بذل السُّلطان محمَّد الثاني جهوده المختلفة للتَّخطيط، والتَّرتيب لفتح القسطنطينيَّة، وبذل في ذلك جهوداً كبيرةً في تقوية الجيش العثمانيِّ، وإعداده نفسيا ولوجيستيا وخلال العمليات العسكرية ضاعف السَّلطان محمَّد الثَّاني الهجوم على الأسوار، وجعله مركَّزاً عنيفاً ضمن خطة أعدَّها بنفسه أيضاً لإِضعاف العدوِّ، وكرَّرت القوَّات العثمانية عمليَّة الهجوم على الأسوار ومحاولة تسلُّقها مرَّاتٍ عديدةٍ بصورة بطوليَّةٍ بلغت غايةً عظيمةً من الشَّجاعة، والتَّضحية، والتَّفاني، وكان أكثر ما يرعب جنود الإمبراطور قسطنطين صيحاتهم، وهي تشقُّ عنان السَّماء، وتقول: (الله أكبر، الله أكبر) فتنزل عليهم كالصَّواعق المدمِّرة.(فهمي، 1987، ص106)
وشرع السُّلطان محمَّد الفاتح في نصب المدافع القويَّة على الهضاب الواقعة خلف غلطة، وبدأت هذه المدافع في دفع قذائفها الكثيفة نحو الميناء، وأصابت إِحدى القذائف سفينة تجاريَّة فأغرقتها في الحال، فخافت السُّفن الأخرى، واضطرت للفرار، واتَّخذت من أسوار غلطة ملجأً لها، وظلَّ الهجوم العثماني البرِّيِّ في موجاتٍ خاطفةٍ وسريعةٍ هجمةً تلو الأخرى.
وكان السُّلطان محمَّد الفاتح يوالي الهجمات، وإِطلاق القذائف في البرِّ، والبحر دون انقطاعٍ ليلاً ونهاراً، من أجل إِنهاك قوى المحاصرين، وعدم تمكينهم من أن ينالوا أيَّ قسطٍ من راحةٍ، وهدوء بالٍ، وهكذا أصبحت عزائمهم ضعيفةً، ونفوسهم مرهقةً كليلةً، وأعصابهم متوتِّرةً مجهودةً تثور لأيِّ سبب، وأصبح كلُّ واحدٍ من الجنود ينظر إِلى صاحبه، ويلاحظ على وجهه علامات الذُّلِّ، والهزيمة، والفشل، وشرعوا يتحدَّثون علناً عن طرق النَّجاة، والإِفلات بأرواحهم، وما يتوقَّعونه من العثمانيِّين إِذا ما اقتحموا عليهم مدينتهم.
واضطرَّ الإمبراطور قسطنطين إِلى عقد مؤتمرٍ ثانٍ، اقترح فيه أحد القادة مباغتة العثمانيِّين بهجومٍ شديدٍ عنيفٍ لفتح ثغرةٍ توصلهم بالعالم الخارجي، وبينما هم في مجلسهم يتدارسون هذا الاقتراح، قطع عليهم أحد الجنود اجتماعهم، وأعلمهم بأنَّ العثمانيين شنُّوا هجوماً شديداً مكثَّفاً على وادي ليكونس، فترك قسطنطين الاجتماع، ووثب على فرسه، واستدعى الجند الاحتياطيَّ، ودفع بهم إِلى مكان القتال، واستمرَّ القتال إِلى اخر اللَّيل حتَّى انسحب العثمانيُّون.
