19 ديسمبر، 2024 7:55 ص

دموع صديقة الملاية دموع صديقة الملاية

دموع صديقة الملاية دموع صديقة الملاية

أخبرني صديق أسكنه الهجر الباريسي اغترابا طويلا ، وبات لا يفرق بين ابتسامة سيمون دي بوفار وظلال وجه جدته التي لم يبق من خيالها سوى طيف حكايات عن جنيات حقل الرز وفراشات البستان وسمك الفرات وهو يقفز فوق سوابيط ليالي الأهوار ويداعب شفاه النجوم بالقبلات ..

إنه يكاد ينسى طيف الصورة العراقية لولا أسطوانة الأغاني التي كانت الرابط الوحيد لذاكرته ليستجمعَ البلاد التي هجرها منذ ثلاثين عاماً . ويقول : إنه لكي يتذكر شيئا من ليل بغداد ، وكليات باب المعظم ومقاهي الميدان وأرصفة أبي نؤاس فأنه يذهب لصديقة الملاية ليجمع مع صوتها نثار ذلك النأي المتباعد بسبب ظروف الوطن الذي عمقَ جروحهُ بالحروب والمنافي وصنع الدموع المدافة بالخبز وبطاقاتِ التموين وبشظايا المدافع .

ويقول صديقي : إن أصدقاءه الفرنسيون عندما يسألونه عن هذه البحة الجميلة لصوت صديقة الملاية ، يقول لهم : تلك مدام بغداد وقد جلبتها هنا لتستمع بها السيدة باريس .

أتذكرُ رغبة صديقي . واتساءل عن بغداد ( المدام ) .وكيف تغادرها بهجة الأصوات الى مهاجر الدول المجاورة . مسرحيون ، مغنون ، تشكيليون ….فنانون من شتى رؤى الاشتغال ، يسافرون بعيدا عن مدامهم ويتركون صديقة الملاية وحدها تأن في نهار الصالحية الكئيب حيث كانت زالت الإذاعة مدمرة ، ومبنى التلفزيون تطبخ فيه العوائل المهجرة حزن اليوم العراقي ، فيما مبنى وزارة الاعلام ، أغلقت نوافذه بالطابوق والاسمنت ..وأسدل الستار على أزمنة ، كانت رغم عذاباتها ومحنتها وشموليتها تعطي شيئا من نغم القيثار والصوت الصباحي لبلبل الإذاعة وبرنامج أصوات لا تنسى ، وأخرى من ذاكرة مقامات أحلامنا .

يزعل صديقي من رد كهذا ويهتف بتساؤل منزعج : يا أخي تريد أن تعيدنا الى الوراء . الى زمن الصحاف ، واللحاف ، والجفاف …

أرد : أنا لاأريد عودة لزمن أعرف إنه لن يعود ، ولكني أريد العودة الى زمن فيه بعض ممكنات الحب والفن متوفرة في ظل حلم طبيعي لصباح تشرق فيه حنجرة صديقة الملاية في صباح مدام بغداد .

يسألني : وكيف ؟

أقول : أسال الحكومة .

يرد : الحكومة همها أكبر ، هاجس الامن وتحديات الواقع ، واشكاليات ماتركه بريمر وتبعات المحاصصة ، واختلاف المنهج الجديد على شخصية تعودت 35 عام على نمط معين من الثقافة والتفكير والولاء .

قلت : أنا معك في كل هذا . ولكننا كنا نسمع فيروز كل صباح من الإذاعة العراقية. 

قال : وبعدها تسمعون أنشودة ياشبل زين القوس ..سلم على القسطل .

قلت : عندها لست مجبرٌ على سماع الأنشودة وأغلق المذياع . لأن احدٌ لم يرغمني على السماع .

قال : عليك أن تصبر .

قلت : على الحكومة أن تنتبه وترعى الفن بشيء من الحرص اكثر مما تقدمه اليوم.إن بقي الإهمال هكذا ، سيضيع الصوت العراقي والفن العراقي . ومدام بغداد ستخاف حتى أن تطلق صوت صديقة في مذياع مقهى من مقاهيها .

قال : أنا أثق بالحكومة .

قلت : وأنا ايضا ولكني أحمل قلقي المشروع .

صمت . صديقي ..لا أدري إن كان راضيا عن رؤاي وأرائي . قال : لنعود الى صديقة الملاية لتهتف لنا شئياً من تذكر طفولتنا .

غنت صديقة الملاية .قال ستبتهج باريس كلها .وعسى مدام بغداد تبتهج ايضا .

كانت صديقة تغني ، يتساقط من أحداقها دمع .يختلط بدمع آتٍ من عيون مدام بغداد …

أحدث المقالات

أحدث المقالات