23 ديسمبر، 2024 11:02 ص

دور المعرفة في تحقيق المستقبل الواعد

دور المعرفة في تحقيق المستقبل الواعد

المعرفة الألكترونية و ما بعد الرأسمالية ولا توظيف مدى الحياة وتغيير المهنة ومكونات الاقتصاد الجديد: مقالة بحثية ذات دلالة!
ليس جديدا الطرح الذي يقول بأن المستقبل هو ملك اللذين يستخدمون عقولهم بدل أيديهم ، وهناك حكمة قديمة تقول بأن المعرفة قوة او سلطة. لقد حلت المكائن المؤتمتة محل الكثيرين من الناس، وقل عدد اللذين يكسبون عيشهم بصناعة الأشياء يدويا، وتزايدت العمالة في قطاع الخدمات حتى انها تجاوزت الثلثين في أمريكا، كما تضخمت المعلومات وأصبحت هناك بنوك ومراكز معلومات … لقد دخل عالمنا لعصر المعرفة، حتى أصبح التفكير أحد أهم مهارات النجاح في اي عمل. كما انه لا يمكن تصور الانقلاب الذي احدثته شريحة السليكون المتناهية الصغر في مجالات صناعة الكمبيوتر والاتصالات الرقمية وروبوتات المصانع … وما زلنا نتوقع اختراعات مذهلة في مجالات التكنولوجيا البيولوجية والذكاء الصناعي، ولم يعد بالامكان تخيل أي تقدم بارز في هذه المجالات المبتكرة بدون الدور الهائل الذي تلعبه المعلومات والمعرفة، ونحن الان داخل عصر الكمبيوتر ، فقد اصبح كل جاهل بالحاسوب (والذي لا يتقن لغة اجنبية) بعتبر اميا بامتباز، يعامل معاملة الاميين! وحيث أصبح تطبيق المعلومات مفتاح لحل الكثير من مشاكل العمل، وحيث اصبحت خدمات المعلوماتية جزءا ضروريا لكل عمل ناجح ومستمر ….فأين نحن كعرب من كل هذا؟ وما هو موقفنا؟ وما دور الربيع العربي المزعوم في هذه التطورات؟ وهل سنبقى كالعادة في آخر عربات قطار المستقبل السريع ؟؟ …أم آن الآوان لكي نفيق من الغفوة التاريخية وغيبوبة القرن لكي نعرض انفسنا لصدمة ” الوعي بالتخلف “، لنركض فجأة لاهثين وراء العالم الأول الذي يركب طائرة نفاثة ليتجاوز شعوب العالمين الثاني والثالث …والذي يسعى جاهدا لمعاملة الشعوب الاخرى المتخلفة مثل معاملته لحيونات التجارب!
ما بعد الرأسمالية!
يطرح عالم الادارة الشهير بيتر دروكر في كتابه الجديد ” ما بعد الرأسمالية ” نصنيفا جديدا للعاملين يتخطى التصنيف التقليدي المعهود كأصحاب الياقات البيضاء وأصحاب الياقات الزرقاء، ويقول أن هذا التصنيف لم يعد صالحا، والتصنيف الأكثر مواكبة لطبيعة العصر هو عمال معرفة وعمال خدمات! وسيكون النجاح حليف الطرف الأكثر تفهما لطبيعة هذا التصنيف ، وبالنسبة لأهمية الوظائف التصنيعية والانتاجية فقد اصبح الآن أقل اهمية ، وحيث لوحظ ان عمال الانتاج يخسرون وظائفهم بالمقابل وتحل محلهم المكائن والروبوتات! كما تزايدت الحاجة للمهارات الرفيعة في الصناعة ويكمن السبب في حلول مفهوم التصنيع المرن ( الذي يلبي متطلبات المستهلكين ) محل مفهوم الانتاج المعياري التقليدي . فالتفكير والاستنباط قد اصبح وسيصبح من اهم سمات عمال