لم تكن حالة العنف الطائفي والمذهبي في يوم من الأيام جزءاً من الحياة الاجتماعية في العراق. فهي شيءٌ طارئ في تاريخ العراق، ولم يمر العراق – كما تذكره مراجع التاريخ – في حال اقتتال داخلي منذ مئات السنين. ولكن هذه الحالة الطارئة مرجعها ليس الاختلافات المذهبية بين الطوائف الدينية، وإنما ترجع أصولها إلى الصراع حول السلطة وتقسيم مراكز ومصادر القوة وتوزيع الثروات فيما بينها. فالمتسلط الذي ينتمي إلى مذهب فكري وعقائدي معين عندما يحارب فئةً ما تنتمي إلى مذهب مغاير لا يقوم من أجل مذهبه وخطه الفكري بقدر ما يحاربهم من اجل سيطرته على مواقع السلطة وتحكمه على مصادر القوة والثروة. فتلعب الاختلافات العقائدية محوراً لتأجيج المشاعر ورص صفوف الأتباع من اجل المقاومة الآخر والبقاء في مواقع السلطة والسيطرة. فالاختلافات المذهبية والعرقية إنما هي واجهة إلى مسألة الصراع، وليست هي الجوهر وحقيقة الأمر.
فالخلاف المذهبي والعقائدي هو شيء غريب عن طبيعة المجتمع العراقي. وهذا ملاحظ من أن التعددية العقيدية والفكرية والإثنية هي سمة هذا الشعب (العراقي) العريق. فقد كان عبر تاريخه مهد ليس للعديد من الأديان فحسب، وإنما لكل المذاهب الفكرية والكلامية والفقهية، بل وحتى منشأً لأغلب المدارس الفلسفية واللغوية والطرق الصوفية، ومرتعاً لكل الغزاة والدول والحضارات. فالعراق – بصورة خاصة وأكثر من أي بلد آخر في العالم الإسلامي ومنطقة البحر المتوسط – كان المنطلق لهذا التلون الفكري، ومرتعاً للفئات المختلفة في العقيدة والفكر والمذهب. فالشعب العراقي جمع فيه المسلم والمسيحي وحضن اليهود والبهائيين، وتزاوج فيه السنة والشيعة، وتعايش فيه الموحدين والأزديين.
من هذا نجد أن الاقتتال الطائفي هو حالة مفروضة على الشعب العراقي من قبل الغرباء، حركات كانت أو دول، تصاعدت حدتها بعد الاحتلال الانكلو-أمريكي على العراق ودخول تنظيم القاعدة في الصراع. فقد تم تسويق العراق على انه دولة طارئة فيه ثلاث فئات اجتماعية كبيرة متصارعة على السلطة والحكم والموارد. وقد تفاقمت حدة هذا الصراع الاجتماعي الطارئ من خلال تأصيل هذا التقسيم الأثني- المذهبي في تركيبة الدولة ومؤسسات النظام السياسي بنظام المحاصصة الفئوية، حتى تم أخواء العملية الديمقراطية من جوهرها. وأزدادت
حدة هذا الصراع الاجتماعي عن طريق الجماعات المسلحة الأجنبية التي عملت على تأجيجه يومياً بسفك دماء الأبرياء ومن كل الطوائف بدون تفريق.
فمعادلة تأصيل التفرقة الداخلية في العراق في داخل العملية السياسية الديمقراطية إنما هي الأحزاب القائمة على أسس مذهبية وإصول أثنية-عُرقيـّة.
إن العملية الديمقراطية لا يمكن أن تنجح وتدوم بغير وجود أحزاب سياسية فاعلة وعاملة في الساحة السياسية. فهي المؤسسات التنظيمية التي تجمع الاتجاهات المختلفة نحو أهداف سياسية موحدة وتوجه الطاقات البشرية المتناثرة والمبعثرة نحو برامج اجتماعية وإقتصادية منظمة ومعينة.
