22 ديسمبر، 2024 8:49 م

دور التوظيف الأخلاقي للفن والأدب في البناء الاجتماعي

دور التوظيف الأخلاقي للفن والأدب في البناء الاجتماعي

غني عن البيان أن الإرث الفكري الهائل الذي بلغته الإنسانية في شتى جوانب المعرفة، هو حاصل  تفاعل الإنسان مع واقعه، من خلال محيطه الاجتماعي ،وبيئته، وخواص الفترة الزمنية التي يعيش فيها ،و المساحة المعرفية التي يتقوم بها فهمه لواقعه ..الخ ،وهذا التفاعل يجعل الإنسان متأثرا ومؤثرا بفعل المدركات العقلية، والمعطيات الحسيه، وبما تثيره مواقف الحياة المختلفة من شعور وجداني تجسد بما موجود لدينا وما وصل إلينا ،من مختلف الأعمال الفنية والأدبية والنتاجات الفكرية والثقافية عبر مختلف ألازمنه والعصور .
وعندما نتأمل في هذا الإرث الضخم الممتد حتى هذه اللحظة نجد أن الفنان والأديب يتخذ اتجاهات مختلفه ومتداخلة حسب الأداء الوظيفي الذي يؤديه كل اتجاه وإجمالا فبالإمكان تصور بعض مجالات هذه الاتجاهات :             
* هناك أعمال فنية وأدبيه عكست طابع الحياة الاجتماعية والنظم الاقتصادية والسياسية في هذه الفترة أو تلك دون أن يكون لهذه الأعمال تدخل أو رؤية نقدية تتفاعل مع واقع الحياة الموجود وإنما مثلت دور نقل وتصوير هذا الواقع كما هو بالشكل الذي أدى أن تصبح هذه الأعمال والنتاجات مادة غنية أثرت الدراسات والبحوث التاريخية بحقائق مهمة كان لها اثر في قطع شوط واسع من الجهد التاريخي المثمر.       
* وهناك اتجاهات كانت غايتها التعبير عن المعتقدات بمختلف أنواعها عكست طريقة تفكير الإنسان عبر الحقب  الزمنية المختلفة وتفسيره للظواهر والأحداث والوقائع بالشكل الذي يعكس للمتتبع تسلسل تطور الفكر الإنساني وانتقاله من البدائية إلى المراحل اللاحقة وما تخلل هذا التطور من أسباب قادت إلى حدوث مختلف التحولات والتغيرات في نظرة الإنسان وتفاعله مع معطيات الحياة المختلفة.
* في أعمال ونتاجات أخرى نجد تعبيرا عن شعور الإنسان بما حوله من جزئيات وتفاصيل تخص واقع حياته وما يتخللها من لذة وأفراح ورفاهية وسعادة ،وأحزان والآم ،ومعاناة وحرمان وهذه الأعمال والنتاجات كذلك تدلنا على العوامل والأسباب التي أدت إلى نشوء الظروف المختلفة وتأثيرها على معيشة الإنسان وراحته مما يعطينا تفسيرا لطبيعة هذه المرحلة أو تلك من التاريخ الإنساني. 
  وبالإضافة إلى الاتجاهات المتقدمة هناك  أعمال فنيه وأدبيه- وهي موضوع البحث- عالجت ما ينبغي على الإنسان من التزام تجاه القيم والمبادئ الأخلاقية من خلال تجسيد النواحي الايجابية في السلوك الإنساني والتأكيد على دور الإنسان الفاعل في إقامة الحياة على أسس تحفظ للمجتمع هيبته وتحافظ على كيانه من التصدع نتيجة الضعف والوهن الذي قد يصيب النظم الاجتماعية بسبب الحروب والأزمات والظروف المختلفة ،فمما لا شك فيه إن هذه العوامل أحدثت و تحدث شروخات في البنية الاجتماعية وفي العلاقات القائمة بين أفراد المجتمع نتيجة التدافع والتزاحم على تامين متطلبات الحياة بتأثير الظروف العسيرة، الأمر الذي يؤدي إلى انحسار ذلك الترابط والتواصل المعهود بين الأفراد ومن ثم سيادة أوضاع اجتماعية تصطبغ بصبغة الظروف المذكورة.
موضوع بحثنا هذا هو دور الأدب والفن في إعادة ترميم المنظومة الأخلاقية للمجتمع بعد الدمار والضرر الذي يلحقها نتيجة ظروف معينه  كالظروف التي مرت بنا ولا زالت تأثيراتها قائمة.
