لعل دلالة الموضوع وراهنية طرحه تحيل المتابع الى حزمة من البداهات النظرية ، وتفصح عن جملة من التداعيات العملية ، وتشي عن كتلة من الترابطات الاجرائية ، التي تخترق الحقل الاجتماعي / السياسي أفقيا”وعموديا”، بحيث يبدو وكأن الحديث فيه وحوله لا يعدو كونه مجرد تكرار لبعض الطروحات الرائجة والتصورات المألوفة ، أو انه – في أحسن الأحوال – تحصيل حاصل لماهية العلاقة الملتبسة بين حق القوة (السياسة) وبين قوة الحق (القانون) ، التي نعتقد أنها أشبعت على مدى عقود من السنين بحثا”ودراسة . والواقع ان الأمر يبدو كذلك فيما لو استهدف البحث مجتمعا”افتراضيا”ينعم بأسباب السكينة الاجتماعية ويتسم بطابع الاستقرار السياسي ، بعد ان استوطنت عناصر الأمن ربوعه ، وغزت مظاهر العمران ميادينه ، ووسمت عوامل التطور أفاقه . اذ ان شروط هذه وظروف تلك لا تستكمل الا في ظل دولة قوية وقانون حازم . بيد أن غايتنا في هذا المقام تتطلع الى معالجة هذه المعضلة ضمن اطار مجتمع واقعي (العراق نموذجا”) تقوضت أركان دولته ، وانتهكت ثوابت وطنيته ، وتشظّت مقومات وحدته ، واستبيحت حرمة قيمه ، ومسخت معالم ثقافته ، وأهدرت شواهد تاريخه . وهو الأمر الذي يستلزم طرح المسألة من منظور مختلف وتصور مغاير ، يأخذ بالاعتبار جسامة المنعطف التاريخي الذي سيق اليه وحشر فيه من جهة ، ويراعي ، من جهة أخرى ، الطابع الدراماتيكي للأوضاع السياسية والاقتصادية التي يمر بها ، والمآزق الأمنية والاجتماعية التي زجّ في أتونها . ذلك لأن الخيارات المتاحة أمامه محدودة ، والفرص الممنوحة له شحيحة . فأما أن يبادر أبناء هذا المجتمع الى استثمارها على وفق مبادئ الواقعية السياسية التي تضع المصالح الوطنية العليا فوق أي اعتبار آخر ، لكي يثبتوا للعالم من خلالها قدرتهم على تجاوز أزماتهم المتفاقمة ، ويراهنوا على جدارتهم في ترتيب أوضاعهم الشائكة ، ويدللوا على أرجحيتهم في ادارة شؤونهم بأنفسهم ، دون الاستعانة بوصاية اقليمية أو يرهنوا ارادتهم تحت أية تبعية دولية . وأما أن يظهروا عجزهم وتشتت شملهم ازاء تبني أفضل تلك الخيارات وأنسب تلك الفرص ، التي يفترض انها تتيح لهم امكانية التغلب على محنهم المتراكمة ، وتعينهم على النهوض من كبواتهم المتواصلة ، ويميطوا اللثام ، بالتالي ، عن قصور وعيهم وقلة حيلتهم حيال التحديات المصيرية التي ما فتأت تعصف بحاضر وجودهم ، وتتربص بمستقبل أجيالهم وهنا تتجلى حكمة ما قاله الفيلسوف الالماني (كارل ماركس) من قبل (( ان الحروب تمتحن الأمم ، وكما تتناثر المومياء فور تعرضها لمفعول الجو ، كذلك الحرب تصدر حكمها على الأنظمة الاجتماعية التي فقدت قدرتها على البقاء )) . فهل يا ترى نستوعب الدرس ونتعظ بالفجيعة ؟! . ولأجل أن نتوصل الى جوهر القضايا المتعلقة باشكالية العلاقة المفترضة بين ما بات يعرف ( دولة القانون ) أي الدولة الوطنية من جهة ، وبين ( قانون الدولة ) أي الدستور من جهة أخرى ، وانعكاس ذلك على المسار الديمقراطي المزمع وضع خطواتنا الأولى على اعتابه من جهة ثالثة ، فقد آثرنا اعتماد ومناقشة المحاور الرئيسية التالية :-
• في العلاقة بين الدولة والقانون .