فالأحزاب في عملية تنافسها للوصول الى السلطة ضمن النظم الديمقراطية لا بد أن يكون لها “برنامج سياسي”، فهو المرادف أو الإنعكاس الى الأيديولوجية التي يستند عليها وعلى أساسه يتم التنافس فيما بينها على أصوات المواطنين. فالبرنامج السياسي يتصل بصورة حصرية على طرح البدائل وإيجاد الحلول للمعضلات والأزمات التي تعصف بالأمة وبالنظام السياسي، والتي منها كيفية إدارة الدولة بصورة كفوءة وبيان برامج التنمية الاقتصادية والمشاريع النهضوية التي ترفع بأبناء الأمة في طريق التطور والحضارة وبرامج الخدمات والمساعدات الإنسانية التي ستقوم بها فيما إذا فازت بالإنتخابات وتولت السلطة السياسية. فالبرنامج السياسي هو خطة عمل لقيادة الدولة، وطرح بدائل لما هو سائد في الساحة السياسية. فالبرنامج السياسي الذي يطرحه كل الحزب هو بيت القصيد في التنافس داخل العملية السياسية في النظام الديمقراطي.
تتصف الساحة العراقية بسيطرة الأحزاب المذهبية والإثنية/القومية على الحياة السياسية، وهذه الأحزاب الرئيسية في العملية السياسية قائمة على أسس عقائدية أو إنتماءات عرقية. وبما أن الأسس العقائدية الدينية والمستندة على مبادئ لاهوتية نابعة من المذاهب الفقهية المتعددة والمدارس الكلامية المختلفة، فإن مثل هذه الأحزاب الإسلامية هي في طبيعتها التكوينية منظمات سياسية تكون قصرية (حصرية) على من يؤمنون بخطها العقائدي المذهبي، ولا يمكن أن تكون شمولية تستطيع استقطاب أغلب أفراد الشعب العراقي. فهي متمحورة حول طائفتها وفرقتها التي تنتمي لها. فحتى الأحزاب الإثنية/القومية من الكردية إلى التركمانية إلى الآشورية والكلدانية إنما قائمة على دوغمائية الانتماء القومي الفئوي المحدود. فلا يمكن أن نتوقع من العربي أن ينتمي لحزب كردي، أو التركماني عضواً في الحركات الآشورية أو الكلدانية أو العربية. فالأساس الحزبي القائم على الانتماء القومي والفكر العقائدي الطائفي هو
الذي يحجر الانتماء لمثل هذه الأحزاب ويجعلها متقوقعة على أبناء الطائفة أو القومية الفئوية، ولا يتسع للجميع. فهم مصداق الآية الكريمة: ((وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ، فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ))، بمعنى أن لكل حزب منهم ايديولوجية فقطعوا الأمة الى فرق، وكلٌ مبتهج بطائفئته وجماعته.
فنحن بحاجة الى أحزاب شمولية أحزاباً وطنية، بمعنى أن تكون جامعة وتستطيع لم شمل جميع المواطنين بغض النظر عن إنتماءاتهم الفئوية الضيقة التي ولدوا في بيئتها. فكل مواطن يولد في بيئة دينية ومذهبية وقومية وإثنية خاصة، فيحسب إنتمائه لها بدون قد قصد أو إرادة، فيتعصب لذلك الإنتماء الوراثي أو البيئي الذي يعيش في أغواره.
وبما أن أحزابنا السياسية الفاعلة على الساحة السياسية العراقية نشأت في زمن أنظمة عسكرية وشمولية، فأن تركيبتها التنظيمية هي في الغالب هرمية، وقيادتها عادةً ما تكون سرية، وإيديولوجياتها مبدئية، وبرامجها في التغيير السياسي تنحصر في عملية تغيير النظام الديكتاتوري بطرق ثورية (راديكالية). ولكن ما يفرقها عن بعض التجارب الحزبية في الأنظمة الديمقراطية هو افتقادها لبرامج سياسية في إدارة الدولة وإعطاء البدائل لنقلة نوعية في طبيعة الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لتخطي مساوئ النظام الديكتاتوري السابق أو النظام السياسي السائد بعد الإحتلال. فلم تستطع الأحزاب السياسية في الساحة العراقية من الانتقال النوعي من كونها تنظيمات معارضة إلى تنظيمات وطنية جامعة.