إلى أي حد يقترب أداء الكثير من الأعمال الفنية والأدبية من هذا الدور في ما نشهده اليوم من انفلات إعلامي وتزايد مستمر في وسائل النشر والبث الإذاعي  والفضائي؟ إلى أي حد يقترب من أداء ذلك الدور المفترض إن يقوم به كل فنان وأديب بل كل مثقف باعتباره داعية إصلاح وحامل رسالة تخاطب إنسانية الإنسان ومشعل نور يرفد الحياة الاجتماعية بما يجود به من إنتاج وإبداع فهو صاحب وظيفة غايتها نشر الوعي وكل ما له صله لبناء شخصية الإنسان بناء يؤدي إلى إشاعة المفاهيم التربوية والأخلاقية وترسيخ القيم الوطنية في المجتمع ،والمثقف ينطلق في مهمته هذه من حصيلته المعرفية وتجربته الاجتماعية وفقا لتفاعله مع معطيات محيطه الاجتماعي وبذلك فأن المثقف في كل مجتمع أمام مسؤولية كبيرة وهذه المسؤولية هي المحافظة على مفاهيم سليمة صالحة للتعامل الاجتماعي ومنع المؤثرات الطارئة نتيجة الظروف المختلفة من أن تلحق ضررا في المنظومة السلوكية الصحيحة لأفراد المجتمع ونعود للسؤال المتقدم إلى أي حد يقترب أداء الفنان والأديب اليوم من هذه المهمة ؟
لو تأملنا المشهد الثقافي وبما يعج من أعمال أدبية وفنية لوجدنا كم لابأس به يفتقد إلى الضوابط الأخلاقية فضلا عن مقومات العمل الإبداعي بسبب الانفلات الذي اشرنا إليه .وهذه الأعمال بالإضافة إلى خروجها عن الشروط المطلوبة في العمل الفني والأدبي فإنها ولا شك تمثل خطرا يهدد منظومة القيم الأخلاقية ويسئ إلى مستوى الحركة الأدبية والفنية بشكل عام وبما يعكسه من مستوى هابط.
لقد كان من نتائج الانفتاح الواسع الذي صاحب التغيير بعد عام 2003 أن وجد الكثيرون ممن حسبوا أنفسهم على الوسط الأدبي والفني فرصة لولوج الوسط الثقافي دون امتلاك المؤهلات المطلوبة فضلا عن عدم وجود النتاج الذي يشهد لهؤلاء بنوع من المساهمة الجادة في مجمل الأنشطة الثقافية، وإذا بنا نسمع ونرى هنا وهناك أصوات ناشزه ووجوه غير مألوفة وقد أخذت مكانها في المهرجانات الأدبية والأروقة الثقافية 0 وكانت النتيجة أن يأتي إلى عالم الأدب والفن من لا يحسن الصناعة ولا يتذوق الأدب ولا يعرف الفن ، ومن ثم تناهت إلينا أصوات وكلمات ومناظر خادشة للحياء منافية للذوق والشواهد كثيرة لا تخفى على القارئ اللبيب0
 من المؤكد إن المفردة الهابطة والصور الهزيلة عند ظهورها من خلال بعض الأعمال المحسوبة على النشاط الثقافي وبواسطة الوسائل الإعلامية المختلفة يعطي لهذه المفردات والصور مشروعية في التداول العام لأنها ستصبح بعد فتره مألوفة لدى أفراد المجتمع ومن ثم تتحول إلى أنماط سلوكية متداولة في حياتنا اليومية 0
واقع الحال يشير إلى كثير من تلك المفردات والصور التي أخذت طريقها إلى التداول الشعبي والي أجهزة الموبايل يتداولها الكبار والصغار رغم ما فيها من تأثيرات على الأخلاق والأفكار ومن ثم على السلوكية السائدة بشكل عام وبدلا من أن ترتقي تلك الأعمال إلى مستوى تبني المشروع الأخلاقي مع بقية روافد الأنشطة الثقافية فقد أصبحت بالضد من هذه المهمة بل وعاملا مشجعا لانتشار مفاهيم غريبة لا تنتمي إلى المنظومة الأخلاقية لمجتمعنا.