• قانون الدولة وشرعية السلطة .
• اشكالية الدستور والخيار الديمقراطي .
أولا”- في العلاقة بين الدولة والقانون :
لعل من أبرز معطيات التجربة التاريخية انه في ظل استفحال الأزمات الاجتماعية ، وتفاقم معدلات الاضطراب السياسي ، وحدّة انحسار وتلاشي الغطاء الأمني ، لا مهرب من مواجهة حالات اضطراب الوعي الجمعي ، وتشوش الرؤية الواقعية ، واختلال المعايير القيمية ، بحيث تفقد الاشياء مسمياتها والعلاقات أهميتها والأحداث مصداقيتها ، ويمسي هاجس البحث عن صيغة عاجلة تمنع التدهور وتقمع الانفلات هي الفيصل المفضل للنأي بالمجتمع عن المصائب القائمة ، وتأمين نجاته من الكوارث المحتملة ، دون أن يتاح – على وفق هذه الوتيرة من التداعي – لبقية المقومات الضرورية والعناصر المهمة في البنية الاجتماعية أن تأخذ حصتها وتمارس دورها في ضبط آليات النسق السياسي المتأزم ، بغية الحيلولة دون انزلاق أطرافه السياسية صوب التصادم ، وانحراف تكويناته القومية والطائفية نحو الاحتراب ، ومن ثم التسبب ، في اضاعة فرصه وتقليص خياراته ، للتخلص من ركام مشاكله وتجاوز حصيلة معاناته . وهكذا على ايقاع مثل هذه الظروف ينبري البعض ، ممن يخشى مشاهد الفوضى وتروّعه دوامات الاصطراع ، الى تسويغ فكرة ان فرض سلطة القانون وتعويم أحكامه ، لاسيما القانون الأساسي / الدسنور باعتبار انه يشكّل ذروة القواعد القانونية بشقيها الوضعي والعرفي ، ينبغي أن تسبق في الأهمية أية مساع أخرى تهدف الى ترميم كيان الدولة المتداعي ، وتفعيل سلطان سيادتها المهمشة ، فضلا”عن ضخّ المنشطات اللوجستية في أوصال مؤسساتها المدمرة . وذلك بدافع من اعتبارين ؛ الأول ويعكس وجهة نظر الأقلية التي تتحلق حول مبادئ الفقه التقليدي المعبّرة عن طروحات نظرية العقد الاجتماعي التي تنص على ان ((= الدستور – بحسب تصور فلاسفة القرن السابع عشر والثامن عشر – عقد اجتماعي أو هو تحقيق للعقد الاجتماعي ، أي ان الدستور هو بلورة للعقد الاجتماعي ، أو ان العقد الاجتماعي يتبلور ويتجسّد في الدستور . وبما ان الدستور هو العقد
الاجتماعي ، أو هو الصورة الملموسة ، أو التحقيق الفعلي للعقد الاجتماعي ، فيترتب على ذلك ان الدستور هو الذي يخلق أو ينشأ الدولة )) . هذا في حين يعبر الثاني ؛ عن وجهة نظر الغالبية من القوى السياسية الطارئة والحركات الهامشية التي تعتقد أو هكذا يبدو لها في اطار منطق الغلبة وأخلاقيات المساومة ، ان الدستور يعتبر بالنسبة لها الوسيلة المثلى لاختراق الصفوف وخلط الأوراق واعتلاء الموجة ، بعد أن ثبت لها بالتماس مع الواقع ان خطابها السياسي يفتقر لأية أصالة فكرية ، كما انه لا يمتلك عمقا”مبدئيا”في مضمار المشهد الوطني وما يتمخض عنه من تداعيات على المستويين الاقليمي والدولي ، فضلا”عن ضحالة مضامين برامجها الاجتماعية والاقتصادية ، وعقم تصوراتها المستقبلية عموما”. ومع انها بمقاييس الثوابت الوطنية