أساطين الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة الذين ناولوا شرح الأنظمة الديمقراطية و النظام البرلماني وضعوا قبول فكرة المعارضة، التي تقوّم وتقيّم و تلتزم بقرار الأغلبية مع ضرورة المراقبة والاعتراض، في باب أبجديات العمل السياسي و عرّفوها بمبادئ الاشتغال في فن الممكن.
نحن نعلم بأن الديمقراطية الحقيقية ماهي إلا حراك اجتماعي وسياسي وثقافي مستمر من أجل تحقيق المصلحة العامة وصيانتها والدفاع عنها في مواجهة المصالح الذّاتية الضيقة لمن يريد إستغلال السلطة من أجل المنفعة الشخصية وأن الفرق بين أن تحكم وتتحكم وتصدر الأوامر وبين أن تراقب وتعترض كبير، لكن إذا جاهد كل طرف من أطراف المعارضة في إختزال واجبه في مجال الحصول علی نصيبه من السلطة و ممارسة الضغط السلبي وتثوير الإعلام، التي لا تريد أن تنقل المعلومة بأمانة و أن تصور الواقع بشكل صادق، للتدخل بشكل تخريبي فوضوي في الشأن العام والسعي في تعكير الفضاء التواصلي بفتح المجال للدخلاء و السماسرة والمتاجرين بآلام الشعب الكوردستاني، فمن حقنا أن نری في دور ذلك الطرف استئثار لا المشاركة الفعلية في خلق النموذج الأمثل للحكم الرشيد.
فالحكومة الحالية في كوردستان أثبتت بأنها تراعي قواعد الديمقراطية السليمة، فحاولت إشراك الجهات المعارضة في إدارة الحكم، وهي أمينٌ لفلسفة دمقرطة الفكر الاجتماعي ودؤوب في تحديث مؤسساتها، إذ تفسر الصراع السلمي بين القوى السياسية من أجل الوصول إلى السلطة بأنه آلية مناسبة ومفيدة لدفع العملية السياسية نحو الأفضل وترحب بالنقد الموضوعي والمحاسبة الفعلية للتقليل من قصور المؤسسات التي لا تنسجم والروح الديمقراطية.
المعارضة ثقافة يجب فهمها و ممارستها بعد وضع برامج ومشاريع بناء دولة المؤسسات والقانون، والقضاء المُستقِل، والعقل الحرّ وحرية الرأي والصحافة، والأمن الاقتصادي والاجتماعي، ومستوى التعليم وأساليب التدريس في المدارس والجامعات و بعد نقل الصراعات في تطبيق الرؤی من الشارع الی التشريع في سبيل الوصول الی الأهداف السامية للشعب الكوردستاني و المعارضة هي فن لتهيئة النفس بعد فهم المتغيّرات و إرتقاء الخطاب الإعلامي من أجل إستلام السلطة و أن أداء المعارضة السّياسية الإيجابية ماهو إلا إغناء لتجربة الحكم في كوردستان.
للأسف هناك بعض تيارات كوردستانية معارضة تنسی بأن من أولويات عملها هي الوقوف بوجه الاستبداد المركزي و تفعيل الخطاب الوحدوي الكوردستاني و الإبتعاد عن مغازلة الأحزاب السياسية العراقية التي لا تريد لكوردستان و شعبه التقدم والأمان، بل تعمل ليل نهار كي تسود الرؤية الأحادية والفكر الشمولي وتطبّق تعاليم ولاية الفقيه في العراق، تلك النظرية التي تريد أن تأخذ الحيّز الواسع في الفهم العام، لإجهاض التجربة الديمقراطية الحديثة و إعادة كابوس الديكتاتورية، الذي يأبى مفارقة الأذهان.
هذه الأحزاب الدينية التي ترفع شعار الوحدانية لا تؤمن بالعملية الديمقراطية بل تسعی الی انتهاج فلسفة وإستراتيجية مبنية علی مبدأ “الميكيافلية”، أي البقاء في السلطة والاستمرار فيها إلى أبد الآبدين، دون الاهتمام لنوع الوسائل والأدوات، ما دامت تؤدي الوظيفة وتحفظ النتيجة، حتى ولو كانت على حساب حقوق الشعب الكوردستاني المذكورة في الدستور بصورة خاصة و حقوق الشعب العراقي بصورة عامة.
لقد قامت الحكومات السابقة، التي كانت تؤمن بالزعيم القائد الفرد وسياسة الاستفراد، منذ ولادة الجمهورية في العراق باستخدام القضية الكوردستانية كشمّاعة وفزّاعة لتقوية وجودها و استمرارها و كسب الغنائم السياسية بها.
آن لنا أن نتعلم من التجارب المريرة، لذا نقول لتلك التيارات التي تتشبث بالإنتماءات الغيبية وتريد أن تُرضع من حليب الأحزاب العراقية المناوئة للتجربة الديمقراطية اليانعة و المخالفة للنظرة الكوردستانية في ممارسة حق تقرير المصير بأن العالم الذي نعيش فيه ليس نظرية من النظريات، بل هو شيء كائن و أن الحقائق القديمة، كالأسلحة القديمة تتعرض للصدأ وتغدو عديمة النفع.
علينا أن نفكر بلغة المفهوم و منطق الحدث و نعمل من أجل مضامين تبادلية و أشكال تضامنية و وقيم تواصلية، كي ننشر ونسود ساحة العمل التاريخي المستقبلي و أن لا نعارض من أجل المعارضة بمواقف يتداخل فيها الرفض والالتفاف والنكوص والنرجسية، لتحويل الوجود المعاش الی مقولات مجردة أو أدلوجات مزيفة بأوهام خادعة و مقاصد مفخخة و تهويمات مدمرة، فلا غرابة في أن يكون المآل الإنقسام والشرذمة.
فبالحوار والتعددية و أخلاقية المسؤولية والمشاركة الفعالة و الشفافية والمصارحة و حسن النية والمكاشفة و قبول الآخر والمصالحة والإشتغال علی المعطی الوجودي يمكننا تعزيز وحدتنا الكوردستانية لا بإنكار المشاريع النهضوية و رجم كل عمل نفعي بسياسة الإقصاء و الكذب والتعتيم والتضليل و الاتهام والتخوين والتجريم وعقلية الطوبی و منطق الاستلاب.
وختاماً يقول الماهاتما غاندي في الفجوة بين العلم والأخلاق وبين الرأي الحر والتطبيق الاجتماعي:
“توجد سبع مبادىء تدمر الإنسان: السياسة بلا مبادىء والمتعة بلا ضمير والثروة بلا عمل والمعرفة بلا قيم والتجارة بلا أخلاق والعلم بلا انسانية والعبادة بلا تضحية”.