لم تكتمل بعد القراءة الواقعية والموضوعية لاعلان تنظيم مايسمى بالدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش)، دولة الخلافة الاسلامية ومبايعة زعيم التنظيم ابو بكر البغدادي خليفة لها، اذ مازال الوقت مبكرا للاحاطة بمجمل خلفيات ودوافع واثار ونتائج ذلك الاعلان المفاجيء.
بيد ان عدم اكتمال القراءة الموضوعية لايعني بأي حال عدم القدرة على التأشير الى طبيعة الظروف والمعطيات التي تقف وراء اعلان دولة الخلافة الاسلامية، على ضوء احداث ووقائع الفترة الزمنية المحصورة بين التاسع من شهر حزيران-يونيو الماضي، وهو اليوم الذي نجح فيه تنظيم داعش بالسيطرة على محافظة نينوى، والتمدد بصورة سريعة الى مدن ومناطق اخرى، وبين الثلاثين من ذلك الشهر، وهو يوم الاعلان عن دولة الخلافة.
تداعيات ماقبل الاعلان
فترة الاسابيع الثلاثة المشار اليها شهدت في واقع الامر وقائع مثيرة وسريعة في ايقاعاتها، وصعبة الفهم والتفسير في بعض من ابعادها.
فتنظيم داعش احكم قبضته على ثاني اكبر محافظات العراق-نينوى-في ظرف ساعات قلائل، في ظل تراجع وانهيار للقطعات العسكرية، مازال غير مفهوما بالقدر الكافي والمقنع، ونجح في التقدم الى صلاح الدين ومساحات من كركوك وديالى، ناهيك عن تواجده الواسع في الانبار، وبعضا من مناطق حزام بغداد، وكان واضحا- وهذا ما افصح عنه احد قياديه المدعو ابو محمد العدناني-ان هدفه الوصول الى العاصمة بغداد والسيطرة عليها، وبالتالي اسقاط النظام السياسي برمته.
وكما كان تقدم “داعش” مفاجئا ومباغتا في ظاهر الامر، فأن هذا التنظيم تفاجيء بفتوى المرجع الديني اية الله العظمى السيد علي السيستاني، بوجوب حمل السلاح ضد الجماعات الارهابية، التي اطلقها بعد اربعة ايام من بداية الازمة، وهذه الفتوى كان لها الاثر الكبير في تعديل ميزان القوى من خلال وقف تقدم الارهابيين، ومنح الجيش قوة اضافية مؤثرة، بعبارة اخرى ان الفتوى، فضلا عن اثرها على الارض، فأنها شكلت عاملا نفسيا ضاغطا على داعش، ومشجعا للجيش وعموم الجماهير.
ولعله كان واضحا ان مسار الوقائع والاحداث بعد الفتوى راح يتغير شيئا فشيئا في باديء الامر، ثم في وقت لاحق اخذ يبرز التغيير بصورة اوضح، بعدما بات “داعش” عاجزا عن احراز اي تقدم، ناهيك عن الاحتفاظ بما حققه من مكاسب على الارض.
ويشخص الخبراء والمختصون عنصرين اساسيين اكملا تأثير وفعل فتوى المرجعية الدينية، وهما سلاح الجو العراقي الذي شن مئات الضربات الجوية على اوكار وتجمعات الارهابيين، بحيث نجح في شل الجزء الاكبر من قدراتهم على التحرك، والعنصر الثاني، تشكيلات المتطوعين، الذين نجحوا في سد معظم الثغرات التي سببها تراجع وانهيار بعض القطعات العسكرية بدون مقاومة خلال الايام الاولى للازمة.