والمعايير المبدئية تبدو بعيدة كل البعد عن نبض الشارع وغريبة عن هواجسه ومعارضة لطموحاته ، فان ذلك لا يمنعها ولا يحول دون أن تستمرأ اللعبة وتستهويها المحاولة ويستدرجها الانخراط ، فتندفع بكل عنفوانها المعبأ بالمطامع الفئوية والمغانم الجهوية ، لتعلن تمسكها بخيار المراهنة على الدستور بأي ثمن كان ، ليس لأنه يقنن حق المواطنة ويضمن حقوق الأقليات ، ويرسم الحدود بين السلطات والصلاحيات كما يراد منه ويعول عليه ، ولكنه – بتصورها – يتيح لها فرصة التسلل الى مراكز السلطة الشاغرة ، ويفتح أمامها أبواب الثروات المرتقبة . ذلك لأنه في ظل انعدام كامل للسلطة المؤسسة (الدولة) ، وغياب مطلق للوعي الوطني ، وفقدان شامل لروح المسؤولية ، تشرأب النوازع اللامشروعة وتنمو التطلعات المشبوهة . واذا ما نظرنا الى الموضوع من زاوية موضوعية صرفة ، فاننا سنجد ان الدافع لاقامة الدولة الوطنية ، وتأهيل مؤسساتها وتنشيط سلطاتها ، على نحو يفي بالمتطلبات الحيوية للمجتمع ويضمن أمنه ويصون سلامته ، هو ما ينبغي ويجب أن يحظى بالأولوية من لدن التيارات السياسية الوطنية وينال القسط الأكبر من اهتمامها ، ليس لأنه من الوارد قيام دولة من دون توفر مشروعية دستورية تبرر سلطتها وتدعم مركزيتها كما في بعض التجارب ، لأن القانون الدستوري يفقد معناه وتضمحل قيمته وتتلاشى ضرورته ، طالما أنه ليس هناك سطة مؤسسة / دولة تسنّ قواعده وتضع أحكامه وتلزم الأطراف المعنية فيه على احترام بنوده ، وانما لأن نشأة الدولة كما يرى البعض (( تتم في عالم الوقائع ، في عالم (ماهو كائن) بعيدا”عن عالم (ما يجب أن يكون) أي عالم القوانين ، بل لا علاقة لها بهذا العالم . وعليه فمن الخطأ تصور ارجاع نشأة أو ولادة الدولة لعلاقة قانونية معينة كالعقد )) . ومن هذا المنطلق فان دعاوى المطالبين بالاسراع لتفعيل مواد الدستور العتيد والشروع الفوري لتنفيذ بنوده ، لا ينبغي أن تنسينا المهمة الملحة في اطار ظروفنا الوطنية الحرجة والمتمثلة باقامة (الدولة) كضرورة قصوى ، لمجرد ان الدستور يشكّل اطارا”مؤسسيا”يحدد كيفية توزيع السلطات ويجسّد آلية ممارسة الصلاحيات ، لكي يقال ان المجتمع (= العراقي) دخل مرحلة التعددية السياسية وتهيأ لبلوغ سن الرّشد الديمقراطي فالديمقراطية كما هو معروف ، سواء بصيغة مؤسسات أو ممارسات ، لا يقيمها الدستور كوثيقة – رغم أهميته في هذا المجال – بل ان المعوّل عليه في هذه المسألة الحيوية منوطة بالسلطة المؤسسة (دولة القانون) التي ما أن يكتمل نصابها وتستعيد هيبتها حتى تجعل القوانين الوضعية نافذة المفعول على مستوى الاقليم الوطني برمّته ، ولازمة الطاعة والاحترام على صعيد المجتمع بكلّيته ، باعتبار ان قواعد القانون الدستوري – كما ورد في مقال أستاذ الفقه الفرنسي السابق / جورج سيل 1878 – 1961 ((هي بالأحرى قواعد توازن سياسي أكثر من كونها أساسا”للمشروعية )).
