يشهد العراق في هذه المرحلة الحساسة من تاريخه المعاصر تحديات كبيرة وخطيرة ، والنهايات التي يتنبأ الكثير بها تبدوا للوهلة الاولى عبارة عن منعطف حاد ذو منعرجين وخيارين احدهما يقود البلاد الى شفا الهاوية والضياع وهو ما يؤسس له منذ زوال الحكم البعثي الجائر الا وهو السقوط في براثن التقسيم والتمزيق والذي يكون محركه الصراع والاقتتال الطائفي ، والطريق الاخر هو تجاوز فخ المخططات الشيطانية التي أعدت للمنطقة عموما والعراق خصوصا من خلال الحفاظ على وحدة العراق وشعبه عبر حوار وطني بناء وهو الطريق الذي يتمنى المخلصون ان يكون المسار والخيار الاول والاخير لكل وطني غيور على عراق الحضارات وموطن الرسالات ومأوى الانبياء والائمة والصالحين .
أن أحدى أهم المشاكل التي نواجه تحدياتها في العراق اليوم هي ضياع الهوية الانسانية والوطنية التي تشكل العنصر الاساس في بناء ووحدة المجتمع والدولة ، فالتعددية الاثنية والدينية والطائفية والقبلية التي نشهدها في بلادنا لم يتم توظيفها بشكل إيجابي من قبل القيادات المتصدية على صعيدي الدين والسياسة لدى جميع القوميات والاديان والطوائف والعشائر ، بل أن السياسيين استطاعوا في سبيل السيطرة على مقدرات الدولة والهيمنة على مؤسساتها من تطويع ارادة وقرار تلك الاطياف الاجتماعية لصالح صراعاتهم المحمومة والمجنونة ، وبذلك تحولت تلك التعددية الى وبال يهدد وحدة العراقيين ومصدر قلق دائم لأمن البلاد حتى تحولت الساحة العراقية الى ساحة مصارعة مفتوحة لكل الخيارات بين حيتان الفساد والافساد والارهاب والفتنة ، وكان ضحية ذلك الصراع والحرب والفساد هو الانسان العراقي الذي أصبح سلعة وأداة وضحية بين الجلادين الكبار المجانين وأجندتهم الفاسدة والمتوحشة ، وأصبحت كرامة الانسان في العراق مهدورة ومذبوحة من الوريد الى الوريد .
من هذا الزاوية في الرؤيا كان رصدنا للخطاب الفاطمي الحادي عشر لسماحة المرجع اليعقوبي في النجف الاشرف والذي القاه وسط عشرات الالاف من انصار الصديقة الزهراء (عليه السلام) والذي حضروا لمواساة أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذكرى شهادتها ، فالخطاب الفاطمي لهذا العام جاء تحت عنوان (الكرامة المطلقة للإنسان) وتضمن محورا رئيسياً لمفهوم مهم وحاجة ضرورية باتت في مهب النسيان هي (كرامة الانسان ودولة الانسان) ومحاور ثانوية اخرى سوف نترك المجال لقراءتها في مناسبات اخرى ان شاء الله .
المرجع اليعقوبي في خطابه الفاطمي أشار وشخص الحالة المزرية التي يمر بها العراقيون والتي نشهد تجلياتها في مظاهر الظلم الكبير الذي يلحق بالشعب والذي يتعرض له الانسان العراقي اليوم نتيجة تسلط الاشرار والفاسدين على مقدرات الدولة واستئثارهم بثرواتها وحرمان ابناء هذا الشعب من كل مظهر من مظاهر الحياة الكريمة ، ويبين سماحته أن كرامة الانسان التي تتعرض الى الغمط والظلم والاهانة قائمة بسبب ابتعاد المتسلطين عن معالم العدالة والانصاف والكرامة الانسانية ، وبين سماحته كذلك الى المواصفات والخصائص التي تميز الحكم الالهي العادل الذي كرم الله تعالى عباده به وهو حكومة دولة الانسان التي تقوم على أساس المبادئ الانسانية العليا .
ومن خلال الآية القرآنية الكريمة ( ولقد كرمنا الانسان) أستدل سماحة المرجع على أن حقوق الانسان والتي في مقدمتها كرامته هي المعيار الأساسي لصحة وسلامة أي منهج متبع سواء كان ديني او مادي وأن صدقه يتمثل بسعيه وتقديمه وتفضيله لكرامة الانسان وحفظ حقوقه ، وبذلك يصل سماحة المرجع الى نتيجة مفادها أن (كرامة الإنسان هي فوق كل شيء) ، وهذا ما يؤكده الخطاب الالهي وما اقره الله تعالى وشرعه من خلال كتابه العظيم (القرآن الكريم) والذي يشكل الدستور الثابت للشريعة الاسلامية للإنسان من خلال الآية اعلاه وغيرها من الآيات الكريمة ، وبذلك يرى المرجع اليعقوبي أن (أي قانون أو تشريع يتعارض مع هذا الأصل أو يتنافى مع حقوق الإنسان التي وهبها الله تعالى لبني آدم يجب أن يُلغى أو يُعدَّل) ، وكذلك اكد المرجع اليعقوبي في خطابه من خلال هذه النتيجة على براءة الاسلام وديناً وشريعة من جميع مناهج التكفير والعنف التي تحاول ان تظهر الاسلام بمظهر جاهلي ووحشي يستهدف الانسان ويسلبه حقه في الحياة وحرية المعتقد ويفرض وصايته بالإكراه على الناس وهي الصورة التي تتخالف وتتناقض مع قوانين السماء واحكام الشريعة الالهية التي جعلت الكرامة والحقوق مظهر من مظاهر العزة الاسلامية للإنسان .
