23 ديسمبر، 2024 9:56 ص

يقول بياجيه : يبكي البشر لأن حواسهم لم تعد تتحمل ما يسكنهم من ضغط بدني ونفسي جراء فقدان أو خسارة أو خذلان ، فيكون البكاء جزءا من تخفيف الاحمال الروحية التي قد تقود الى انهيار الاعصاب.

أظن أن البكاء لصيق لحظتنا الأولى ، فالوليد حين ينهي المخاض بعسر ، لن يخرج لا ضاحكا ولا صامتا ، أنما هناك لا ارادية جسمانية وشعورية تدفعه الى البكاء ، ولا أدري لماذا مواليد المعدان يخرجون صامتين ، وقلما اسمع في بيوت القصب التي تلاصق سكن المعلمين بكاء عاليا من طفل ولد للتو، وهناك ظاهرة أخرى اكتشفتها أن الاباء يتعمدون سحب جواميسهم عن المكان ليلة الولادة ويذهبون بها بعيدا حتى لو كان مخاض زوجاتهم ليلا ، وفسر شغاتي هذا الأمر ويقال : أن الجواميس حين تسمع بكاء الاطفال في الليل تصيبها كآبة غامضة.

سألته : وهل تبكي الجواميس ؟

قال :نعم .

ــ متى ؟

ــ حين تشعر أن ضرعها هرم وأن قفاها صار يتسلى به الاطفال ضربا بالعصى ودون مبرر.

قلت : هذا ما أسميه شيخوخة الجواميس.

ــ نعم بكاء شيخوخة الجواميس.

كل يوم تمر قطعان الجواميس أمامي ، هو منظر لصباح بدأت اعرف تفاصيله ، وأدرك أن تلك الحيوانات بلونها المعتم لا تظهر سعادة ما في حياتها كما القطط والكلاب وحتى الخراف ، أنها تسير بكسل وتحس أن وجوهها معتمة فيما لا تسأل صاحبها لماذا لم يغسل طين القيلولة اليابس التي يغطي جسدها ربما لأنها تشعر أنها ستعود الى الماء في الصباح وسيغسله دون منة من أحد.

صمت الجواميس في سيرها البطيء وحزين اشعر به مقدمة لذلك النواح الذي يسكن دواخلها حين تكون عاجزة أن تمنح سطل الحليب ، مما يضطر صاحبها وبحزن ووداع صامت أن يرسل على قصاب من الجبايش يأتي ويسوم سُعرها ، ويشتريها ثم يحولها الى لحم تشويه مطاعم الكباب أو تطبخه قدور البيوت الحضرية .

لكن المؤثر والمحزن في مشهد القصاب والجاموسة ، أن عملية نقلها الى الجبايش بزورق غير ممكنة لثقل الحيوان ، مما يضطره لذبحها في باحة القرية وأمام الجميع ، لحظتها يسود الحزن كل البيوت ، وتذرف دموع خفية من بعض الاجفان حزنا على هذا الرحيل الدموي واستعادة لذكرى صباحات هذا الجاموس منذ ولادته وحتى سكين القصاب.

بكاء الجواميس بكاء في الملامح قد لا تصاحبه دموع ونحيب ولطم على الخدود والصدور ، وبياجيه يعود ليقول لنا :أن دمار الكون البشري لداخل البشر هو في بكاءه الصامت .

هذا الصمت هو الحزن الاخر لكائنات يصل وزنها الى مئات الارطال ولا يتحركْ في جفنها مشهد دمعة واحدة تسال على وجهها  حيث لا تملك تلك الكائنات خدودا لتهطل فيها امطار الحزن ، ما تملكه سوى هذا الصمت والمشي الرتيب في كل يوم ، من الزريبة الى الماء وبالعكس.

ذات يوم اخبرني شغاتي وبحزن :ان جاموسته ( رعشه ) هرمت ولم تعد تعطي حليبا وعليه أن يذهب الى الجبايش ليجلب القصاب حتى يشتريها .

حزنت ايضا ، فقد كانت جاموسته المفضلة ، وكنت طوال هذه السنوات اراقب سيرها السيمفوني الحزين وهي تمر امام نافذة الصف .

قلت :اريد أن اودعها واراها لوحدي .

ضحك وقال : هي في الزريبة مستلقية  ورفضت أن تذهب مع الجواميس الاخرى في آخر قيلولة لها .

دخلت الى مضجعها ، رأيت حزنا غامضا في ملامحها ، وكأنها تعرف تماما المصير الذي يلاحق قدر الحيوان كما في الدارج الشعبي ( أكل يا عنز والدباغ يولاك )…

ستذبح غدا وسيأخذون لحمها الى جمر مناقل المطاعم والقدور فيما يذهب جلدها الى الأرصفة حيث يصنعون منه احذية لا تعرف وهي تحط خطواتها على الممشى أنها كانت في ذات يوم جاموسة عجزت مشاعرها أن تذرف دمعة واحدة عندما ادركت أن نهايتها قريبة وأن القصاب سينحرها في صباح الخد في ساحة القرية.