ثانيا”- قانون الدولة وشرعية السلطة :
برغم ان مقولة الدولة لا تخضع للمقاييس التجريبية الملموسة بحكم طابعها المجّرد ، فان ذلك لا يمنع الاستدلال على وجودها والتحقق من آثارها ، من خلال تفحّص نمط السلطة التي تمارسها وتعيين مستوى الهيمنة التي تفرضها في مضمار علاقات القوة التي تنشأ بين أطراف العملية السياسية ، ضمن صيغة معينة من توازن المصالح وتكافل الغايات . بمعنى ان تمظهرات فعل السلطة وتجليات خصائصها في ميادين الحياة الاجتماعية ، هي التي تسبغ على هلامية مفهوم الدولة ملامحه الاجرائية ، وتجعل منه تصّورا”قابلا”للفهم وكيانا”ماثلا”للتحليل ، أي ان ذلك لا يستوعب مجمل أوالية هذه العلاقة ويستنفد كثافتها . فمع ان السلطة هي المظهر المادي والتعبير المباشر للدولة ، فضلا”عن كونها الخاصية الأبرز على طبيعتها ، فأنها لا تلبث أن تتحول عند غياب معالم الدولة وتآكل رموزها الى مجرد مظهر من مظاهر السلوك الاجتماعي الأولي / البدائي القائم على اعتبرات ؛ الرمز الديني ، أو الجاه الاجتماعي ، أو المقدرة الاقتصادية ، أو النفوذ الوظيفي ، أو الحضوة العشائرية . فمن خلال الدولة – كما يرى أستاذ علم السياسية (جورج بوردو) – (( ترتدي السلطة سمات لا نجدها خارجها ، اذ ان طريقة تجذرها في الجماعة يعطيها خاصية تنعكس على وضع الحكّام ، كما ان غايتها تحرّرها من تعسف الارادات الفردية ، وممارساتها تخضع لقواعد تحدّ من خطرها )) . ولكي تمتلك الدولة سلطة كافية وفعّالة ، تتيح لها وضع ارادتها – التي هي ارادة القوى السياسية الماسكة لزمامها – موضع التنفيذ على نحو لا يخلّ بحقوق المواطنين ويهدر كرامتهم ، لابد أن تحظى بالقبول وتنال الرضى من لدن غالبية التيارات الاجتماعية التي يتشكّل على وفق علاقاتها التضامنية كيان المجتمع ، أي يجب أن تصبح السلطة التي بحوزتها سلطة شرعية . وبهذا المعنى قد نواجه بسؤال مفاده ؛ هل ان (شرعية) السلطة المؤسسة تبيح لنا تصنيف الدولة التي من هذا الطراز علة أنها (دولة قانون) أم
ان هناك معايير أخرى يقتضي مراعاتها عند اجراء مثل هذا التوصيف ؟ وقبل أن نتطرق الى الاجابة عن سؤال كهذا ، حريّ بنا أن نعي مسبقا”الفارق بين نمط الدولة (الشرعية) من جهة ، وبين نظيرتها الدولة (المشروعة) من جهة ثانية . ففي الحالة الأولى تكون الدولة محط قبول ورضى الغالبية العظمى من المواطنين ، طالما انها تنسجم مع التصور المراد لها أن تكونه في المخيال الاجتماعي ،لاسيما في اطار بلورة الرغبات المكبوتة وتحقيق الطموحات المقموعة . أما (المشروعية) في الحالة الثانية ، فانها تتمخض حين ترهن الدولة أنشطة مؤسساتها وتؤطر فاعلية أجهزتها على وفق متطلبات القواعد القانونية الواردة في وثيقة الدستور وسواها من القواعد والأعراف الأخرى . ومن دون الدخول في ايراد التفاصيل وضرب الأمثلة لكل حالة على حدة ، فاننا نؤثر التوجه مباشرة صوب الاجابة على التساؤل بالقول ؛ ان من