23 نوفمبر، 2024 10:32 ص
Search
Close this search box.

دور البحث التطبيقي في التطوير والتنمية

دور البحث التطبيقي في التطوير والتنمية

ليس هناك صعوبة في تبرير الجهد المبذول في مجال البحث التطبيقي والتطوير. فالفائدة الاقتصادية المتوخاة من هذه النوعية من الابحاث، هي التبرير الطبيعي لها. كذلك، فليست لدى العَالِم الذي يعمل في دولة متقدمة في مجال البحث العلمي الاساسي صعوبة في تبرير عمله… فأي اكتشاف ينتج عن ابحاثه سوف يؤثر بصورة مباشرة او غير مباشرة على ابحاث اقرانه في المجتمع ذاته. وبعض هذه الاكتشافات العلمية على الاقل، سيتحول الى تقنية تفيد مجتمعه ومن ثم المجتمعات الاخرى… وقد ثبت ان المجتمعات التي انتجت التقنيات العلمية الاساسية هي المجتمعات نفسها التي طورت هذه التقنيات المتقدمة وما تبع ذلك من سيطرة سياسية.
ويشكل البحث التطبيقي في المجتمع المتقدم جزءاً من شبكة تربط المستويات المختلفة من الجهد العلمي معاً، كما تربطها مع تركيبة المجتمع الاقتصادية والصناعية والتعليمية والسياسية والعسكرية والفلسفية. بل ان هذه الشبكة هي السمة المميزة لمجتمع متقدم علمياً، وهي التي تلتقط الجهود العلمية المبدعة وتستغلها لخدمة المجتمع. لذلك نجد ان العَالِم المتقدم ليس مطالباً بالبحث عن مسوغ لابحاثه الاساسية، فهو قد يظطر احيانا الى تبرير كمية الجهد الذي يبذله في احدى نواحي البحث او الاموال التي ينفقها في بحثه، لكن الحكمة وراء قيامه بالبحث العلمي الاساسي ليست موضع تساؤل من احد.
اما في مجتمعاتنا الآخذة في النمو، فان الشبكة غير متكاملة، ولا تؤلف نظاماً ذا معنى، فعناصر كثيرة من هذا التسلسل العلمي مفقودة تماماً او ضعيفة جداً. وحتى العناصر القوية في هذه الشبكة غير مرتبطة بالمجتمع ومعزولة بعضها عن بعض. فقد تألف اكثرها كنتيجة ارتباط بالعلم العالمي المتقدم، وبقيت على مرّ السنين مرتبطة بذلك العلم، كل عنصر على حدة، وكمثال على ذلك، فان كل باحث في العالم الاجنبي يعرف عشرات الباحثين المبتكرين المبدعين من محيطه الاجتماعي والعلمي… ويقرأ اعمالهم باستمرار، لكنه في الغالب لايدري شيئاً عن النشاط العلمي الذي يمارسه علمائنا ومبدعينا الآخرون، ولا يسمح به الا بعد نشره في مجلة غربية وبلغة غربية. واذا انجز عالم في مجتمع ثاني اكتشافاً ذا اهمية، فليست هناك شبكة في بلاده تلتقط هذا الاكتشاف، بل قد تلتقطه احدى الشبكات الاجنبية، ولن يستفيد منه بلده الا اذا حّول اولاً الى تقنية في المجتمع الاجنبي المتقدم، ثم ارجع الى بلده على صورة تقنية معلبة جاهزة يشتريها المجتمع المتأخر من دون ان يدري شيئاً عن مصدرها الاساسي.

