تعود فكرة التعليم بوصفه إطلاقاً و تنشئة إلی بدايات الفلسفة الإغريقية، التي كانت تهدف إلی تكوين الإنسان عقلاً و شخصاً و ذهناً و نفساً و تمكينه من الدخول الی فضاء العقل العام، أي فضاء البحث الفكري و النقد الإجتماعي.
فمن المعلوم بأنّ بناء مجتمعات حيّة يبقی ضرب من الخيال إذا ما تُرك العلم والمعرفة جانباً و أنّ المعايير التي تقاس بها عصرية أيّ مجتمع هي تطوره التقني ومستواه العلمي والتربوي. فالبحث العلمي هو نتيجة تعليم مزدهر و هكذا بالنسبة الی عمليات التحديث والنمو الاقتصادي والاجتماعي، إذ لا يمكن وقوع التحديث من دون أن يأخذ العلم والتقنية دورهما في أيّ مجتمع يرنو إلى التقدم والمعاصرة.
ويمكن إعتبار البحث العلمي بآلية ضرورية للوصول الی حلول ناجعة لمشكلات و قضايا حياتية كالإسكان والتربية و الصحة و تأمين المياه والزراعة والنقل والبيئة والتلوث أو أمور أمنية كالحرب والسلام، ناهيك عن قضايا مرتبطة بالتنمية والخطط المستقبلية في دراسة الفضاء و الغور في علوم الحاسوب و البرمجة و علم الهندسة الوراثية. و هو وسيلة مهمة لتنوير المجتمعات البشرية للأخذ بأسباب المعرفة والاستفادة منها. و بإمكان التقنية أن تحوّل التراكم المعرفي للمجتمع، الذي هو عنصر فاعل في الحياة المعاصرة، الی منفعة ملموسة بهدف التحكم في الطبيعة وعناصرها لصالح الإنسان.
إن عدم ممارسة البحث العلمي أو إهماله سوف تنعكس بشكل سلبي علی عملية التعليم الجامعي و في النهاية تجعل من الجامعات مراكز لتفويج خريجين غير قادرين على تلبية متطلبات سوق العمل و هكذا يتحول الخريج، الذي لايستطيع اليوم أن يواكب كل مستجد في علوم تخصصه بعد إنفصاله من الجامعة، الی عاطل عن العمل و الی عالة علی المجتمع الذي يری نفسه في طور النشوء والنمو.
التعليم هو عملية إعادة إنتاج للمجتمع ذاته و لا يمكن لمجتمع أن يعلّم أبناءه سوى ما يعلمه أو يؤمن به. إقليم كوردستان بحاجة الی نهضة علمية مبنية علی الرؤية المستقبلية والعدل، فأساس النهضة، التي نحن بأشد الحاجة اليها، هو إعلاء الثقافة والحفاظ على الهوية الكوردستانية أولاً وأخيراً والاهتمام بالتعليم والبحث العلمي وتهيئة المناخ والحياة الكريمة للباحثين والعلماء وتقدير عملهم والسعي في تعميم العدل و تطبيق القوانين علی الجميع. فالمجتمع الذي لا يدرك بأن العصر الذي نعيشه هو عصر العلم والمعرفة، لا يستطيع أن يبني دولة ثابتة الأقدام.
و من الصعب علی مجتمع إذا كان ممسوس بالتطرف الديني و محاط بالخيوط العنكبوتية الناعمة للتيارات الإخوانية أن يمنع نفوذ تلك المشاعر الی قلب المؤسسات التعليمية، فعلی المؤسسات التربوية في إقليم كوردستان إذاً إرساء دعائم ومبادئ الفلسفة التربوية بما يتلائم مع النهضة الإنسانية والديمقراطية التي يشهدها العالم والعمل الدؤوب في سبيل تغير المناهج الدراسية في مختلف المراحل الدراسية بشكل تدريجي لكي تترسخ نواة الديمقراطية و مفاهيم المواطنة و حقوق الإنسان والتعايش السلمي و المساواة والحرية والحق في الحياة وحق الحياة الكريمة لدی الجيل الجديد و المجتمع العصري بهدف مسايرة المتغيرات الاجتماعية والفكرية في العالم المتحضر.
فالتعليم يجب أن يبتعد عن التلقين، الذي يؤدي في النهاية الی تشكيل عقل أصم يعمل كمخزن للمعلومات وليس كطاقة رائعة للتفكير. أما النظام المدرسي الحكومي فله، بالرغم من سعي الحكومة في تطويره، مشكلات شتی، منها بؤس الأبنية وقصر الوقت المتاح وتدنى مستويات المدرسين والحشو المبالغ في المقررات التعليمية وقلة الصلة بين التعليم وحاجات ومهارات العمل المتاح وإنفكاك الصلة بين المعرفة والأخلاق الرفيعة فضلاً عن الشعور بالمسؤولية الاجتماعية.
الأجيال القادمة بحاجة إلى بناء ثقافي صحيح. فلكي لا نظل نفكر بالمقلوب و نعود الی الوراء أو نتأخر عن الإنخراط في العالم الجديد بثوراته و تحولاته و إنعطافاته التقنية أو المعرفية أو الثقافية، نری من الضروري عقد ندوات تربوية و فتح ورشات تدريبية خاصة للمعلمين والمدرسين، كونهم حلقة الوصل بين الفلسفة التربوية والمتلقي، بغية تجهيزهم بمفاهيم جديدة يتناسب مع أهداف خلق ثقافة لمجتمع مدني يؤمن بالمفاهيم الديمقراطية والإنسانية، تلك المفاهيم التي تنبني علی تعزيز فكرة المواطنة الكوردستانية بأساليب تواصلية بعيدة عن المنازع والممارسات و المؤسسات الأصولية والنرجسية النخبوية.
وهكذا سوف يكون الفكر في إقليم كوردستان قادراً علی إجتياز مراحل متعددة الحقول والإتجاهات للمساهمة في إتقان صناعة التنمية و هندسة العلاقات الإجتماعية بفتح خطوط للتعايش والتواصل أو خلق مجالات للتداول والتبادل. ومن لا يحسن فهم حاضره لا يحسن توظيف الماضي من أجل الإعداد للآتي.
وختاماً يقول جبران خليل جبران: “الشعوب العظيمة تبدع أفكاراً عظيمة، لكن الأفكار العظيمة لا تبدع شعوباً عظيمة.”