الصعب ، بل قل من المستحيل اقامة نظام ديمقراطي تعددي ، ناهيك عن انخراط المجتمع في بناء علاقاته البينية على أسس من التوافق والتجانس ، دون وجود دولة تتسلّح (بالمشروعية) المتكئة على شبكة واسعة ومتينة من الضوابط القانونية والسوابق العرفية التي يحكم نسيج عناصرها ويضبط ايقاع توافقها (القانون الدستوري) . اذ ان الدولة المقيّدة بالقانون والمؤطرة بالأعراف (المشروعية) لا تقيم علاقاتها مع أفراد المجتمع على أساس كونهم (رعايا) استطابوا جوّر العبودية في رحاب سلطانها المطلق وجبروتها المتعالي ، وانما من منطلق مبدأ (المواطنة) الذي يعدّ من أبرز ملامح المجتمع المدني وأنضج ثمار النظام الديمقراطي ، من حيث ان الاعتبارات الانسانية والقيم الحضارية تحتل مركز الصدراة في سلّم اهتماماته ، فضلا”عن كونها تمثل الركيزة الأساسية لمسوغات تطوره ودواعي تقدمه .
ثالثا”- اشكالية الدستور والخيار الديمقراطي :
طالما ان مبتغى السلطة المؤسسة هو عماد وجود الدولة الحديثة ، والباعث على شيوع ظاهرة التنافس السياسي والصراع الفكري بين الجماعات والحركات السياسية ، لأجل الامساك بأعنتها والسعي لحيازة مقاليدها ، فان المراد من (الدستور) في هذه الحالة ، ليس فقط كبح جماح الأطراف السياسية المدفوعة بسائق مصالحها الحزبية والفئوية الضيقة من اللجوء الى سبيل العنف لنيل مآربها وبلوغ أهدافها – بصرف النظر طبعا”عن طبيعة تلك المآرب والأهداف – واجبارها على التخلي عن مساوئ نهج التطرف ، والاقلاع عن سلبيات رفض الآخر ، والقبول من ثم بأصول وقواعد العمل السياسي الديمقراطي فحسب ، وانما لتحقيق أقصى قدر ممكن من توازن القوى وترتيب السلطات بين سائر عناصر المجتمع السياسي من جهة ، وتجسيد أفضل صيغة من صيغ التوافق والتعايش بين مختلف مكونات المجتمع المدني من جهة أخرى . بيد انه في ظل مجتمع أدركته عوامل التفكك ، واستدرجته نوازع الانفصال ، واستبطنته رموز الثقافات الفرعية ، على خلفية شائكة من التعددية الاثنية والتنوع الطائفي ، وفي ضوء غياب سلطة حقيقية تعكس طبيعة ألوان فسيفسائه ، وتستوعب فرشة أطيافه ، وتمثل ذروة مصالحه ، وتبلور نمط خياراته ، يغدو الحديث عن الدستور بمثابة اعادة انتاج لاشكاليات سياسية وأمنية متوارثة لا حلّ لها . فالدستور من حيث كونه (قانون) يحتاج الى سلطة تسنّه وتفرض ضوابطه ، فان هذه الأخيرة ستعجز عن النهوض بهذه المهمة العسيرة ما لم تكن مؤسسة على وجود دولة قوية تحظى بالهيبة السياسية وتفوز بالطاعة الاجتماعية ليس بالمعنى الذي وردت فيه عند الفيلسوف الفرنسي (شوبنهور) الذي رأى ان فكرة الدولة هي بمثابة (( اللّجام الذي يهدف الى منع عدوانية هذا الحيوان الضاري الذي هو الانسان )) ، بل وفق تصور كونها (دولة قانون) تقيم حدودها وتمارس سلطانها بوحي من مبادئ العدالة في توزيع الثروة الوطنية والمساواة في تقسيم السلطة السياسية ، متحولة بذلك من (حيازة فردية) تمجّد