18 ديسمبر، 2024 5:48 م

دور قوات حفظ السلام في النزاعات المسلحة  

دور قوات حفظ السلام في النزاعات المسلحة  

يعتبر المفكر “فرانسيس فوكوياما” أكثر الباحثين اهتماما في مجال بناء الدولة ففي كتابه State Building Governance and World Order in the Twenty-First Century أو كما تُرجم إلى العربية : بناء الدولة ، النظام العالمي ومشاكل الحكم والإدارة، تناول اشكالية بناء الدولة وربطها بالعديد من المتغيرات ، إلا أن ما يهمنا في هذا المقام هو التعريف الذي قدمه “فوكوياما” لبناء الدولة ، إذ ذهب إلى القول بأن : “بناء الدولة يعني تقوية المؤسسات القائمة وبناء مؤسسات جديدة فاعلة وقادرة على البقاء والاكتفاء الذاتي ، وتقوية الأمة والنظام والمرافق والخدمات العمومية في الداخل ، والدفاع عن الوطن ضد الغزو الخارجي ، مرورا بتوفير التعليم واحترام البيئة ، وانتهاء بوضع السياسات الصناعية والاجتماعية، وإعادة توزيع الثروة”. ما يلاحظ على تعريف فوكوياما أنه يركز على دور المؤسسات الرسمية في عملية البناء، فهو يعالج مسألة قدرة المؤسسات على القيام بالوظائف التي أُقيمت من أجلها. قياسا بمفهوم بناء الدولة ، فإن مفهوم بناء السلام ، يشتمل على مختلف عمليات الاعمار “المادي” والبناء “الرمزي” لأسس السلام في فترة ما بعد النزاع ، وبذلك يختلف بناء السلام عن بناء الدولة في كون الأول طويل الأمد وقد يستمر لسنوات بعد انهاء النزاع ، في حين أن بناء الدولة يكون لسنوات محددة تنتهي باكتمال انشاء المؤسسات. بل الأكثر من ذلك ، حيث يعتبر بناء الدولة عملية من عمليات بناء السلام التي تسعى إلى اقرار السلام الإيجابي الذي يتميز بالتناغم الاجتماعي ، احترام سيادة القانون وحقوق الإنسان ، وهو مدعوم من قبل المؤسسات السياسية القادرة على إدارة التغيير وحل النزاع. يعتبر الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي أول من طرح هذه المفاهيم الثلاثة وحددها بشكل صريح من خلال التقرير الذي قدمه في 17 تموز 1992 أمام مجلس الأمن ، والذي جاء فيه: – صنع السلام : وهو العمل الرامي إلى التوفيق بين الأطراف المتعادية ، لاسيما عن طريق الوسائل السلمية كالتي ينص عليها الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة ، المتضمن قائمة بوسائل حل النزاعات ، وقد جرى تناول هذه الوسائل بالتفصيل في إعلانات عديدة اعتمدتها الجمعية العامة للامم المتحدة . ويرى البعض أن استراتيجيات صنع السلام ، تمثل عملا قريبا من الدبلوماسية الوقائية فآلياتهما تكاد تكون واحدة من حيث اعتمادها على التفاوض – التفاهم – الوساطة – التحكيم – التوافق – الحل بالأساليب القانونية – العمل من خلال المنظمات الإقليمية –الالتزام باتفاقيات مسبقة أو بأية وسائل سلمية أخرى مثل الزيارات المتكررة للطرف الساعي للوساطة والضغط من أجل صالح السلام ، أو حتى الوصول إلى التهديدات المعلنة تجاه الأطراف المتنازعة أو المتصارعة. ولكن الفرق الأساسي هنا هو أن النزاع يكون قد تحول إلى استخدام العنف ، والعنف المتبادل ، أو استخدام القوة المسلحة
أو على الأقل الاستخدام المفرط للقوة من طرف تجاه طرف آخر. وتتضمن عملية صنع السلام مرحلتين أساسيتين : المرحلة الأولى وتهدف إلى استخدام الجهود السلمية من أجل إيقاف الصدام أو تحييده والوصول إلى استقرار الأوضاع على أرض النزاع ما أمكن. أما المرحلة الثانية والهدف يكون فيها أكثر من مجرد إيقاف الصدامات واستقرار الأوضاع على الأرض ، بل إن الهدف هنا يكون الوصول إلى حل سلمي سياسي مستديم ينهي النزاع . وما يلاحظ على عمليات صنع السلام هو أنها تتقيد بضبط النفس وحصر نطاق استخدام القوة ، حيث أن هدفها الأساسي هو إيجاد بيئة يكون فيها للأطراف المعارضة لاتفاق السلام دور ثانوي ، مما يتيح استخدام انتشار قوات حفظ السلام. وبالتالي فعملية صنع السلام هي مرحلة أولية تسبق مرحلة