دولة الانسان التي يتنادى اليها الكثيرون اليوم وتحت عناوين مختلفة كالدولة المدنية وغيرها من المسميات والتي وضع لها هدف محدد هو ضمان الكرامة والحقوق لجميع الناس كانت كذلك مدار حديث المرجع اليعقوبي في خطابه الفاطمي والذي أوضح خلاله ان سيادة القانون الالهي الذي يستهدف حفظ كرامة الانسان هو تجلي من تجليات الدولة الكريمة دولة الانسان والتي هي (أسمى وأرقى من دولة القانون ؛ عندما لا يكون القانون صالحا ) ، ويعلل سماحته ذلك بأن ذلك القانون سوف يشرع في سبيل رعاية وتحقيق مصالح ضيقة ويؤسس وفق رؤية محدودة وقاصرة ، ولكي يكتسب ذلك القانون شرعيته وصلاحيته وفق المعيار الالهي فأنه يجب ان يضع في مقدمة أولوياته حفظ كرامة الانسان .
وتضمن محور كرامة الانسان في الخطاب الفاطمي بيان خصائص ومتطلبات تحقق معاني الكرامة والتي تتلخص على صعيد المواصفات والمعالم باستحصال الانسان لحقوقه المادية ( كالحرية والأمن والاستقرار والرفاه ) وهي الحقوق التي كفلها الاسلام للناس كافة بدون التمييز بينهم على أسس أثنية او دينية او قبلية ، وبالمقابل فأن كمال تحقق مفهوم الكرامة للإنسان يتطلب كذلك امرين وشرطين أساسيين يتمثلان بالالتزام بالشريعة كمنهج للحياة وبالارتباط بالقيادة الشرعية الحقة كسبيل للنجاة وضمان تحقق الدولة الكريمة (دولة الانسان) ، لذلك كان هذان الشرطين الآنفين مفصلين رئيسيين ومقدمة أساسية في عملية البناء او الهدم من خلال الاختيار بين (خط الكرامة الإنسانية التي وهبها الله تعالى للبشر، وخط الذلة والهوان والفساد والانحراف الذي يزداد انحطاطاً كلما مرّ الزمن) .
وبالتأكيد فان نتيجة التمسك واللهاث والذوبان خلف خط الانحراف والفساد هو الذي جر البلاد الى الحال المزري الكارثي الذي تمر به ، والذي انتج مجاميع من الحيتان الكبيرة الفاسدة وقطعان من الوحوش المسعورة ، والتي بدورها خلفت لنا فوضى عارمة ، وكم هائل ومرعب من الفتن والصراعات التي لا نهاية لها ، وهدر لا يتوقف للأموال ، واستبداد وتسلط واستحكام من قبل بعض المتصارعين على كرسي السلطة ، وفقدان للأمن والاستقرار والنظام بصورة مستمرة ، وبالتالي فأن الاوضاع من سيء الى اسوء ولا يوجد سوى بصيص من الامل والثقة بالله تعالى لاستنقاذنا من الجهل المستحكم وبراثن الفاسدين والمفسدين عبر نهضة يكون فيها التغيير الايجابي هو هدفنا للانتقال من مرحلة التشخيص الواضح لأخطائنا الى مرحلة العلاج لها وتجاوز كبواتها ورفع اسبابها من خلال المبادرة وصناعة القرار والذي يتحقق عبر امتلاك حرية الارادة والاختيار الصائب لمقدمات تحقق الدولة الكريمة دولة الانسان وكرامة الانسان .
هذا هو الدرس الفاطمي الجديد الذي نستوعبه من سيرة الزهراء (ع) والذي استلهمنا واستوعبنا مضامينه من خلال خطاب المرجع اليعقوبي في يوم القيام الفاطمي فهل تستفيد الامة منه ام يكون مصيره الاهمال والضياع لنفقد بذلك فرصة لقيام مشروع دولة الانسان واستحصال كرامة الانسان دون تقديم المزيد من الضرائب التي تستنزف بلادنا وتستهدف أرواحنا وتهدد وحدة أرضنا وشعبنا .
[email protected]