الأفراد وتعظّم الأشخاص الى (رمز وطني) يستقطب ولاء المجتمع بالكامل ، بحيث تكون مبعث اعتزازه وعنوان فخره . وعليه فان (( الدولة – كما يذكر (جورج بوردو) في كتابه الموسوم : الدولة – تصبح السلطة مؤسسة ، بمعنى انها تنتقل من أشخاص الحكّام الذين لم يعودوا يملكون منها سوى الممارسة ، الى الدولة التي تصبح من الآن وصاعدا”المالكة الوحيدة للسلطة )) . ومن منطلق هذه الرؤية التي تبدو متشحة بالتشاؤم والأفكار المكللة بالعجز ازاء مستقبل الدستور ، وفي ظل واقع تأجيل الحديث عن ضرورة اقامة الدولة الوطنية ، وتعطيل الجهود الرامية الى اصلاح كيانها المخترق ، هل يبدو مقبولا”، بل قل مشروعا”، التخلي عن خيار الديمقراطية كنظام سياسي يعالج أمراض مجتمعنا المزمنة ، ويجتث زؤان قيمه البالية ويلطّف غلواء نوازعه المتخلفة ؟ . الواقع اذا ما انطلقنا من وحي التجربة المريرة التي كان ثمنها حرية الشعب وكرامته ، فضلا”عن نزيف دمه وهدر آدميته ، طيلة عقود ثلاث ونيّف من السنين العجاف ، وفي ضوء جسامة الجرح الوطني الذي ما برح ينزف مدرارا”، وعلى وقع التحركات الاقليمية والدولية المحملة بالأطماع والممزوجة بالمخاوف ، فانه لا خيار لشعبنا المغلوب على أمره ، اذا ما أعتزم الخروج من هذه المحنة وتناخى للتخلص من هذه البلوى ، وتملكه أمل التطلع صوب المستقبل الذي يليق به والحياة التي يستحقها ، سوى التمسك بالنهج الديمقراطي والعضّ عليه بالنواجذ ، والتعويل على ما يتيحه من خيارات متعددة وما يقدمه من فرص كثيرة . اذ من دون (( الانتقال الدستوري – كما شخّص الباحث ( علي خليفة الكواري) – الى الديمقراطية لا ينتظر من حكم الغلبة والوصاية أن يسمح بانضاج الظروف التي تساعد على امتلاك الشعوب مصادر المشاركة السياسية الفعّالة ووسائلها .. ولذلك فأن الانتقال الدستوري المدعوم بتوافق رموز الفكر والعمل السياسي الى الديمقراطية ، مهما
كانت أسبابه ودوافعه ، هو أمر حاسم في الانتقال الى الديمقراطية وبدء عملية التحوّل الديمقراطي والانتقال تدرجا”من شكل الديمقراطية الى مضمونها ، بواسطة النضال الديمقراطي الذي يوفره الانفتاح السياسي وسقوط دعاوى الوصاية على الناس )) . وهكذا يتضح انه برغم أن الممارسة الديمقراطية هي الاطار الأمثل لحل اشكالية الدستور والتغلب على المصاعب التي تنشأ بسبب ضعف مقومات الدولة وهزال مؤسساتها ، فان ذلك لا يمنع من التأكيد على ضرورة أن تراعى أسبقية وجود دولة القانون (الدولة الوطنية) على صياغة قانون الدولة (الدستور) ، من منطلق : (( ان دراسة الدولة – كما يشير الاستاذ منذر الشاوي – يجب أن تسبق دراسة الدستور ، لأنه لا وجود للدستور الا بعد أن توجد الدولة . فلكي يوجد دستور يجب أن تكون هناك دولة ، أي ؛ تمييز بين الحكّام والمحكومين . وعليه فكل دراسة للنظرية العامة للقانون الدستوري يجب أن تتضمن دراسة نظرية الدولة أولا”، ثم دراسة نظرية الدستور ثانيا”)) ..