المستقبل لمواجهة المتطلبات المتغيرة للمستهلكين ، مما يستدعي مهارات خاصة وتدريبا مستمرا. فعلى سبيل المثال تشير احصائيات مكتب العمل الأمريكي على أن أكثر الأعمال تطلبا حاليا وفي المستقبل القريب هي اعمال: محللوا النظم ومبرمجو الكمبيوتر، علماء الكميوتر، المساعدون الطبيون، وخبراء الجودة والادارة، بينما الوظائف الأقل طلبا هي على سبيل المثال مجمعو المعدات اللأكترونية والميكانيكية، مشغلو مكائن النسيج وعمال المقاسم…الخ، وما اكثر حاجتنا لدراسات ممائلة وخاصة للقطاعات المهنية التي تعاني من البطالة ، حيث تقول القاعدة أن الأعمال الأكثر تطلبا ستكون مداخيلها بالتالي مرتفعة ونموها عاليا والعكس صحيح ، كما أن خلق الوظائف المتواضعة لا يحل المشكلة، فعلى سبيل المثال لم يؤدي خلق 30 مليون فرصة عمل جديدة في امريكا ن لرفع العوائد بشكل جدي ملموس لأنها كانت اصلا ذات مداخيل متواضعة. وفي اوروبا لم لم يؤدي خلق الوظائف الجديدة خلال العشرين سنة الماضية لاحداث نمو ملحوظ في المداخيل لأنها كانت اعمالا ثانوية!
ويكمن الحل كما يراه خبراء الغرب في زيادة انتاجية قطاع الخدمات، وبواسطة تفعيل نظم المعلومات، وربما من الصعب وغير الملائم تطبيق هذه الوصفة على وضعنا، ولكن ذلك لا يمنع أن نعي ان الطريق الوحيد لدخول عصر المعرفة والمعلومات سيكون من خلال التعليم المستمر والتدريب المكثف على التقنيات الجديدة، وليس “عشق تجميع الشهادات” كما نلاحظ في وضعنا العربي، فالكل يلهث وراء الشهادات، حتى أصبح سوق التدريب بازارا كبيرا، وتستغرب عندما تقابل شخصا ما يكاد لا يفقه شيئا في الموضوع الذي يحمل فيه شهادة معتمدة !
لقد اصبحت المعرفة هي العنصر الأكثر أهمية في الانتاج مستقبلا، ولا تقل اهميتها عن عناصر حيوية اخرى مثل رأس المال والجهد المبذول ( أي طاقة العمل )، هكذا فان كان نظامك التعليمي والتدريبي متخلفا فلن يكون بامكانك احداث نقلة نوعية في مجال تطوير عملك وخاصة ان كان مرتبطا بالمعلومات. لنأخذ الكميوتر مثلا، فهناك في الولايات المتحدة أقل من 15% من غير الحاصلين على تعليم جامعي يستخدمون الكمبيوتر في أعمالهم، بينما يرتفع الرقم بالنسبة للجامعيين ليزيد عن 70%، كما أن بعض الشركات الكبرى مثل “أي بي ام” و”أبيل ” تقوم باعادة تدريب عمالها يوما في الشهر لمواكية التغيرات الكبيرة في هذه الصناعة، وتقوم الشركات اليابانية بتكرار التدريب دوريا. ولقد اندهشت حقا عندما قرأت في احدى الصحف اليومية ان خريج كلية مجتمع متخصص في برمجة الحاسوب يعمل بائعا للمرطبات الشعبية لأنه لم يجد مجالا للعمل في تخصصه! وهذا يدل على الافتقاد شبه الكامل للتنسيق مابين المعاهد والجامعات وأسواق العمل، كما يمكن ملاحظة ذلك جليا في نسب البطالة الكبيرة التي تشهدها بعض قطاعات الهندسة !
لا توظيف مدى الحياة وتغيير المهنة لست مرات !
