23 ديسمبر، 2024 7:01 م

دولة الرسوم المتحركة

دولة الرسوم المتحركة

تتميز أفلام الرسوم المتحركة بأنها لوحات من (الكاريكاتير) يتعرض جميع ما في اللوحة الواحدة منها، سواء كان ثابتا أم متحركا، لعبث خيال الرسامين.
وأنجح هؤلاء الرسامين هو الأكثر قدرة على قلب طبائع الأشياء، وإحداث تغيير غير معقول وغير منتظر وغير معتاد في قواعد الطبيعة. فيجعل للشجر والحجر آذانا وعيونا وألسنة، مثلا. أو يمنح البحر قدرة على أن يتحول إلى ملاك يرفرف بجناحين، أو إلى ذئب يجري وراء الفريسة، أو إلى فيل يجيد القفز والرقص والأكل والكلام.

وما يجري في العراق اليوم يدخل في خانة الرسوم الكاريكاتيرية المثيرة وعالمها اللامنطقي واللاأصولي واللامعقول. وسواء بدأنا من أول سقوط العهد الملكي، أو من أيام العراق الديمقراطي الجديد فلن نتمكن من مشاهدة جميع حلقات المسلسل الطويل، لأنها من كثرتها لا تنتهي.

1- في عام 1959 توجه (قطار السلام) من بغداد إلى الموصل حاملا دعاة (السلم العالمي) و(الديمقراطية) و(الاشتراكية) وهم حاملون حبالهم وسكاكينهم لذبح مدينة القوميين العرب المتمردة المعادية للسلم والديمقراطية والزعيم. وتعلمون ماذا جرى فيها في تلك الأيام الدامية. ثم يثور قائد موقع الموصل العقيد عبد الوهاب الشواف فتدك مواقعه العسكرية الحكومية طائرات الحكومة، وتقتله ومن معه، لأنه ارتكب الخيانة العظمى. وبالمقابل ما زال مؤيدوه ومحبوه إلى اليوم يحتفلون بيوم ثورته (الباسلة) ويسمونه (الشهيد).

2- في عام 1963 خرجت ثلاث طائرات من معسكر الحبانية لتدك وزارة الدفاع في بغداد، وبضع دبابات لتحتل مرسلات أبي غريب ومبنى الإذاعة في الصالحية، فيسقط الزعيم، ويعدم في ستوديو الموسيقى في الإذاعة، بتهمة الخيانة العظمى أيضا، وبجريرة إعدام ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري وخليل سلمان وعلي توفيق وعزيز احمد شهاب. وفي كل عام يحتفل محبوه ومؤيدوه ويهتفون باسمه، ويسبحون بشجاعته وشهامته ووطنيته ونزاهته، إلى اليوم.

3- وفي العام نفسه ينتفض الرئيس الذي نصبه البعثيون، عبد السلام عارف، ومعه البعثيون العسكريون ضد البعثيين المدنيين، وضد (فوضوية) الحرس القومي، ليعود البعثيون أنفسهم بعد خمسة عشر عاما ليُسقطوا النظان العارفي بدبابة واحدة، لا غير، وبالتفاهم والتعاون مع قائدين من أبناء قبيلة الرئيس كان قد عينهما لحمايته من المتآمرين.

4- ومشهد سقوط النظام نفسه مشهد كاريكاتيري عجيب. فصدام حسين وصلاح عمر العلي وأربعة من القياديين البعثيين المدنيين يقتحمون القصر الجمهوري بدبابة وفرها لهم آمر الحرس الجمهوري إبراهيم الداوود وسعدون غيدان قائد كتيبة دبابات حماية القصر الجمهوري، وبموافقة مدير الاستخبارات العسكرية عبد الرزاق النايف، وهو أحد أقرباء الرئيس، فيحملون الرئيس المسالم البريء إلى معسكر الرشيد، ويوضع على متن طائرة عسكرية، ويطرد من البلاد.

5- وفي أقل من شهر يغدر الرئيس الجديد أحمد حسن البكر ورفاقه البعثيون بحليفهم الأول الذي لولاه لكانوا جميعا (شهداء) مشنوقين بتهمة الخيانة العظمى، فيحيلونه على التقاعد من وظيفة وزير الدفاع التي لم يقضِ فيها سوى أسبوعين، ويلاحقونه في الأردن لاغتياله، فيهرب إلى السعودية، ويلوذ بصمته الطويل. ثم يغتالون حليفهم الثاني رئيس وزرائهم عبد الرزاق النايف في لندن، وتسجل الجريمة ضد مجهول.