 قد يجد البعض في الكسب المادي مبرراً للاتجاه نحو أعمال ونتاجات لاترتقي إلى المستوى المطلوب وهذا ما برز بشكل واقعي ملموس في مختلف الأنشطة الفنية والادبيه وفي فترات اتسمت بأوضاع أوجدت عوامل متعددة ساعدت على رواج الأعمال الهابطة فكما هو معلوم أن الأوضاع القائمة قبل 2003 وضعت قيود على المشهد الثقافي لإبعاد المثقف بشكل عام عن ممارسة دوره في نشر الوعي وإيقاظ ذهنية أبناء المجتمع، بل أن السلطة في ذلك الوقت سعت إلى توظيف عمل المؤسسات الثقافية فضلاً عن الكوادر الأدبية والفنية نحو تمجيد النظام وتلميع صورته وإبراز بطولاته الوهمية بالإضافة إلى فتح كافة الأبواب أمام المستويات الهزيلة لإشاعة الفوضى والضجيج المفتعل والتكرار المقصود لمفردات وأعمال وعروض ومشاهد تتوجه إلى الجمهور بقصد إشغاله عن التفكير بمضامين ثقافية رصينة أو الاطلاع على جوانب ثقافيه تقوده إلى تحليل لما موجود من ظواهر وأحداث, أما بعد التغير فان الذي حصل كما قلنا إن المجال أصبح واسعا ً لكل من هب ودب بأن يدلو بدلوه في الدلاء، صحف ومجلات لا انتهاء لها وفضائيات وإذاعات يصعب عليك تعدادها ومهرجانات وجمعيات ومنتديات …الخ مما أحدث اضطرباً كبيرا لدى المتلقي أمام هذا الحجم الكبير من الحراك الإعلامي والثقافي بالشكل الذي ابرز إلى الوجود وجوه وأسماء لاحظ  لها من  الثقافة لامن قريب ولامن بعيد، مما أضاع على المثقف الحقيقي فرصة التوجه إلى المتلقي بخطاب يمتلك مقومات الإبداع الثقافي نتيجة اختلاط الأصوات وتداخل الألوان وتزاحم المزدحمين في الوصول إلى بقعة الضوء، هنا أصبح المثقف في أزمة وصار يعاني ضياعا ً في وسط يلتمس مختلف الأسباب للحصول على هذا المكسب وذاك المغنم من هذه الجهة أو تلك0
هذه الحالة شكلت إحباطا ً للمثقف والمتلقي في آن واحد، المثقف أصبح محبطا ً لشعوره بضياع معايير التقييم واختلاط الغث بالسمين وقد يزيد الإحباط عند صعود غير المستحق إلى الواجهة، والمتلقي كذلك لأنه في الوقت الذي يعتقد فيه إن وراء الأعمال الفنية والأدبية ضوابط ومعايير تحول دون مرور المستويات المتدنية وإذا به أمام ركام من نتاجات لا تقبلها ذائقة المتلقي الواعي وتشعره بالضجر والملل وعناء البحث هنا وهناك عن إنتاج أدبي أو عمل مسرحي أو نشاط ثقافي يلبي رغبته وتطلعاته0
في وسط هذا الجو تبرز ضرورة تعاضد الجهود وقيام المؤسسات الثقافية والواجهات الإعلامية بدورها المطلوب نحو إرساء أسس وقواعد رصينة لإعادة المكانة الحقيقية للمثقف واخذ دوره المطلوب في البناء الاجتماعي من خلال التقييم الجاد للإبداع الثقافي والإنتاج الرصين في شتى مجالات التوعية الثقافية الهادفة إلى الارتقاء بالمجتمع 0
مهمة المثقف اليوم تتطلب منه الاحاطه بجمله من الجوانب :ـ
 هناك تركه ثقيلة من المفاهيم والسلوكيات تولدت بسبب الأساليب والوسائل والمناهج التي اعتمدتها السلطة الحاكمه قبل 2003 مما هو معروف وملموس لمن واكب طبيعة تلك الفترة وما صاحبها من إشكاليات وقضايا متداخلة ،هذه التركة كان لها أثرها وانعكاسات على واقعنا الاجتماعي ،كيف نتخلص من أثار تلك التركه ،هذه إحدى الواجبات المطلوب من المثقف أن يتبناها بالأدوات التي يمتلكها والسعي بإيجاد ثقافة تتجه نحو إزالة ما خلفته  الفترة المذكورة من تأثيرات مختلفه في نفسية أبناء المجتمع.
 وهناك سلوكيات وثقافات وفدت ألينا بسبب الانفتاح الواسع الذي أعقب التغيير في عام 2003 استطاعت هي الأخرى أن تجد لها في الوسط الاجتماعي من يتفاعل معها ويعكسها من خلال السلوك والتصرف إلى واقع الحياة اليومية ،وهذا ما يضع المثقف كذلك إمام مسؤوليته الاخلاقيه في رصد ما وفد ألينا وتشخيص ما هو غير منسجم مع طبيعتنا الاجتماعية وقيمنا ومبادئنا التي  بها تتقوم خصوصية مجتمعنا وهويته التي تميزه عن غيره من المجتمعات .
والإبقاء على ما هو صالح ويرتقي بسلوكية الفرد إلى مستوى أعلى من السلوك الحضاري والوعي الفكري والثقافي بشكل عام .