لقد اندهشت باستياء عندما علمت أن عبقري رياضيات جزائري يسعى للتخصص بالطب بدلا من الرياضيات، وذلك طمعا بالأموال الطائلة التي سيجنيها من عمله كطبيب متخصص! لم يعد ممكنا أن تقوم شركة ما بتوظيف صبي في السادسة عشرة من عمره، وتدريبه ليعمل لعقود باخلاص، ثم ليتدرج في السلم الوظيفي طامحا في ان يصبح مديرا عاما في يوم من الأيام! فأنت اذا ما تعلمت اليوم شيئا ثم ما زلت تمارسه بعد خمس سنوات من الآن، فأنت غالبا ما تقوم بالشيء الخطأ ! فالغرب يتوقع أن يقوم الخريجون الجامعيون بتغيير مهنتهم حوالي ست مرات في حياتهم… وحتى مفهوم التوظيف” مدى الحياة ” الياباني أصبح يتعرض مؤخرا لصدمات قوية تزعزع من استمراريته. فكيف نتأقلم اذن مع المتغيرات الهائلة في أسواق العمل؟ بالتعليم المستمر والتدريب المتخصص الدوري، وبالربط القوي الفعال ما بين التعليم الأكاديمي والتعليم المهني، ثم بالتوجيه المستمر الذي يوضح للطلاب متطلبات سوق العمل ومتغيراتها، وبالمرونة والتنوع، ثم وهذا هو الأهم بالتخلي عن بريق الافتخار والتبجح الكاذب بالشهادات والمناصب! واذا ما اعترفت “النيوزويك” بأن الخطأ الكبر للدول الصناعية يكمن في تجاهل المحاذير الخاصة بنوع التعليم ومتطلبات أسواق العمل، ثم في ترك الاقتصاد غير جاهز لتوقعات وتغيرات المستقبل، فما هو الحال في عالمنا العربي المضطرب الذي يفتقد لأدنى حدود التنسيق والتكامل؟! وكيف سيصبح الحال اذا ما استمر توجيه التعليم يعتمد كليا على التوجهات والطموحات الشخصية للأفراد؟! فالتحدي الذي يواجه أي بلد يرغب بدخول سوق المنافسة الاقليمية او العالمية يتركز في قدرته على اعادة توجيه الاستثمار بالتعليم والتدريب المهني المتخصص والصناعي، حيث تظهر النماذج الحالية في دول ككوريا الجنوبية وماليزيا وسنغفورة، التي تواظب على تدريب مستخدميها بهدف استيعاب المعايير الجديدة الممتازة للمنتجات الجديدة، مع مراعاتها لمتطلبات ومتغيرات الأسواق الدولية وأذواق المستهلكين .
مكونات الاقتصاد الجديد :
يكمن الطريق الوحيد للتفوق في الاستغلال الأمثل للتخصص المعرفي والانتاجية المتطورة ، ولم يعد الأمر كما كان سابقا في بدايات الثورة الصناعية، حيث كان السبق من حظ الدول الأكثر ثراء وموارد طبيعية، مما دفع الدول الامبريالية لاستعمار واستغلال مناطق العالم الغنية بالموارد الطبيعية، لقد بدا الأمر بالاختلاف حاليا مع دخولنا للعقد الثاني من القرن الحادي والعشربن ، واختلفت عناصر الاقتصاد الجديد، فدخلت مكونات مثل: المعلومات والتعليم والمعرفة المتخصصة ، ناهيك عن تفجر ثورة الحاسوب والانترنت والاتصالات بما يدعم هذه المكونات الجديدة، واصبح استيعاب التكنولوجيا المتطورة معيارا أساسيا لتقدم الامم، كما أصبحت أنظمة المعلومات مبدان سباق جديد للدول الصناعية الكبرى والدول الجديدة الطموحة كالهند والبرازيل وجنوب افريقيا. ويتطلب كل هذا تغييرا أساسيا في أنماط تفكيرنا التقليدية وسعيا محموما للحاق بركب الامم المتقدمة، بدلا من الانغماس المتعصب المجنون في ثورات وحروب وأحقاد طائفية تعيدنا لظلامية القرون الوسطى وتدمر البلاد والحضارة وتقتل العباد!