دوسلدورف وكرمة بني سعيد..!

دوسلدورف وكرمة بني سعيد..!

قصَ علينا مدرس التربية الفنية في متوسطة الناصرية  منذر جار الله هذه الحكاية هو أن منظمة اليونسكو منحت تلميذاً في الخامس الابتدائي في مدرسة بأحدي قرى الأهوار في ناحية كرمة بني سعيد جائزة عالمية لرسوم الأطفال لفوز لوحته في هذه المسابقة والتي جسد فيها التلميذ خياله الفطري في رسم خارطة وجعل حدودها بيت جيرانه الحاج عواد في الشمال وفي الشرق بين عمه ريسان وفي الجنوب حظيرة جواميسهم وفي الغرب ولاية سوق الشيوخ فيما رسم صرائف بيتهم وسط الخارطة .

تعطي فكرة الخارطة ذهنا وخيالا فطريا رائعا ،حيث تعجز ذاكرة الطفل الى الذهاب الى ابعد من قريته في خارطة طلب فيها معلم الفنية أن يرسمها مع حدودها الدولية ، وكان رده :

أنهُ لا يعرف في الخرائط غير هذا العالم . فكان محقا واستحق الجائزة عن جدارة .ولا ادري أن كان هذا الطفل قد يحتفظ في هذه الجائزة أم انها ضاعت في خضم الحياة بعد أن اضطره الفقر ان يترك المدرسة ويتطوع مثل خالي جهاد ليكون جنديا في صنف المدفعية وربما نال شيئا من سعادة كولمبس وهو يشاهد مدنا جديدة لم يشاهدها في حياته حين نقلت وحدته من معسكر المحاويل الى قضاء بنجوين في السليمانية وذات يوم كمن له قناص وثقب رأسه فعاد الى قريته نعشا   ولو كانت اليونسكو تعلم بموته الاسطوري هذا لرثته من مقرها في باريس اجمل رثاء.

هذه الحكاية هي من بعض صور زمن تريد العولمة ان تلغي جماليته من خلال جعل مساحة العالم مترا واحدا ، حين تذكرت تفاصيل حكاية هذا الطفل الاهواري الذي اعجبت خارطته منظمة عالمية عندما طلب احد الاشخاص أ ن اكون صديقه على الفيس بوك ،ولأني لا أضيف من لا اعرفه سألته :من انت .؟

قال : انا هاشم ، من كرمة بني سعيد قضينا معا ثمان سنوات في ملجأ واحد ايام الجندية.

قفز قلبي فرحا لأتذكر صديق زمن المحنة والخوف والانحاء من الشظايا ورصاص القنص والهلع من أن سرايا البسيج ستقتحم الليلة حقول الالغام ويأخذونا اسرى الى معسكر جورجان.

كان هاشم يحدثني من هاتفه الجوال في بيته الواقع في احدى قرى الاهوار المحاذية لكرمة بني سعيد ، وانه بذل جهدا في البحث عن اسمي ، وقال :الآن استعيد معك اثير ذكرياتنا ، يا لهذا الجهاز والانترنيت كم قرب نبض قلوبنا البعيدة.

قلت : لقد الغى الانترنيت المسافة بين البدان وصار طول المسافة بين دوسلدورف وكرمة بني سعيد هي بمقدار اشتياقي لأعانقك واستعيد معك تلك الذكريات الجميلة.

قال :الحرب ليست جميلة ولكن صحبتكَ هي الجميلة.

ــ ما زلت محتفظا بثقافة كتبي . أين صرت ؟

ــ قال ، كما آدابا امتلك مشحوفا وعشرة جواميس وامرأة ولدت لي اثني عشر ولدا ، يريدون لجوءا سياسيا في مدينتك. ثم ضحك.

قلت : اهلا بك تعال .

قال : امزح معك ، لا أبدل جواميسي وقريتي بألف دوسلدورف…!