وكان السُّلطان محمَّد ـ رحمه الله ـ يفاجئ عدوَّه من حينٍ لآخر بفنٍّ جديدٍ من فنون القتال، والحصار، وحرب الأعصاب، وبأساليب جديدةٍ، وطرق حديثةٍ مبتكرةٍ غير معروفةٍ للعدوِّ.(فهمي، 1987، ص108)
ففي المراحل المتقدِّمة من الحصار لجأ العثمانيُّون إِلى طريقةٍ عجيبةٍ في محاولة دخول المدينة؛ حيث عملوا على حفر أنفاق تحت الأرض من مناطق مختلفةٍ إِلى داخل المدينة، وسمع سكَّانها ضرباتٍ شديدةٍ تحت الأرض أخذت تقترب من داخل المدينة بالتَّدريج، فأسرع الإمبراطور بنفسه، ومعه قوَّاده، ومستشاروه إِلى ناحية الصَّوت، وأدركوا: أنَّ العثمانيِّين يقومون بحفر أنفاق تحت الأرض للوصول إِلى داخل المدينة، فقرَّر المدافعون الإِعداد لمواجهتها بحفر أنفاق مماثلة مقابل أنفاق المهاجمين لمواجهتهم دون أن يعلموا، حتَّى إِذا وصل العثمانيُّون إِلى الأنفاق الَّتي أعدَّت لهم ظنُّوا: أنَّهم وصلوا إِلى سراديب خاصَّةٍ وسرِّيَّةٍ تؤدي إِلى داخل المدينة ففرحوا بهذا، ولكن الفرحة لم تطل إِذ فاجأهم الرُّوم، فصبُّوا عليهم ألسنة النِّيران، والنَّفط المحترق، والمواد الملتهبة، فاختنق كثير منهم، واحترق قسمٌ اخر، وعاد النَّاجون منهم أدراجهم من حيث أتوا.
لكنَّ هذا الفشل لم يفتَّ في عضد العثمانيِّين، فعاودوا حفر أنفاق أخرى، وفي مواضعٍ مختلفةٍ من المنطقة الممتدَّة بين «أكرى فبو» وشاطئ القرن الذَّهبي، وكانت مكاناً ملائماً للقيام بمثل هذا العمل، وظلُّوا على ذلك حتَّى أواخر أيام الحصار، وقد أصاب أهل القسطنطينية من جرَّاء ذلك خوفٌ عظيمٌ، وفزعٌ لا يوصف حتَّى صاروا يتوهَّمون: أنَّ أصوات إقدامهم، وهم يمشون إِنَّما هي أصواتٌ خفيَّةٌ لحفرٍ يقوم به العثمانيُّون، وكثيراً ما كان يخيَّل لهم: أنَّ الأرض ستنشقُّ ويخرج منها الجند العثمانيُّون ويملؤون المدينة، فكانوا يتلفَّتون يمنةً، ويسرةً، ويشيرون هنا، وهناك في فزعٍ، ويقولون: (هذا تركي! هذا تركي!)
ويجرون هرباً من أشباحٍ يحسبونها: أَنَّها تطاردهم، وكثيراً ما كان يحدث أن تتناقل العامَّة الإِشاعة، فتصبح كأنَّها حقيقةٌ واقعةٌ رآها أحدهم بعيني رأسه، وهكذا داخل سكانَ القسطنطينيَّة فزعٌ شديدٌ أذهب وعيهم؛ حتَّى لكأنَّهم سُكارى، وما هم بسكارى، فريقٌ يجري، وفريقٌ يتأمَّل السَّماء، ومجموعةٌ تتفحَّص الأرض، والبعض ينظر في وجوه البعض الاخر في عصبيةٍ زائدةٍ، وفشلٍ ذريع.
ولم يكن عمل العثمانيين هذا سهلاً، فإِنَّ هذه الأنفاق الَّتي حفروها قد أودت بحياة كثيرٍ منهم، فماتوا اختناقاً، واحتراقاً في باطن الأرض، كما وقع الكثير منهم في بعض هذه المحاولات في أسر الرُّوم فقُطعت رؤوسهم، وقذف بها إِلى معسكر العثمانيِّين.(فهمي، 1987، ص110)
مفاجأة عسكرية عثمانيَّة:
لجأ العثمانيُّون إِلى أسلوبٍ جديدٍ في محاولة الاقتحام، وذلك بأن صنعوا قلعةً خشبيَّةً ضخمةً، شامخةً، متحرِّكةً، تتكوَّن من ثلاثة أدوار، وبارتفاع أعلى من الأسوار، وقد كسيت بالدُّروع، والجلود المبلَّلة بالماء لتمنع عنها النِّيران، وأعدَّت تلك القلعة بالرِّجال في كلِّ دورٍ من أدوارها، وكان الَّذين في الدَّور العلويِّ من الرُّماة يقذفون بالنِّبال كلَّ مَنْ يطلُّ برأسه من فوق الأسوار، وقد وقع الرُّعب في قلوب المدافعين عن المدينة حينما زحف العثمانيُّون بهذه القلعة، واقتربوا بها من الأسوار عند باب رومانوس، فاتَّجه الإمبراطور بنفسه، ومعه قوَّاده ليتابع صدَّ تلك القلعة، ودفعها عن الأسوار، وقد تمكَّن العثمانيُّون من لصقها بالأسوار ودار بين مَن فيها وبين النَّصارى عند الأسوار قتالٌ شديدٌ، واستطاع بعض المسلمين ممَّن في القلعة تسلُّق الأسوار ونجحوا في ذلك، وقد ظنَّ قسطنطين: أنَّ الهزيمة حلَّت به إِلا أنَّ المدافعين كثَّفوا من قذف القلعة بالنِّيران حتَّى أثَّرت فيها، وتمكَّنت منها النِّيران فاحترقت، ووقعت على الأبراج البيزنطيَّة المجاورة لها، فقتلت من فيها من المدافعين، وامتلأ الخندق المجاور لها بالحجارة والتُّراب.(الرشيدي، 1989، ص144)
ولم ييأس العثمانيون من المحاولة، بل قال الفاتح، وكان يشرف بنفسه على ما وقع: غداً نصنع أربعاً أخرى.
