تكاد تختزل مأساة سنة البصرة التراجيديا السنية في العراق كله، هذه المدينة التي بناها عمر بن الخطاب وكانت مركزا ومنبعا لعلوم الفقه والحديث واللغة تضيق اليوم بفاتحيها وبناتها، وتسشتعر العار من أسماء من مصرّوها وأدخلوها التاريخ وجعلوها شيئا مذكورا، رغم أن مساجد البصرة القديمة والزبير وأبو الخصيب، وقبور الزبير وطلحة والحسن البصري وابن سيرين، وعشائرها القديمة كالسعدون والدواسر والغانم والراشد وآل الزهير وغيرهم من البيوتات القديمة، كل هذه تشهد على سنية المدينة وعراقتها وأصالتها وعروبتها الضاربة في التاريخ.
لا يمكن النظر إلى حادثة اغتيال الأئمة الخمسة بمعزل عن السياق العام للحرب الطائفية في العراق، فسنة البصرة هم تحت المقصلة الشيعية الإيرانية منذ 2003، وبعد أن كانوا أغلبية السكان حتى ستينات القرن الماضي؛ تحولوا بفعل هجرة الكثيرين منهم إلى دول الخليج النفطية وزحف أرياف العمارة والناصرية على المدينة وضواحيها؛ تحولوا إلى أقلية كبيرة تتجاوز نسبتها 35 بالمائة من مجموع السكان حتى دخول الإحتلال الأمريكي، لكن المليشيات الشيعية والنفوذ الإيراني القوي فيها قد ساهما بإفراغ المدينة من أهل السنة عبر اغتيال العلماء والوجهاء وروّاد المساجد، واغتصاب الجوامع وتهجير العشائر السنية، كما حدث مع عشيرة السعدون التي حكمت البصرة فترات طويلة، ورغم أن من تبقى من السنة في المحافظة هم قلة قليلة لم يعرف عنها طائفية أو اعتداء أو إيذاء لأحد، إلا أن عملية التغيير الديموغرافي ظلت مستمرة، ولربما كان (قهر الجغرافيا) عاملا مساعدا في ذلك، فسنة البصرة يفتقدون إلى امتدادات جغرافية وسكانية مع بقية سنة العراق، أما الجارة الكويت فلم تقدم لهم أي عون يذكر، ولم يكونوا يوما جزءا من اهتماماتها رغم الأواصر التاريخية والاجتماعية والمذهبية التي تجمعها بهم.
وبعد فترة الإستقرار النسبي التي أعقبت (صولة الفرسان) لجأت حكومة المالكي إلى محاربة المكون السني في البصرة عبر طريقة جديدة، وهي طرح (ممثلين) لهم أمام الشاشات، لكنهم في الحقيقة والغون في التآمر عليهم، فكان الدور الذي لعبه وما زال المعمم خالد الملا، والذي عرف بتقلباته الفكرية والمذهبية، والشبهات التي تدور حول ذمته المالية، فقد تحول من بعثي وعضو للمجلس الوطني السابق يسبح بحمد صدام ليل نهار ويدبج في مدحه المقالات والقصائد إلى (مناضل) قديم ومعارض لسياسات (البعث الصدامي)، وأحد المعجبين والمنبهرين بالخميني وثورته (الإسلامية) كما يؤكد هو في كل لقاءاته التلفزيونية واحتفالات السفارة الإيرانية والمؤسسات التابعة لها التي يشارك فيها باستمرار، وهو يصر دائما على نفي أي ممارسات طائفية أو مضايقات يتعرض لها سنة البصرة، كما أنه قد برّأ المليشيات الشيعية في مناسبات متعددة من كل الجرائم التي قاموا بها، وكتتويج لجهوده في خدمة المشروع الطائفي الشيعي قامت قوات الجيش والمليشيات بمحاصرة ديوان الوقف السني في البصرة العام الفائت، وفرضت ممثل الملا المدعو محمد بلاسم كمدير لأوقاف المنطقة الجنوبية، خلفا للشيخ عبد الكريم الخزرجي الذي عرف باعتداله وتسامحه.
مدير الوقف الجديد في البصرة والذي سطا على إدارته بمعونة مالكية عصائبية كان له دور مشبوه في تسليم موارد الوقف السني بيد الحكومة وأحزابها الطائفية، هذا إضافة إلى أن رئيس حمايته هو من قيادات مليشيا ما تعرف بعصائب أهل الحق، فتمت مصادرة إرادة البصريين في اختيار من يدير أوقافهم ومساجدهم، والتي تم اغتصاب العشرات منها في المحافظات الجنوبية من أول يوم للاحتلال وحتى يومنا هذا تحت سمع وبصر المرجعيات الشيعية والأحزاب التي تنتمي لها، وكانت آخر جرائم خالد الملّا التحريضية هي تصريحه بأن من قتل أئمة المساجد في البصرة هم نازحون من المحافظات السنية، في محاولة منه لتبرئة ساحة المليشيات والزج بمستضعفي المحافظة والنازحين إليها في أتون السجون والمعتقلات، عبر فبركات إعلامية اعتدنا عليها منذ سنوات.
حين سقطت الموصل وبعض مدن وسط العراق وغربه بيد ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أصدرت المرجعية الشيعية وعلى رأسها السيستاني فتواها بما أسمته (الجهاد الكفائي) وبدأت حشود المتطوعين من بعض الطائفيين والعاطلين عن العمل وغيرهم بالالتحاق بـ(الحشد الشعبي)، لكن هذه المرجعية وقفت تتفرج بصمت على مذابح أهل السنة في البصرة وديالى وشمال بابل وحزام بغداد، ولم تكلف نفسها عناء إصدار نصف فتوى تحث الحكومة فيها على الإسراع بتشكيل (الحرس الوطني) الذي يفترض أن يحمي المناطق السنية من (داعش) و(ماعش)، وظل ساسة الشيعة يتحججون بضرورة أن يمر هذا القانون عبر مجلس النواب، وأنه لا يجب مقارنة هذا الموضوع بقضية (الحشد الشعبي)!!.
أما وقد وقعت المصيبة وسفكت دماء آلاف الأبرياء من سنة البصرة وقتل علمائهم وهجرت عشائرهم كالسعدون وغيرهم تحت مرأى المعممين الشيعة وحكومتهم فقد آن الأوان لتشكيل قوة خاصة من أبناء السنة لحماية مساجدهم وعلمائهم وأبنائهم ومناطقهم من اعتداءات المليشيات الإرهابية عليها، ولا أعتقد أن أشد المصابين بعقدة (السنة فوبيا) سيخشون من أن يقوم هؤلاء بانقلاب عسكري أو ثورة مسلحة في البصرة، لأنهم علاوة على كونهم أقلية في المحافظة حاليا فهم معروفون بطبيعتهم الوادعة والمسالمة والمؤمنة بالتعايش مع الشيعة وباقي مكونات المحافظة، أما محاولات تسطيح القضية وتمييعها فقد أثبتت التجارب أنها ليست سوى محاولات كسب للوقت لإخراج من تبقى من السنة منها، ولعل البصريين يأملون خيرا كثيرا في زيارة الدكتور سليم الجبوري الأخيرة لهم ومشاركته أحزانهم بفقد هؤلاء العلماء، ويأملون كذلك بأن تتوج هذه التحركات بإجراءات عملية يكون على رأسها تشكيل فوج من أبنائهم لحمايتهم، وإلا فسوف يأتي يوم يقال فيه (كان هناك سنة في البصرة)!!.