفرح على رؤوس جنود ( التحرير !!! ) لا يعلم ان مستقبل اجياله ومصير وطنه وضع في قدر المشروع الجديد , وان ممثليه والناطقين بأسم قضيته , هم توابل تلك الطبخة الكريهة , وجعل منهم المحتل , ركائز ( مناصب ) ثلاثية تحت قدر مشاريعه , شيعية وسنية وكوردية , اذا ما سحب منها واحدة يسقط معها المتبقي من العراق , هنا اصبح العراق فريسة نظام التحاصص والتوافقات والفرهود الشامل .

مشروع الأحتلال قد قلب العراق على رأسه , بعد ان فرض عليه واقع التجزاءة الجغرافية على اسس طائفية قومية , فكان الجنوب والوسط , جغرافية وسلطة وثروات وهوية , حصة الشيعة , والمناطق الشمالية الغربية , جغرافية وسلطة وثروات وهوية , حصة السنة , وكذلك الشمال العراقي اصبح جغرافية وسلطة وثروات وهوية  , حصة الأكراد , ولم يبق من الهوية العراقية المشتركة الا كذبة على السنة المدعين من المسؤولين الجدد .

هنا تراجعت الهوية الوطنية , وحتى في الخارج , عندما يعلم مواطني دولة لجؤناالسياسي على اننا عراقيون , لا يعنيه الأمر كثيراً فيسأل ” هل انت شيعي ام سني ام كوردي ” تماماً كما يسأل المواطن الأفريقي , ان كان من شمال افريقيا او جتوبها , من السودان مثلاً او من نيجريا او الجزائر , هذا هو العراق الآن ومن يدعي غيره يكذب وينافق عليه . 

انشطر العراق الى ثلاثة هويات فرعية, كل منها منشطرة من داخلها الى شرذمات , جعلت من العراق محميات اومجمع مزادات يستطيع فيه الوكلاء والدلالين بيع وتأجير اجزاءه من سيادة وثروات وجغرافية ومستقبل اجيال .

مسلسل الأزمة الأخيرة , التي اخرجت فصولها في عواصم , ومثلها اطراف محلية , والتي وصلت فيها الأمور حد كسر العظم او ( هكذا كان يبدو ) انتهت كالعادة , بمصالحا وتوافقات وتقاسمات على حساب الوطن والمواطن .

الرأي العام العراقي , الذي لا يساوي في نظر اطراف اللعبة , زيارة مفاجئة لنائب الرئيس الأمريكي او اي مسؤول آخر , ولا تتعامل معه حكومة الشراكة , الا كونه كومـة ارقام لأصوات ترمى في محرقة الأنتخابات القادمة , توزع رمادها قوى الأختراقات والتدخلات الدولية الأقليمية , وعبر عملية تزوير متطورة , يستلم كل طرف حصته ثم تغزل منها ثوب الشراكة ( الوطنية !!! ) ليرتديه العراق ( مضحكاً )  , هنا يعاد كسر ظهر المتبقي من ثقة المواطن ( الناخب ) بمن تعاملوا مع ثقته وتضحياته , لافتات لشرعنة الأشياء المخجلة .

في مقالة تحت عنوان ” اتفقوا على تطبيع التمييز ضد عرب العراق ” , اشتكى الأستاذ الكاتب صائب خليل , لا ابالية الرأي العام العراقي وسلبية ردود افعاله ازاء الأخطار الجدية التي تهدد كيان دولته وهويته وشرذمة مجتمعه ثم اقتسام وطنه اسلاباً , مثل غيري , اتفق معه واعيد شكواه , لكن بذات الوقت اوكد له , ان الثوب العتيق المتهري لا تنفع معه رقعة نتوهمها جديدة , وان اسمال العملية السياسية لا تصلح ان تكون ثوباً لعراق نفترضه جديداً , فجميع الأطراف , اشتركوا واندمجوا وذهبوا بعيداً في لعبة تقديس تجهيل الناس واستغفال الرأي العام , وهي الآن تستعين بالمتراكم من الموروث البعثي مع اضافة توابل الأيديولوجيات الخاصة للتنكيل بالعراق شعباً ووطناً , ومحاولة اغتصاب المتبقي من عافية الرأي العام العراقي .

الذين امتلكوا القوة الخارقة للسلطة والمال والجاه والأعلام وعقائد وايديولوجيات تحتقر العقل والوعي والمعرفة ولا تؤمن بقوانين التغيير والتحديث , تمارس الآن سياسة تجهيل واستغفال الرأي العام عبر تدمير الموروث الحضاري للقيم والمباديء والتقاليد والأعراف الحميدة للمجتمع العراقي . 

الوطن بمواطنيه , يدفع به الآن نحو الهاوية المفجعة , وتصفية الهوية الوطنية والهويات العريقة للمكونات الأخرى , مرت على اجساد الملايين من الضحايا , شهدا وارامل وايتام ومعوقين ومشردين , وحفرت بشاعات في ذاكرة العراقيين وستتوارثها اجيال بريئة , هنا على المخلصين , سياسيين كانوا ام مثقفين , مراجع اجتماعية ودينية ورموز حركة جماهيرية مؤتلفة داخل منظمات مجتمع مدني , عليهم جميعاً ان يضعوا صدق الأنتماء والولاء في اولويات مقدساتهم , ويتجنبوا الأختباء في زوايا الترقب السلبي , او ان يكونوا خارج عملية تحرير العقل العراقي وارادة الرأي العام , انها المهمة التي تواجه كل شريف صادق مع نفسه يمتلك ضمير الولاء لوطن تحاصره قوى الردة البغيضة , ومع ان الأمر لا يخلو من المخاطر والتضحية في مواجهة قد تكون غير متكافئة مرحلياً , لكن وفي جميع الحالات , تبقى جذور القضية العراقية راسخة في عمق بيئة المشروع الوطني العراقي .

الوعي العراقي , المرتبط بشريان التاريخ الحضاري والمشحون بالتجارب والعبر , ومهما كانت التراجعات والأنتكاسات , سيضع العراق وطناً على سكة مستقبله ” ولا يصح الا الصحيح ” .

[email protected]