تكاثرت النصال في صدر العراق فما أن يخرج من محنة حتى يقع في أخرى, وما أن يتخلص من بلاء حتى يقع في عناء أشد وقعاً وإيلاما, درة الرافدين احالها المتناحرين إلى ارض البؤس مهد الحضارة والقانون الاول تحولت إلى رمز العبثية وانعدام النظام حتى غابت ذكرى بابل العظيمة وسط دخان الانفجارات ولغة الدم . سياسيون يتصارعون ويتناحرون من اجل الكراسي والمناصب وشعب يرزح تحت التهجير والفقر وانعدام الامن , تناحر بغيض وعداء أبغض, وعقليات سخيفة وسياسيون أشد سخافا وبين هذا وذاك تحول العراق الى أطلال وطن, شعب يتجرع المرار كلما أشرقت شمس الضحى , ولم يعد الواحد منهم يحلم بأكثر من السكينة والهدوء والأمن والأمان.
لن تنسى ذاكرة الشعوب من كانوا سببا في تمزيق شعب أو تدمير وطن ولو تفهمت الطبقة السياسية فكرها وأطماعها وأهواءها انها هي من أوصلت البلاد إلى الدمار وهي من خلقت وشجعت داعش وغيرها وهي من تتحمل نتيجة الخراب.. والشعب يعلم بأن متصدري العملية السياسية في العراق لم يرتقوا بتفكيرهم وحرصهم على الشعب والوطن عن المتاجرة بقضايا الشعب ونشر الفتن وإشعال الحرائق ويظنون بأن الشعب لا يدرك افعالهم وانهم مانعتهم قوافل الحمايات الخاصة والسيارات المصفحة من غضب الشعب ويحصرون ولاءهم بالقيادات التي يكون ولاؤها للخارج أولها تطلعات تخدم أفكارها بعيدا عن إجماع كل من في الوطن وبعضهم يجمعون الدولارات ويتفاخرون بالقصور والعمارات.. مفاهيم متعددة يظهرونها وقت الحروب والأزمات مع مجموعة من المبررات للشعب بأنهم حماة وهم من يمزقون الشعب ويدمرون البلاد.
لقد فشلت سياسة الأحزاب والجماعات في إدارة البلاد لأنهم سبب الخراب لأنهم في حالة صراع يفجرونها في سبيل مصالح أحزابهم وجماعاتهم ان مما يؤسف له ان الطبقة التي تسمى بالسياسية والسياسة منها براء والتي وصلت الى الحكم والسلطة باسم المظلومية والشهداء كانت عاملاً أساسياً في خلق هذه الظواهر وفي معظم الحالات تعمدت خلقها من أجل مصالح سياسية ضيقة.تداخلت فيها مصالح ذاتية ومحاصصات ومساومات على حساب مصالح الشعب والوطن ترافقت مع وجود بعض افراد ممن يمتلكون شيء من الثقافة ممن حاولوا المتاجرة بالشيء الوحيد الذي يمتلكوه وهو تبرير افعال تلك الطبقة السياسية وجعلها تبدو في صورة السعي للمصلحة العامة ممن اطلق عليهم المرحوم علي الوردي اسم وعاظ السلاطين.
في ضوء هذه العوامل الداخلية المتشابكة مجتمعة تأسس نظام المحاصصة الطائفية والقومية وما آلت اليه الاوضاع من مخاطر أضرت بمصالح الشعب والوطن ومصادرة الدستور , كأن الطبقات السياسية تريد ان تثبت للشعب العراقي انهم في غيبوبة فكرية وانقطاع متواصل عن الواقع و عن حاجات الشعب وتطلعاته منذ عام 2003 القاسم المشترك في كل هذه الظواهر هو غياب سيادة القانون أو اختفاء القانون العادل أو سوء استخدام القانون وعندما تعم الفوضى يقاس نفوذ الفرد بمدى خروجه على القانون والنصر للأقوى مما يستوجب مراجعة دور تلك الطبقة التي للاسف وصلت باصوات الناخبين الى الحكم في هذا الخراب الذي حل بالعراق .