زاد الحصار، وقوي، واشتدَّ، حتَّى أُرهق من بداخل المدينة من البيزنطيِّين، فعقد زعماء المدينة اجتماعاً 24 مايو داخل قصر الإمبراطور، وبحضوره شخصيَّاً، وقد لاح في الأفق بوادر يأس المجتمعين من إِنقاذ المدينة، حيث اقترح بعضهم على الإمبراطور الخروج بنفسه قبل سقوط المدينة، لكي يحاول جمع المساعدات، والنَّجدات لإِنقاذها، أو استعادتها بعد السُّقوط، ولكنَّ الإمبراطور رفض ذلك مرَّةً أخرى، وأصرَّ على البقاء داخل المدينة، والاستمرار في قيادة شعبه، وخرج لتفقُّد الأسوار، والتَّحصينات وأخذت الإِشاعات تهيمن على المدينة، وتضعف من مقاومة المدافعين عنها، وكان من أقواها عليهم ما حدث في يوم 16 جمادى الأولى الموافق 25 مايو، حيث حمل أهل المدينة تمثالاً للسَّيدة مريم العذراء (بزعمهم)، وأخذوا يتجوَّلون به في ضواحي المدينة، يدعونه، ويتضرَّعون إِلى العذراء أن تنصرهم على أعدائهم، وفجأة سقط التِّمثال من أيديهم، وتحطَّم فرأوا في ذلك شؤماً، ونذيراً بالخطر، وتأثَّر سكَّان المدينة، وخصوصاً المدافعين عنها، وحدث في اليوم التالي 26 مايو هطول أمطارٍ غزيرةٍ مصحوبةٍ ببعض الصَّواعق، ونزلت إِحدى الصَّواعق على كنيسة آيا صوفيا، فتشاءم البطريق، وذهب إِلى الإمبراطور، وأخبره: أنَّ الله تخلَّى عنهم، وأنَّ المدينة ستسقط في يد المجاهدين العثمانيِّين، فتأثَّر الإمبراطور حتَّى أغمي عليه.(الرشيدي، 1989، ص118)
وكانت المدفعيَّة العثمانيَّة لا تنفكُّ عن عملها في دكِّ الأسوار، والتَّحصينات، وتهدَّمت أجزاءٌ كثيرةٌ من السُّور والأبراج، وامتلأت الخنادق بالأنقاض الَّتي يئس المدافعون من إِزالتها، وأصبحت إِمكانية اقتحام المدينة واردةً في أيِّ لحظةٍ، إِلا أنَّ اختيار موقع الاقتحام لم يحدَّد بعد.(العمري، 1997، ص375)
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، الطبعة الأولى 2003م صص79-82
عبد السَّلام عبد العزيز فهمي، السُّلطان محمَّد الفاتح، فاتح القسطنطينيَّة، وقاهر الرُّوم، دار القلم، دمشق، الطَّبعة الرَّابعة، 1407هـ/1987م.
عبد العزيز العمري، الفتوح الإِسلاميَّة عبر العصور، دار إِشبيلية، الرِّياض، الطَّبعة الأولى، 1418هـ/1997م.
سالم الرَّشيدي، محمَّد الفاتح، الإِرشاد، جدَّة، الطَّبعة الثَّالثة، 1989م/1410هـ.