* مجالات البحث التطبيقي
يتفق اغلب الباحثون على تضيف البحث التطبيقي الى اربعة مجالات:
1- البحث العلمي الاساسي: وهو الذي يهتم بالبحث عن الحقيقة فقط، وقد يكون موجه او غير موجه. والقصد منه استكشاف الظواهر الطبيعية لتفسيرها في محاولة لفهم الطبيعة. وهو لا يأبه عادة بما يمكن ان يقود اليه من فوائد اقتصادية…… فغايته هي انتاج المعرفة. وهذا النوع من البحث تضطلع به الجامعات ومؤسسات البحث العلمي، وهي كثيراً ما تتخذ شكل المبادئ والنظريات والقوانين العامة التي توضع في شكل دراسات وتقارير غالباً ما تقدم في المؤتمرات العلمية. وتعرض المعرفة المنتجة عنها في العادة في مجلة علمية محكمة مختصة معترف فيها من قبل اغلب الهيئات والجمعيات والاكاديميات العلمية.
2- البحث العلمي التطبيقي- وهو الجهد الذي يرمي الى تسخير الابتكارات العلمية لخدمة الحياة العملية من خلال تطبيق نتائج البحوث الاساسية في المجالات التخصصية، او بمعنى آخر هي تلك البحوث التي تسعى الى تطبيق حقائق علمية معروفة في حل مشاكل معينة او تحقيق اغراض محددة… وتظطلع بها الكليات التقنية… وتوجه الى تطبيق واستثمار وتطويع نتائج البحوث الاساسية لخدمة الانسان ورفاهيته، وهي تخدم عدة اغراض… وكثيراً ما يحافظ على سرية نتائجه او تنشر هذه النتائج في براءات اختراع مسجلة.
3- بحث التطوير التقني- وهو البحث الذي يحول الابتكار الى تقنية انتاجية او يعنى بالجمع بين الانجازات التكنولوجية والحقائق العلمية الجديدة للحصول على انجازات تكنولوجية اكثر وافضل، وتهدف البحوث التطبيقية الى ادخال تحسينات او اضافات صغيرة او كبيرة على آلية الانتاج القائم بحيث تزداد كفاءتها. وتتداخل فيه العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فاختراع جهاز لا يقود الى صناعة عالم يجرِ تطوير الصناعة بما في ذلك الابعاد الاخرى، كالتوزيع والتدريب والاعلان وغيرها.
4- بحث مواءمة او اقلمة- وهي البحوث التي تهدف الى حل المشاكل الناجمة عن نقل اساليب معروفة ومطبقة بنجاح من مجتمع الى آخر. وتنشأ هذه المشاكل عن وجود ظروف محلية في البيئة الجديدة لا وجود لها في المصدر الاصلي او اختلاف مستويات المعرفة والمهارة بل وحتى العادات الاجتماعية وتغيير مصادر الخامات… ولهذه البحوث اهمية كبيرة في المجتمعات النامية، فهي تحقق عائداً اقتصادياً سريعاً، كما انها تحل المشاكل الملحة الموجودة فعلاً في المجتمع.