وفي ظل التطورات الميدانية، فأن العامل النفسي الذي عول عليه “داعش”، والمتمثل ببث الاشاعات والدعايات المثبطة لمعنويات الجيش العراقي، والمهولة لامكانيات وقدرات ذلك التنظيم الارهابي، عبر وسائل اعلام عربية مؤثرة مثل قنوات العربية والعربية حدث السعوديتين، والجزيرة القطرية، وعدد من القنوات الفضائية العراقية، الى جانب صحف ومواقع الكترونية وصفحات في مواقع التواصل الاجتماعي، في ظل التطورات الميدانية، راح العامل النفسي يفقد فعله وتأثيره، ليبرز مقابله العامل النفسي المضاد الذي نجحت جهات سياسية واعلامية حكومية وغير حكومية عراقية في العمل عليه بصورة مقبولة ان لم تكن جيدة.
الى جانب ذلك فأن تنظيم “داعش” وجد نفسه امام مشكلة كبيرة في محافظة نينوى التي احكم سيطرته عليها، تمثلت بتوفير اساسيات الحياة اليومية مثل الكهرباء والوقود والماء وغيرها، بعد غياب مؤسسات الدولة، وغياب الظروف المناسبة لاستمرار وتواصل النشاط الطبيعي بأوجهه واشكاله المختلفة، اضف الى ذلك، فأن الممارسات القمعية الارهابية بحق الشيعة والمسيحيين والايزيديين، وكذلك السنة الذين لم يبدوا تفاعلا وقبولا بداعش، فضلا عن منع مظاهر وممارسات اجتماعية عادية، مثل الجلوس في المقاهي، ومشاهدة مباريات كرة القدم، وخروج النساء، اوجدت ردود فعل سلبية وناقمة، وكرست الانطباعات والتقييمات السلبية المسبقة عن الجماعات الارهابية.
اكثر من هدف
في خضم هذه الاجواء والتداعيات، كان لزاما على “داعش” القيام بخطوة ما ليتحقق من خلالها اكثر من هدف في وقت واحد، الاول اعادة الروح المعنوية لعناصر التنظيم واشعارهم بأن زمام المبادرة مازال بأيديهم، والثاني خلط الاوراق واللعب بورقة العامل النفسي لارباك وضع الفريق الاخر(الجيش والمتطوعين)، والهدف الثالث، اطلاق رسالة الى مختلف التنظيمات والجماعات الارهابية العاملة في داخل العراق وفي خارجه، مفادها ان “داعش” مازال وسيبقى هو المحور، وان الميدان الذي يسيطر عليه هو الميدان الحقيقي لما يسمى بالجهاد.
واعلان “دولة الخلافة الاسلامية”، مثل الخطوة التي قدر قادة التنظيم، او قل الموجهون له من وراء الستار، انها الضرورية والمناسبة لاستعادة زمام المبادرة، ومواصلة الطريق للوصول الى الهدف النهائي، الذي افصح عنه احد قادة التنظيم الارهابي الذين تم اعتقالهم خلال التحقيق معه، بقوله “ان هدفنا هو تدمير مرقد الكاظم ومرقد ابو حنيفة”، وحينما سأله المحققون “ولماذا مرقد ابو حنيفة ايضا”، رد قائلا “لانه امام البدعة”!.
وقد لانذهب بعيدا، حينما نقول ان ذلك الاعلان لم يخرج عن نطاق الحرب الاعلامية النفسية، ولم يكن اصحاب الشأن “الداعشي” بحاجة الى الانتظار طويلا حتى يتبين لهم عدم جدوى تلك الخطوة، بل افرازها نتائج عكسية.
ففضلا عن ردود الافعال السلبية والرفض الداخلي لتلك الخطوة من قبل جماعات وقوى ارهابية، بعضها قريبة لداعش من الناحية الفكرية والعقائدية وبعضها بعيدة عنها، ولكن تشترك معها في هدف اسقاط النظام السياسي العراقي، كانت ردود الافعال صريحة وحادة في رفض الاعلان الداعشي لدولة الخلافة، من قبل تيارات واوساط وشخصيات سلفية متشددة، مثل تنظيم القاعدة بعدد من اجنحته في الاردن والمغرب العربي وسوريا، فضلا عن زعيم التنظيم ايمن الظواهري، وكذلك رئيس مايسمى الاتحاد العالمي الاسلامي يوسف القرضاوي، الذي وصف اعلان دولة الخلافة من قبل داعش بأنه باطل شرعا، واكثر من ذلك وصفها بـ”الخرافة”، وبنفس المعنى تحدث رئيس مايسمى بهيئة علماء المسلمين في العراق المقيم في الاردن حارث الضاري، وكذلك التيار السلفي في لبنان، وغيرهم.
ولم يكن موقف الازهر الشريف في مصر، الذي لايختلف اثنان في كونه يمثل احد اهم وابرز المرجعيات الدينية للمكون السني في العالم الاسلامي، مختلفا، ان لم يكن اكثر حدة، وفي هذا السياق يقول احد علماء الازهر، الشيخ علوي امين “أن جماعة داعش الارهابية صنيعة الاستعمار والاستخبارات الاميركية والغربية وغرضها تقطيع رقاب المسلمين وتفتيت الامة الاسلامية، وخلافتهم ليست خلافة المسلمين بل تقطيع رقاب المسلمين، وان من يدعم هذه التنظيمات هي دول ومخابرات دول عظمى تريد تفتيت الامة الاسلامية”.
الخطوة الاخرى!
ولان هزائم وانكسارت تنظيم داعش تواصلت، وبالتالي تبددت مكاسبه التي حققها على الارض –او جزء منها-ولان اعلان “دولة الخلافة الاسلامية” لم يأت اكله، ولان معلومات شبه مؤكدة تحدثت عن تعرض زعيم التنظيم ابو بكر البغدادي لاصابة خطيرة جراء غارة جوية على احد اوكار التنظيم في مدينة تكريت نقل على اثرها للعلاج في مكان اخر، وجد “داعش” انه لابد من الاقدام على خطوة اخرى علها تثمر عن شيء، وتمثلت الخطوة هذه المرة ببث تسجيل فيديوي يظهر البغدادي فيه وهو يلقي خطابا في احد مساجد الموصل.
وبصرف النظر عما اذا كان ذلك التسجيل صحيحا، او مثلما اكدت بعض المصادر بأنه مزيف، او مثلما شككت به مصادر اخرى، فأن ظهور البغدادي في هذا الوقت بالذات، اي بعد تداول المعلومات عن اصابته، من الصعب جدا ان يضيف شيئا مهما، سيما وانه في حال لم يتعرض لاي اذى حتى الان، وانه مازال في العراق، فأنه على الارجح سيلقى حتفه في احدى الضربات الجوية، التي ينفذ اغلبها وفق معلومات استخبارية دقيقة، وبالاستناد الى صور الاقمار الصناعية، ليلقى نفس مصير ابو مصعب الزرقاوي وبعد اسامة بن لادن وغيرهما من كبار عتاة الارهاب في العالم.
اضف الى ذلك فأنه على فرض ان الذي ظهر خطيبا هو ابو بكر البغدادي نفسه، ففي واقع الامر انه لم يأت بشيء جديد، والصورة السلبية التي رسمها اعلان دولة الخلافة في نفوس الكثيرين لم يكن بالامكان محوها عبر خطاب لايختلف من حيث الجوهر والمضمون عن الاعلان، ناهيك عن ان ظهور البغدادي بأعتباره خليفة للمسلمين من شأنه ان يثير حفيظة الجماعات الارهابية المسلحة ويزيد من حدة ردود فعلها لتترجمها على ارض الواقع بصيغة مواجهات مسلحة واقتتال داخلي، متوفرة ارضياته ومناخاته في العراق وقبله في سوريا، ولعل ملامحه ومعالمه ومؤشراته بانت واتضحت منذ وقت مبكر من اندلاع الازمة الاخيرة.
وربما يمكن اختصار الكثير من الكلام بالقول ان اعلان “دولة الخلافة الاسلامية” ومبايعة البغدادي خليفة للمسلمين، يعني بداية مرحلة جديدة من الصراع والاقتتال، وهذه المرة فيما بين الجماعات الارهابية نفسها قبل ان-واكثر مما-تكون بينها وبين الجيش والشعب.