 ومهمة المثقف كذلك ـ بالإضافة إلى ما تقدم وهي مهمته الأساسية- تقديم أعمال ونتاجات تتوجه إلى المجتمع غايتها خلق ثقافة تعيد للإنسان توازنه وتعيده إلى هويته الاجتماعية من خلال ترسيخ المفاهيم والقيم والوسائل المؤدية إلى رفع مستوى وعي الفرد بما يجعل منه عنصرا فاعلا ومؤثرا في حركة تطور المجتمع نحو الأفضل .
إنتاج الأديب وعمل الفنان لا يمكن بأي حال إن ينعزل عن الغاية المتوخاه منه وهو التوجه إلى المتلقي بماده ثقافيه وفكرية تساهم في تكوين رؤية صحيحة وإدراك لحركة المجتمع وتطوره ولطبيعة الأحداث وفهم الظروف وتأثيرها ومختلف العوامل والأسباب المؤدية إلى خلق هذه الحالة أو تلك بما يجعل من هذه الرؤية والإدراك حاجزا يحول دون التأثير السلبي الناتج عن مختلف الظروف والثبات على مقومات توازن شخصية الفرد الاجتماعية. 
ثمة قضية جوهرية بالنسبة للفنان والأديب وهي أن هناك معايير تقاس بها القيمة الأخلاقية لعمل الفنان وإنتاج الأديب,فلا شك أن نظرة المعايير الاجتماعية قد تختلف بين هذا البلد أو ذاك ،وهنا قد تكون القيمة الأخلاقية للأعمال والنتاجات الأدبية والفنية قيمه نسبيه حسب المعايير السائدة ،لذا فان ما يهمنا هو التزام  الفنان أو الأديب بخصوصية مجتمعه   وعدم تجاوزها أذا ما أريد لهذه الأعمال والنتاجات أن تحظى بمستوى جيد من القبول لدى المتلقي أو ذاك بسبب مجمل العوامل المكونة لخلفيته الثقافية والاجتماعية 0
وإذا كان اختلاف المعايير الاجتماعية يجعل من القيمة الأخلاقية لعمل الفنان أو الأديب قيمة نسبية فأن هناك معايير تجعل القيمة الأخلاقية قيمة موضوعية تكاد تكون موضع اتفاق على نطاق أوسع ولاتقتصر على بلد دون آخر وهذه المعايير هي قيم السماء الصادرة عن الدين بصفته احد المعايير السلوكية، ومن المؤكد أن هذه المعايير تمثل الأساس الفكري الذي يضع تفسيراً لمختلف الظواهر الاجتماعية ومنها الظاهرة الثقافية وما يترشح عنها من أعمال ونتاجات0
والمحصلة من ماتقدم أن المسؤولية الأخلاقية تفرض على الفنان أو الأديب أن يلتزم بالمعايير المكونة لرؤية المجتمع وتكوينه الأخلاقي، وهذا لايعني أن الفنان أو الأديب لابد أن يكون منقاداً لتفكير الوسط الاجتماعي ملبياً لقناعاته وإنما المطلوب من الفنان والأديب أن يقدم نتاجاً وعملاً يرتقي بالمجتمع نحو مستوى أعلى من الوعي الثقافي مع المحافظة على الثوابت الأخلاقية التي يؤمن بها المثقف والإنسان البسيط في آن واحد لأن هذه الثوابت هي قوام استقرار حياتنا الاجتماعية0 وإذا تتبعنا مسيرة الحركة الأدبية والفنية نجد أن الأعمال والنتاجات التي قدمت قبل أربعة أو ثلاثة عقود من الزمن هي أكثر غزارةً وإبداعا وتعبيراً وتحظى بإعجاب كبير من المتلقي لدرجة أنها أصبحت مقياساً تقاس به الأعمال عندما يدور الحديث عن أعمال ونتاجات اليوم وكيف أصبح حال الفن ومستوى الإنتاج الأدبي بعد ما كان عليه من مستوى متميز في خصائصه الإبداعية والفنية ، ولعل تفسير ذلك يعود إلى إن الفنان والأديب في الفترات السابقة كان أكثر التصاقاً بمجتمعه وتقاليده وأخلاقياته الأمر الذي ينعكس على الأداء الفني والأدبي .
خلاصة الأمر إن الفنان والأديب لكي يرتقي إلى مستوى رسالته الموكلة  إليه لابد أن يراعي ثوابتنا الاجتماعية في نفس الوقت الذي يعمل فيه من اجل تطوير ثقافة الفرد من خلال التوظيف الأخلاقي لعمل الفنان وإنتاج الأديب كإحدى الحلقات المهمة في البناء الاجتماعي0 والله الموفق .