6- وفي الحلقة الكاريكاتيرية التالية نشاهد صدام حسين، في تموز/ يوليو 1968 يقف وراء المهيب أحمد حسن البكر حاملا رشاشته لحراسة السيد الرئيس وهو يلقي خطابا في ستوديو التلفزيون.

7- وفي عام 1979 وإثر إعفاء (الأب القائد) أحمد حسن البكر من مسؤولياته، وفرض الإقامة الجبرية عليه، أصبح صدام حسين رئيساً للجمهورية العراقية، وأمينا عاما للحزب ورئيسا لمجلس قيادة الثورة، بحفلة إعدامات قاعة الخلد الشهيرة التي طالت ثلث أعضاء مجلس قيادة الثورة، وأكثر من 500 من الرفاق البعثيين، بتهمة خيانة الحزب والثورة.

8- وبعدها بعام واحد تندلع الحرب الدامية بينه وبين الخميني الذي تسلم السلطات كلها في إيران. وهذا وحده مشهد كاريكاتيري مثير. فالخميني كان معارضا للشاه، ومقيما في العراق لاجئا سياسيا، يوم كان العداء على أشده بين عراق البعث وإيران الشاه. وحين اصطلح صدام حسين والشاه في الجزائر عام 1975، وانتفى الغرض من وجود الخميني طردوه من العراق، ورماه رجال مخابرات صدام حسين على الحدود مع الكويت التي رفضت دخوله. وبقي أياما دون مأوى، ثم فجأة تمتد إليه يد الأم (الحنون) فرنسا (الرؤوم)، وتحمله إلى باريس، ضيفا معززا مكرما، وتعينه الحكومة الفرنسية على طباعة أشرطة الكاسيت الثورية وتهربها له إلى داخل إيران، فيسط الشاه ويعود الإمام مظفرا إلى إيران في العام 1978، ويصبح مالك السلطات كلها دون شريك، ثم يتسلم صدام الرئاسة بعده بعام.

9- ومن ينسى الحلقات الجديدة الكاريكاتيرية التي رافقت حرب الخميني وصدام؟. فالمعروف في تاريخ الثورات والمعارضات أن هناك معارضتين، معارصة الحاكم، وليس الوطن الذي يحكمه، ومعارضة الوطن وحكامه أجمعين. ولكن أحزابا عراقية ولدت وترعرعت في إيران، كانت تقاتل (وطنها) العراقي بحجة معارضة حاكمه الديكتاتور. وكان مسلحون تابعون لحزب الدعوة وفيلق بدر والمجلس الأعلى وحزب جلال الطالباني وحزب مسعود البرزاني يشاركون الجيوش الإيرانية في احتلال المدن والقرى العراقية، وقتل ضباط الجيش العراقي وجنوده، من أجل إقامة (عدل) الإمام الخميني بدل (ظلم) صدام حسين.

10- ثم يأتي بعد ذلك مشهد الأيدي المتشابكة، الأمريكية والإيرانية والسورية الأسدية، المتحدة المتآلفة المتفانية في رعاية المعارضة العراقية، من أجل إسقاط النظام الديكتاتوري وإقامة النظام الديمقراطي الجديد.

11- ثم يكون يومُ دخول الدبابات الأمريكية ساحة الفردوس يومَ تتويج حزب الدعوة وفيلق بدر وأحمد الجلبي وأياد علوي ومسعود وجلال ملوكا لطوائف الوطن المقسم المنهوب، لتبدأ حلقات مثيرة غير مسبوقة من أفلام الرسوم المتحركة العراقية التي لا تنتهي.

12- مسعود البرزاني (رئيسا) لإقليم كردستان العراق، ولكنه لا يرى بغداد في العام الواحد مرة، ولا يريدها إلا لكي تدفع أجوره، و(رسوم) بقائه تحت (راية) الدولة الواحدة الواحدة.

13- وجلال الطالباني رئيسا للعراق، وهوشيار زيباري وزيرا للخارجية ثم وزيرا للمالية. ومعصوم رئيسا بعد أن أصبحت رئاسة العراق من حصة حزب جلال ورئاسة كردستان حصة حزب مسعود ورئاسة وزراء الدولة حصة حزب الدعوة وحده دون شريك.