بناء السلام وممهدة لمرحلة حفظ السلام ، وهي في الحقيقة تشكل أولى الحلقات في عملية ارساء السلام. – حفظ السلام: وهو عملية توسيع امكانيات منع نشوب النزاع ، وتتم عبر توزيع أفراد تابعين للأمم المتحدة في الميدان ، ويتم ذلك بموافقة جميع الأطراف المعنية. كما تشمل عمليات حفظ السلام عادة اشراك أفراد عسكريين أو أفراد من الشرطة تابعين للأمم المتحدة ، بالإضافة إلى موظفين مدنيين. وتنحصر مهمة هؤلاء الأفراد في الفصل بين مختلف القوى المتنازعة ، ومراقبة وقف اطلاق النار ، بالإضافة إلى الإشراف على عمليات نزع الأسلحة أو انسحاب القوات المقاتلة ، دون نسيان دورها الكبير في دعم وتسهيل عمل المنظمات الإنسانية وتقليص تدفق اللاجئين. وقد تطورت طبيعة عمليات حفظ السلام في السنوات الأخيرة لتشمل تأمين القوافل الموجهة إلى المناطق المنكوبة والإشراف على الانتخابات فضلا عن استمرارها في القيام بوظائفها التقليدية التي ساهمت في إقرار الاستقرار في العديد من المناطق التي شهدت درجة كبيرة من التوتر. وبالرغم من أن عمليات حفظ السلام تسبق عمليات بناء السلام فهي تشكل الأرضية الواجب توفرها حتى يمكن الانتقال إلى مرحلة بناء السلام. – بناء السلام : وهو يُعنى مرحلة ما بعد النزاع ، حيث يرى “جون بول ” بأن بناء السلام يُفهم كمفهوم شامل الذي يضم ويُولد ويديم مجموعة كاملة من العمليات ، والمقاربات ، والمراحل اللازمة لتحويل النزاع نحو علاقات سلمية أكثر استدامة. وبالتالي ينطوي على المدى البعيد على مجموع النشاطات التي تسبق وتتبع اتفاقيات السلام الرسمية ، لأن السلام ليس مجرد مرحلة أو ظرف مؤقت وإنما هو عبارة عن بنية اجتماعية ديناميكية متكاملة. يتضح من هذا العرض المختصر أن المفاهيم الثلاثة متصلة ومكملة لبعضها البعض ، وهي تشكل حلقة متكاملة تُجسد حالة من التراتبية –من الناحية الزمنية- تسير وفقها العلاقة بين هذه المفاهيم ، بحيث لا يمكن بدء إجراءات بناء السلم إلا عندما تتم السيطرة على الصراع وإقرار الأمن أي بعد فرض السلام ، ثم بعد ذلك يأتي حفظ السلم وذلك بافتراض أن “السلام السلبي” (غياب العنف المباشر) قد أعيد إلى نصابه ، وأن المطلوب هو المحافظة عليه من الانتكاس ، لتأتى مرحلة بناء السلام بعد انتهاء النزاع ، وفيها يتم تحصين السلم (الإيجابي) لضمان ديمومة التسوية. ونظرا لتعقيد هذه المهمة قياسا بالمهام السابقة ، وصلتها بالمكونات المجتمعية المحلية ، فإنه غالبا ما توكل للمنظمات الدولية غير الحكومية ، ففضلا عن خبرتها الميدانية الكبيرة في مهام ذات صلة ببناء السلام كالإغاثة وبناء القدرات ، فإن ذلك إنما يرجع إلى طبيعة تركيبتها الغير الرسمية ومرونتها في التعامل مع قضايا عديدة،تمتلك عديد “المنظمات غير الحكومية” المرونة والمصداقية التي تتيح لها بناء علاقات ثقة مع السكان المحليين حتى يتم قبولها بسهولة وبالتالي كسب شرعيتها.
بالإضافة إلى قدرتها على تطوير مشاريع وشراكات فعالة من شأنها أن تُسهم في عملية بناء السلام ، فبرامج إعادة البناء والتهيئة من وجهة نظر “المنظمات غير الحكومية” لا يجب أن يكون هدفها استبدال أو تعويض البنية التحتية والموارد المادية فقط ، وإنما يشمل كذلك تقوية البنى الاجتماعية ، السياسية ، والإدارية للمجتمعات المتضررة بالإضافة إلى المساهمة في تحقيق الاستقرار النفسي للأفراد الذين عانوا من التهميش ، الاستغلال ، والتهجير طوال سنوات النزاع. وبذلك تضع معظم “المنظمات غير الحكومية” العاملة في مراحل ما بعد النزاع تصورات لطبيعة عملها تقوم بالأساس على ضمان استرجاع وحماية حقوق الأفراد ، وتمكينهم وبناء قدراتهم من خلال برامج و ورشات عمل من شأنها التعريف بما للفرد من حقوق وما عليه من واجبات ، وإعطائهم مجال أفسح من الحريات التي تُسهم في إطلاق العنان لروح الإبداع والعطاء داخل المجتمع وبالتالي الانخراط في مختلف العمليات التنموية.