تتخذ جميع الدول و التجمعات البشرية دون استثناء لنفسها علامة متفق عليها يطلق عليها اسم “العلم”, تكون لها رمزية بوصفها المعبر عن سيادة الدولة من الناحية السياسية و على هوية المجتمع و ثقافته و حضارته من الناحية الاجتماعية. فنجده مرفوعا في جميع أراضي الدولة ومؤسساتها الرسمية. و ذات الوقت ترفض الدولة رفع أي علم أخر دونه , استثناءا السفارات الأجنبية و سياراتها التي تعد جزء من سيادة دولة السفارة, فحيثما نجد العلم مرفوعا نجد دولته موجودة.
في العراق لم يتفق شعبه بعد على علم موحد, على الرغم من اتفاق البرلمان الاتحادي عليه . ففي كردستان علم اصفر و في المناطق الغربية علم بنجوم أما الفرات الأوسط و الجنوب ….علم بدون نجوم و هو العلم الذي اقر في البرلمان.
إن هذا الاختلاف له دلالة هامة . فمن الناحية السياسية و وفق الآليات الدستورية اقر العلم العراقي داخل البرلمان, أما على الأرض نجد ثلاثة أعلام موزعة على العراق مناطقيا. في المناطق السنية على الرغم من وجود العلم الرسمي في مؤسسات الدولة, إلا انه من الناحية الجماهيرية كما بينت المظاهرات الأخيرة انه علم غير معتد به. و المنطقة الكردية لاوجود للعلم العراقي إلا ما ندر. نتج ذلك عن اختلاف أهداف المكونات العراقية الرئيسة, السنة , الشيعة, الكرد. مفادها أن السنة على المستوى الجماهيري لازال غير مقتنعا بعملية التغير الحاصلة عام 2003 و ما آلت إليه من تغيير سياسي يعدها غير منصفة و مهمشة له و أن عدم رفع العلم الجديد و الاستمرار بالتلويح بالعلم القديم ليست إعلانا لمشروع محدد بقدر ما تعبر عن رفض الواقع الجديد . أما المناطق الشيعية فيرى جمهوره أن عراقا جديدا يتم بنائه يقوم على مبدأ أن السلطة لن تكون خارجهم باعتبارهم يمثلون أغلبية الشعب العراقي . أما الكرد ملتزما و مطالبا بما يصدر من البرلمان و الحكومة بقدر ما يحقق المشروع الكردي الهادف إلى بلورة الكيان الخاص به, و رافضا التطبيق لكل ما يتقاطع معه , و رفع العلم العراقي احدها.
في أي تغيير أو ثورة يكون العَلم الموحد الخطوة الأولى في اتفاق جميع القوى المشتركة ,و بعكسه عند رفع أعلام مختلفة فهذا يعني أن كل جهة لها متبنيات أخرى وأنها لاتتفق في المشروع و الايديولوجيا. من الندرة في العراق و من خلال مطالبات الكتل السياسية الممثلة لمكونات الشعب العراقي في البرلمان أن تتفق على قانون ما , و الاتفاق الوحيد الذي مر دون اعتراض من جميع البرلمانيين هو تحديد الرواتب و المخصصات الخاصة بهم.
في المظاهرات الأخير في المناطق الغربية تركزت على مطالب رئيسة تتمثل إلغاء المادة 4 من قانون الإرهاب و إلغاء قانون اجتثاث البعث و إعادة المفصلين من البعثيين و قوى الأمن المسرحة السابقة و إقرار قانون عفو عام مطلق, و هي مطالب مرفوضة بحسب المظاهرات التي خرجت في المناطق الشيعية وان كانت محدودة . و بالمقابل إصرار الكرد على تشريع قانون النفط و الغاز و المرفوض من قبل السنة و الشيعة, و عدم إدراج دفع مستحقات الشركات الأجنبية النفطية في إقليم كردستان للموازنة الاتحادية لعام 2013. و غيرها العديد من الأمثلة الأخرى التي تعزز القول الملخص من أن لكل مكون من مكونات العراقية له مشروعه الخاص و الذي عادة ما يتقاطع مع الأخر لذا نجد في معظم الأحيان عدم وحدة الخطاب بين رئاسة الوزراء و بين كل وزارة , إذ يصدر الوزير خطابه ليس بناءا على السياسة العامة التي يضعها رئيس الوزراء إنما وفق مشروع المكون و الكتلة المنتمي إليها , والحالة نفسها في تشتت خطابات أعضاء البرلمان.
هل أن العراق دولة حقيقية ليكون له علم موحد ؟ أم أن ذلك افتراض؟ . يتطلب تشكيل الدولة وجود امة لها نسيج مشترك , و من المؤسف أن العراق تحول إلى دولة عام 1921 قبل أن تتشكل تلك الأمة إذ بقي عبارة عن ثلاثة أمم, سنية , شيعية و كردية, لايجمعها مشروع موحد, و ما حدث عام 1921 تشكيل سلطة قاهرة فرضت أوامرها على جميع الأراضي العراقية, و كان العلم احد تلك الفروض, إلا أنها فشلت في جمع إرادات هذه الأمم الثلاثة . لذا بعد أن فقدت السلطة دورها القسري عام 2003 ظهرت ثلاثة أعلام لتعبر عن ثلاثة أمم بدل التعبير عن دولة .
من الصعب ووفق الظروف الحالية للعراق أن تتشكل فيه امة موحدة مادام الالتفاف تم على محورين هما عاملا طرد لتوحيده, الطائفية والقومية , فالكمونيين السني و الشيعي يعدان المذهب الهوية المعبر عنهما أما الكرد فواضح التمحور القومي لهم , إن اعتماد أيا من هذين العنصرين سيفشل في تكوين الأمة و من ثم الدولة, و التجارب التاريخية التي مرت بالعراق تؤكد أن أية محولة لتكوين دولة قومية أو دولة إسلامية لن تكون نتائجها غير الفشل, و ليس من العيب أن يلتفت العراقيون إلى تجارب الدول الأخرى المتعددة المكونات العرقية والمذهبية التي استطاعت بناء دولة مدنية معيارها المواطنة و أن يستلهم الحل للخروج بمشروع جامع كفيل ببلورة امة و تشكيل دولة توحيد جميع مكونتها, سيحتاج العراقيون خلالها إلى مدة غير قليلة من الزمن يفترش فيها مختلف الأطروحات لينتقي أفضلها نظاما بعدا عن الأساسيين الطائفية و القومية, عندئذ سنشاهد علما واحدا يرفرف بدلا من ثلاثة أعلام.