بمراجعة بسيطة للسنوات العشر الماضية من تاريخ العراق نجد ان تلك الطبقة السياسية قد عملت على نشر المحسوبية في مفاصل الدولة العراقية بتقديم الفاشلين من أهل الثقة على أهل الخبرة، مما جعل من شبه الاستحالة الحصول على وظيفة بدون واسطة، إلى نشر التمييز الديني والطبقي والجغرافي والنوعي، إلى اشاعة النفاق وجعله طريقاً للترقي والمزايا والمكافأت وهكذا تم تعميم المحسوبية وتقزيم دور الكفاءة إلى أقصى مدى حتى أصبح النجاح عبء على صاحبه لكثرة المحاربات وشيوع ثقافة التربص والنميمة والحقد ووضع العراقيل وتملق الرؤساء. مما ادى الى غياب اي جهد لحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي ورثناها من سياسات النظام السابق مما جعلها تتحول الى عقد مستعصية كالبطاله والتضخم والديون الخارجية وانهيار البنى التحتيه وتدهور الخدمات وانتشار الفساد المالي والاداري و التدهور الامني و السياسي و التعصب القومي والطائفي والمذهبي , التي مزقت نسيج المجتمع .
لم تكتفي الطبقة السياسية بالمحسوبية سلوكاً عاماً فحسب بل أصبح التوريث في كافة الأمور نمطاً شائعاً، وقد أدى ذلك إلى شبه غلق لوظائف مهمة على عدد محدود من العائلات وأنجالهم وخصوصا في مجال العسكرية والخدمة الدبلوماسية حتى تحولت السفارات العراقية في الخارج الى مؤسسات عائبية لايعمل فيها سوى ابناء المسؤولين وبناتهم وازواجهم بل واصبحت محلا لتعيين العشيقات ، فرئيس الحزب او الكتلة يكون ابنه او ابنته احيانا او زوج ابنته يأمر وينهي وحولهم الأقارب إلى وزير يحلم بأن يكون ابنه وزير والبرلماني لابد أن يكون ابنه برلمانيا والضابط لابد أن يكون ابنه ضابطا وبالطبع ترتب على ذلك حرمان عدد كبير من الناس من تحقيق أحلامهم في وظيفة معينة رغم كفاءتهم في مجالهم، كما أدت المحسوبية والتوريث إلى تراجع كبير في كفاءة المؤسسات التي تسمح بتوريث عائلي واسع، كما أنها جعلت كثيرين يتخلون عن الإجتهاد لصالح الوظيفة المتوارثة المضمونة. وقد ادى احتكار شلة من الأصدقاء والعائلات لمعظم المناصب السياسية الهامة، إلى ارتفاع درجة الغليان في الشارع وتسارع الحقد والكراهية بين الطبقات واحساس المواطن العادي أن الوطن لا يخصه ولكنه مخطوف من شلل معينة، والخطير تزامن ذلك مع مرض سلطوي ثالث وهو الجمود السياسي المزمن مع احتقار الرأي العام، مما جعل العلاقة بين الفرد والسلطة تتجاوز الخصومة إلى العداوة.
اما الفساد في العراق فهو قصة طويلة فقد تحول الى أخطبوطً ورثته الطبقة السياسية وترعاه قطاعات واسعة من الناس حتى بات مطلباً شعبياً عند شريحة ضخمة من المواطنين لا يتخيلون المعيشة بدونه، وقد شكل الفساد نسبة عالية من دخل جمهور واسع من الناس، وقد بدأ الفساد في القطاعات الحكومية وانتشر كالسرطان إلى كامل الجسد العراقي، وهناك شبه اتفاق صامت بين الدولة والمواطن بأننا لا نستطيع الوفاء بمتطلبات الحياة لك وعليك أن تتصرف خارج القانون لكي تعيش وتتمتع بالحد الأدنى من الخدمات الإنسانية، وهكذا خلقت الدولة قانون النهب المتبادل بين المواطنين وبعضهم البعض … ولكن هذا يشكل ظلماً فادحاً للقلة الشريفة أو التي لا تستطيع أن تفسد حتى ولو رغبت في ذلك، كما أنه أدى إلى توزيع مختل كالهرم المقلوب للثروة ومعها النفوذ الإجتماعي، فالطبيب أو الباحث العلمي الذي افنى حياته في العلم والتحصيل أصبح في ذيل القائمةقد أثر ذلك بشدة على منظومة القيم والأخلاقيات ونفوس البشر ووضع الطبقات، وان كان من الواجب ان نذكر ان الفساد ليس وليد مابعد عام 2003 ولكن قي ظل الطبقة السياسة الحالية تحول الفساد الى غول ومؤسسة حتى قيل ان أكبر مؤسسة في العراق حالياً هي مؤسسة الفساد.