لا تختلف الطبيعة العلمية بين نوع وآخر من هذه الانواع الاربعة وان اختلفت الاهداف، لانها جميعاً تركز على اساس واحد، هو اتباع الاسلوب العلمي للبحث عن حقيقة مجهولة، ويشمل النشاط العلمي في جميع البلدان وان اختلفت مستوياتها على هذه الانواع، ولكن بتفاوت الاولويات والنسب من بلد الى آخر تبعا لظروف البلدان المختلفة واوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية…..
اننا اذا نظرنا الى الجهد العلمي في العراق والوطن العربي، لوجدنا ان جلّه يجري في المجال الاول. فبينما ينشر العلماء في منطقتنا حوالي الثلاثة الآف بحث علمي من مستوى عالمي في السنة، فان براءات الابداع/ الاختراع العربية وحتى العراقية تكاد تكون مفقودة، وكذلك فان اكثر التقنيات تستورد جاهزة.
ان ما يقلل من قيمة البحث التطبيقي الاساسي في اقطارنا هو تشرذمه. فالتقدم العلمي وما يتبعه من تقدم تقني يتم عادة في خطوات صغيرة، وكل منها ناتجة عن كشف علمي او اكثر.
ومساهمة علمائنا في اغناء المجتمع العلمي والعالمي صغيرة جداً. فمجموع المنشورات العلمية الصادرة يعادل (0.01%) فقط من المنشورات الصادرة عن بريطانيا وحدها. وهي بذلك لا يمكن ان تؤلف الا جزءاً يسيراً من الجهد العالمي الاجنبي. كذلك، فان عدم تركيزها في موضوعات معينة يساهم في ضياعها في هذا البحر الكبير من الابحاث العلمية العالمية.
ومن هنا يطرح السؤال الذي يضايق الباحثين في العلوم الاساسية الذين يعملون في العالم النامي، ونحن بالتأكيد منهم: لماذا يجب على مجتمعنا الفقير ان يدعم بحوثهم؟ هل نحن المستفيدون منها؟ الا ينبغي ان نركز ابحاثنا في التطبيق؟ ولا يكفي ان نبرر ابحاثنا الاساسية بانها مساهمة منا في خدمة العلم العالمي، فمساهمتنا في ذلك تكاد لا تذكر، ومردودها على كل حال ليس لنا، ونحن في امس الحاجة الى كل جهد وكل مال لتوفير البنية الاساسية والخدمات المبدئية لمجتمعنا المتخلف. فاذا اردنا اجراء بحوث اساسية في دولتنا المتخلفة والمشابهة لها، فعلينا ان نجد تبريراً مقبولاً لذلك، والا فلنوقف هذا الهدر من الطاقات النادرة والاموال… وفي محاولة لايجاد تبرير قد يقبله المجتمع.
ارى، ان الاسباب التالية تجعل من الضروري دعم الابحاث الاساسية في عراقنا وبقية الاقطار العربية:
1- ابقاء الباحث مطلعا على الفكر العلمي ليحافظ على مستواه بوصفه استاذاً، واكثرية الباحثين العراقيين والعرب اساتذة.
2- ايجاد دراسات عليا في مجتمعنا وتطويرها. وهذا غير ممكن من دون ابحاث اساسية على مستوى عال.
3- استعمال الباحث بوصفه مركز تنصت يتتبع التطورات المهمة في العلم العالي، فيتمكن من لفت نظر مجتمعة الى التطورات التي قد تؤثر على ذلك المجتمع.
اذا قبلنا بهذه الاولويات، علينا ان نعدل ادارتنا العلمية لتوجيه علماء العلوم الاساسية ليلعبوا ادواراً تخدم هذه الاولويات. فالنقطتان (1و 2) مثلا يتطلبان منا ان نحاول تشجيع الاتساع بدلاً من التعمق، فيما يقتضي النقطة (2) ايلاء اهمية قصوى للبحوث التي تنطوي على تدريب طلاب الدراسات العليا، فنشجع باحثينا على اختيار الابحاث الاكثر ملائمة لتدريب الباحثين، ونحثهم على ان يستعينوا بالطلاب بدلاً من الفنيين مهما كان الفنيون اكثر كفاءة.
وتتطلب النقطة (3) ايضا ان ينخرط علماء العلوم الاساسية اكثر فأكثر في المهمات الاستشارية لصناع القرار وفي تعريب العلوم. هذه الادوار التي ذكرت ليست سوى امثلة، واني لا اطرحها بوصفها برنامجاً مدروساً. ولكن، مهما كانت طبيعة الادوار التي سنوكل بها باحث العلوم الاساسي، فانه ينبغي ان نعدل نظام الدعم والاعتراف والمثوبة لدينا لنشجع اداءه. فقد اعتدنا اقتباس انظمة الدول المتقدمة التي تحدد الادوار وفقاً لاولويات مغايرة. وفي دولتنا المتخلفة والمشابهة لها. نجد حتى العالم الذي يتحمل عبء الاولويات الثلاث يظل غير معترف به ولا ينال اي ثواب. ولعل هذا هو السبب في ان علماءنا الاساسيين يشعرون بالاحباط ويبدون وكأنهم لا يعلمون الى اين هم سائرون.
انه لأمر جيد ان نشد ازر الباحث العلمي الذي ينشر ابحاثه في مجلة دولية، وان نكافئه بالترقيات والجوائز. لكن لا ينبغي في الوقت ذاته ان يتحمل المجتمع عبء التكاليف وهو لا يستفيد شيئاً من نشر هذه الابحاث اللهم الافائدة معنوية هامشية وفي دوائر محدودة.
كذلك من الضروري ان نتيح للباحث العلمي ان يعمل في البحث الذي يختار. الا انه وبالقدر ذاته من الضرورة ينبغي ان ننشئ نظاما للمكافآت يحفز ذلك العالم على انتاج الشيء الذي يقدم افضل خدمة للمجتمع الذي انفق الكثير على تدريبه ولا يزال ينفق على بحوثه.
ان بامكاننا ان نستورد معداتنا وعلماءنا بل حتى افكارنا….. لكن يظل مهماً لأي مجتمع ان يحدد اهدافه، وان يعمم النظام الذي يساعده على تحقيقها…. ان واجب الجماعة العلمية في الدول المتأخرة وخصوصا الجيل الذي برهن على مقدرة علمية، ان يستنبط ادواراً مفيدة لمجتمعهم ومقبولة لديه. عليهم ان يقترحوا الادوار وان يقنعوا الجهات المسؤولة بتبنيها، وان يطوروا الوسائل التي تكفل اداءها. فهل هم قادرون على ذلك؟!
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات