23 ديسمبر، 2024 6:12 ص

دولة المبادرات والحملات الوطنية

دولة المبادرات والحملات الوطنية

كلما سمعت باطلاق مبادرة لحل احدى اختناقات العملية السياسية الحالية في العراق، اتذكر حملات نظام صدام حسين (الوطنية) التي كان ينظف بواسطتها بعضا من احياء بغداد او يبني قصرا له هنا او استراحة هناك.
كنا  نقول ان تنظيف بغداد ليس بحاجة الى حملات وطنية ولا قومية ولا تقدمية ،انه بحاجة فقط الى عمل بلدي،مؤسسي ومنظم، فكان المحسوبون على ذلك النظام يزعلون، وكنا وقتها نموت خوفا من ان ينتقل زعلهم الى من هم اعلى منهم في المسؤولية الحزبية او الحكومية، فنتهم بالخيانة والرجعية ومعاداة اهداف الثورة، مع ان الامر لم يكن يتعلق بحملات تحرير القدس من البحر الى النهر، وانما بحملات تنظيف بغداد فقط.
اليوم وحيث يسير الحكوميون الجدد على خطى اسلافهم الحكوميين السابقين؛ فان المبادرات اصبحت بمثابة عبوات المحلول المغذي الذي تعيش عليه العملية السياسية لفترات معينة، ثم مع انتهاء مفعول كل مبادرة نسمع شهقات موت جديدة لهذه العملية، مصحوبة بالتهديد والوعيد؛ تارة بالحرب الطائفية، تارة اخرى بالعودة الى (المربع الاول!)، والى اخر الموال الذي  حفظه العراقيون عن ظهر قلب ،على الرغم من انه غالبا ما يشفع برشقة من الانفجارات التي تحصد ارواح العشرات من الابرياء في الشوارع والساحات العامة من دون ان يتحمل المهددون مسؤولية هذه المجازر، كأن الجميع متواطئون على ذبح هؤلاء الابرياء فداء لمسيرة العملية السياسية العرجاء.
ان الاوطان والتجارب السياسية الناجحة لا تبنى بالمبادرات المكررة والمعادة، مثلما لا تنظف شوارع المدن بالحملات.. فالامر في الحالتين بحاجة الى عمل مؤسسي منظم ..فالتجارب الناجحة تستند الى اساس متين من الاتفاق السياسي على شكل الدولة وطبيعة الحكم وآليات عمل المؤسسات، يتم في وقت لاحق صياغة هذا الاتفاق نصوصا تشكل بمجملها دستور الامة، وليس دستور الفرقاء المرحلي والمفتوح ليس على التغيير فقط، وانما على الجدل العقيم الذي ادخل لجنة التعديلات الدستورية موسوعة غينيس للارقام القياسية باعتبارها أسن لجنة برلمانية مؤقتة في العالم.
 
لقد شبع العراقيون اختناقات،وما عادت مبادرات البارزاني والطالباني والحكيم والجعفري …الخ، قادرة على بعث الحياة في جسد العملية السياسية التي باتت في حالة موت سريري؛ لا تنتج شيئا سوى صفقات التسترعلى هذا المفسد او ذاك الارهابي..انها دعوة مخلصة الى جميع المنخرطين في عملية قيادة الدولة الآن لان يرفعوا انابيب التغذية عن هذا الجسد المسجى، فاكرم الميت دفنه وتحويل اوراقه الى الارشيف الوطني ليترك التأريخ قراءته والحكم عليه.
 ان الوفاء لدماء الشهداء يتطالب الوثوب الى اعادة صياغة المشهد والبدء ببناء الدولة على اسس سليمة لتكون دولة ديمقرطية حقيقية وليس توافقية وحلبة للابتزاز السياسي؛ دولة قادرة على كبح جماح المفسدين والطامعين من اشباه المسؤولين الذين تسللوا الى المناصب تحت جنح الظلام البريمري..ولا باس ان نستعير من شرطة المرور ليس اصرارهم على ربط حزام الامان في زمن اصبح فيه الهروب السيارة احيانا غنيمة وطوق نجاة.. ولكن حكمتهم التي تقول ان تصل متأخرا خير من ان لا تصل ابدا!