14- خمسمائة وخمسون جنديا مدججا بالسلاح لحراسة وزير المالية أثناء زياراته الأسبوعية لوالدته في أربيل. فكم هي حراسة معصوم؟ ومسعود؟ والمالكي؟ والعبادي؟ وسليم الجبوري؟ الله أعلم.

15- واحد جاهل، حاقد، متعصب طائفيا إلى أبعد الحدود، فاسد، متهور، اسمه نوري المالكي يصبح رئيس الرؤساء، ومدير المدراء، وسفير السفراء، وملك العراق المفدى. ويعجز القضاء والوزراء والمرجعية والشعب العراقي كله عن المساس بذيل عباءته المحمية بعصا قاسم سليماني. مشهد كاريكاتيري دمُه ثقيل لا يحتمل.

16- الدنيا كلها، محافظات الجنوب والفرت الأوسط، والمرجعية، وأمريكا، وسنة إيران، وسنة الحكومة، وسنة السعودية، وسنة الأردن، وسنة قطر، وسنة تركيا، أجمعين، يريدون حسابه على مئات ملفات الظلم والفساد، ولا يقدرون.

17- دولة يقودها هادي العامري وأبو مهدي المهندس وواثق البطاط، وتصبح فيها الكلمة العليا لمليشياتهم، لا للحكومة ولا للبرلمان ولا لرئاسة الجمهورية ولا للمرجعية

ولا للطائفة كلها التي انتجتهم وندمت على انتاجهم، ويعملون تحت قيادة قاسم سليماني، أليست فيلما كوميديا وتراجيديا من أفلام الرسوم المتحركة؟

18- ودولة يعترف فيها على الملأ، وفي مقابلة تلفزيونية، قاتلٌ بجريمته، ماذا تكون؟. واثق البطاط، الأمين العام لحزب الله العراق وقائد ميليشيا المختار، يعلن، متباهيا، ولا يخاف ولا يستحي، أنه هو الذي قصف معسكر “ليبرتي” بـ 80 صاروخ كاتيوشا، وهو الذي قتل وجرح من سكانه اللاجئين العزل العشرات، ولا تتحرك الدولة. لا رئيس جمهوريتها، ولا رئيس وزرائها، ولا وزير داخليتها، ولا برلمانها، ولا رئيس قضائها الأعلى، ولا مدعيها العام، وسوف تسجل الجريمة ضد مجهول، رغم اعتراف فاعلها، والاعتراف سيد الأدلة.

19- ودولة كاريكاتير تلك التي لا تجد من يخلف نوري المالكي، من كل ملايين أبنائها العباقرة، خبرائها وفرسانها ومفكريها وعلمائها وشعرائها وفنانيها، سوى واحد ضعيف خواف متخرج في خيمة حزب الدعوة إياه، ويأبى أو لا يحب ولا يستطيع أن يفعل شيئا لتبييض وجه الحكومة والمرجعية ويحقق للجماهير المنتفضة حتى أقل القليل.

20- وأية دولة تلك التي يصدر قضاؤها حكما قاطعا على وزير تجارة بجريمة الفساد والاختلاس وإساءة استخدام المال العام، ويأمر بحبسه، فيهرب تحت سمع شرطتها وقوات أمنها ومليشياتها؟

21- وأية دولة (موحدة) ولها (علم) واحد و(نشيد وطني) واحد يهرب وزيرها المحكوم بالسرقة إلى مدينة إلى مدينة أخرى من مدنها، من بغداد إلى أربيل، ولا تجرؤ، ولا تسطيع الحكومة استرجاعه منها؟

22- ودولة تعلن أن خزينتها خاوية، وهي تبيع نفوطا بمئات المليارات من الدولارات، وتستدين من الدول (المحسنة) لتأكل وتشرب وتحمي وزراءها من الاغتيال، أليست دولة كاريكاتير؟

23- وأخيرا. لأول مرة يتسامر العراقيون في صالونات منازلهم، ويعملون في مؤسساتهم ومدارسهم ومصارفهم ومستشفياتهم، وسيقانُهم في مياه الأمطار والمجاري. ولأول مرة يحورون صنايق القمامة ويجعلونها زوارق يتزاورون بها في الليالي المقمرة، ويشيِّعون موتاهم بالمجاديف، ولا يستقيل رئيس، ولا وزير، ولا نائب ولا خبير.

أليست هذه المشاهد العراقية الإعجازية المبتكرة الفريدة أغرب من كل ما أبدعه قبلنا خيال العظماء البارعين في صناعة أفلام الرسوم المتحركة وفنون الكاريكاتير؟