وحيث ان الفساد بحاجة الى مخالب تحميه فقد استعارت الطبقة السياسية احدى اقذر وسائل النظام السابق الذي جائت باسم تخليص الشعب من براثنه ة وهو اسلوب الاستعانة بعصابات من اسافل الناس وتسليطهم على رقاب الشعب تحت مختلف التسميات للاستعانة بهم في التخلص من المعارضين ومن يجرؤ على الانتقاد فقد راينا اناسا يحملون باجات خاصة تخولهم المرور في كافة السيطرات ويحملون السلاح عيانا بيانا لايخشون قانون ولانظام ولهم مقراتهم ويستخدمون عجلات حكومية وليس لهم صفة حكومية وعندما يتجرأ احد بالسؤال عنهم تتنكر الحكومة وتنفي وجودهم مع ان جولة بسيطة خارج المنطقة الخضراء تكفي لاثبات تحكمهم بالشارع لا بل ان تاثيرهم وصل الى الحد خلف علاقة مع القوات الامنية والتحكم بتعيينات قياداتها مما وفر لتلك العصابات من الدخل أو السطوة والنفوذ في مناطقها مما يجعلها اقوى من الاجهزة الحكومية وتطورت الجريمة تحت سمع وبصر الجميع ودفع المواطن المسالم ثمن خلق هذه الظاهرة الإجرامية الخطيرة. وقد ترافقت هذه الظاهرة مع ظاهرة اخرى نمت حتى توحشت في العراق، وهي مطاردة الاشخاص المستقلين واعتبار الشخص المستقل عدواً للحكومة وعدواً للدولة، فقط لأنه اختار الإستقلال وإرضاء ضميره الوطني والأخلاقي، ويصبح هذا المستقل كأنه شخص أجرب في المجتمع يتم ابعاده عن المناصب او منافع وفي الحد الأدنى تجاهله واعتباره غير موجود مهما كانت كفاءته مستعيرين شعار جورج بوش من لم يكن معنا فهو ضدنا في حين يتم تقييم الأفراد من خلال علاقتهم بالطبقة السياسية الحاكمة وتحويلهم إلى دمى تحركهم تلك الطبقة أينما وكيفما شاءت .
يضاف الى ذلك كله لجوء الطبقة السياسية الى الاستعانة ببعض أجهزة الإعلام الطائفية او التي تعمل ضمن اطار مافيات الفساد التي يمولها رجال اعمال ممن تضخمت كروشهم باموال السحت الحرام ، سواء كانت فضائيات طائفية أو صحف أو مجلات أو عبر الانترنت. هذا الإعلام الطائفي دوره مدمر بكل معنى الكلمة، هو يقوم بدور تخريبي للنسيج الاجتماعي في العراق ويشعل فتناً طائفية بكل ما يترتب على ذلك، ولا أحسب أننا بحاجة إلى تقديم أمثلة على ما يجره هذا الإعلام الطائفي في مجتمعنا .
مع تطور هذه الاوضاع اتسعت الفجوات بشدة بين الطبقات وظهرت طبقة واسعة من الساخطين على أحوالهم، وأكثر المجموعات التي استفادت من هذا السخط هي التيارات المتطرفة السنية والشيعية على حد سواء التي استفادت في تجنيد بعض هؤلاء الساخطين لصفوفهاوعملت كذلك على تنمية وتضخيم السخط لديهم، وشراء ذمم البعض الآخر من هؤلاء الساخطين، وأصبح الإسلام السياسي يوظف هؤلاء في كافة المهام التي يريدها من التصويت في الإنتخابات إلى العنف والإرهاب وقد سعت الطبقة السياسية مبكراً الى تشجيع الجماعات المتسربلة بستار الاسلام بمختلف مذاهبة في الجامعات حتى ظهرت لدينا ظاهرة الجامعات التي تستطيع ان تعرف توجهاتها من خلال اسمائها وكذلك بالسعي الى استصدار قرارت عفو عن اتباع تلك المجموعات تحت مظلة المصالحة الوطنية حتى لو ادى الى ضرب قرارات القضاء في عرض الحائط ثم سعت الى استغلال المساجد والجوامع والحسينيات في بث الافكار الطائفية التي تعمق من الشرخ في الجسد العراقي ولم تكتف الطبقة السياسية العراقية بخلق وحش التطرف الديني ولكنها ساهمت في خلق مناخ يجعل من الإنسان العادي متطرفاً بالمزايدة بالدين عن طريق تمويل المنابر التي تدعو الى تكفير الاخر لتحويل الهوس الديني إلى تطرف بغيض ثم إرهاب خطير.