دلالات المقاطعة والمقاطعين

دلالات المقاطعة والمقاطعين

في السياسة، كما في الحياة، تُقاس المواقف بنتائجها لا بشعاراتها، وبما تُحدثه من أثر في الوعي والواقع، لا بما تُعلنه من نوايا.

والمقاطعة، موقفٍ سلبي أو احتجاجٍ صامت، ولها دلالات عميقة، قد تكشف أحيانًا عن عجزٍ أو رفضٍ للواقع دون محاولة تغييره.

وهي تتجلّى في ثلاث صور أساسية، تشكّل معًا مرآةً تعكس وعي المقاطعين وطبيعة موقفهم من الشأن العام.

مع ملاحظة ان ما نقصده هنا هم المقاطعون الشيعة وليس اصحاب الحسابات الوهمية على مواقع التواصل الاجتماعي ممن ينسبون انفسهم لجهة سياسية شيعية وهم من مناطق اخرى وبعضهم خارج العراق وهدفهم احداث الوقيعة بين الشيعة والتشويش على الناخب الشيعي.

الدلالة الأولى:

إن كنتم ايها المقاطعون تحملون مشروعًا سياسيًا تؤمنون أنه أعمق رؤيةً وأصدق نيةً وأجدر بتحقيق مصالح الناس من مشاريع الآخرين، فكان الأجدر بكم أن تدخلوا الساحة وتطرحوا مشروعكم أمام الجمهور، ليفاضل الشعب بينكم وبين غيركم.

فالديمقراطية لا تُدار من مقاعد المتفرجين، ولا تصنع البدائل من خارج الميدان. والاكتفاء بالمقاطعة مع الادعاء بأنكم تملكون الحل، هو كحال من يحتفظ بدواءٍ في خزانته ولا يقدّمه للمريض، ثم يلومه لأنه لم يشفَ.

السياسة فعل إيجابي لا يُقاس بالأماني ولا بالنقاء المجرد، بل بالقدرة على الفعل والتأثير.

الدلالة الثانية:

إن كنتم تعتقدون أن الآخرين فاسدون وأنكم الأطهر والأصلح، فتذكّروا قول الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام:

“وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم”

(سورة يوسف، الآية 53). فمن ذا الذي يزكّي نفسه بعد نبيٍّ أقرّ بضعف النفس البشرية؟

السياسة ليست ميدان ملائكة، بل ساحة بشرٍ يخطئون ويصيبون. ولو أن كل من خشي الفساد اعتزل، لما وُجد في التاريخ مصلحٌ واحد. كان الأولى بكم – إن رأيتم الفساد مستشريًا – أن تقدّموا مشروعًا عمليًا بديلًا، لا أن تكتفوا بالاعتراض اللفظي.

الدلالة الثالثة:

إن قررتم المقاطعة فهذا حقّكم، ولا أحد يصادر عليكم حرية الموقف، لكن عليكم أن تدركوا أن المقاطعة فعل سلبي، والفعل السلبي لا يُنتج أثرًا تغييريًا. ومن لم يشارك لا يملك أن يحاسب من شارك، لأن من صوّت اختار ومن قاطع فوّت. ونتائج الانتخابات هي مسؤولية من حضر وصوّت، لا من انسحب واعتزل.

ولا يحقّ لمن امتنع أن يفرض على الناس خياره أو يهاجم من مارس حقه في التصويت، فحدود الحرية تقف عند حدود الفعل المشروع شرعًا وقانونًا وعرفًا. فكما أن المقاطعة حقّ لكم، المشاركة حقّ لغيركم، ولا وصاية لأحد على وعي الناس وخياراتهم.

ومن زاوية أخرى، فإن المقاطعة بالطريقة التي تُطرح اليوم، وبما تتخذه من طابعٍ مناطقيٍّ ضيّقٍ يتركّز في المناطق الشيعية تحديدًا، تُعدّ فعلًا خطيرًا في مآلاته، لأنها لا تُوجَّه ضد نظامٍ سياسي بعينه بقدر ما تُوجَّه ضد المكوّن الذي يمثّل الثقل السياسي الأكبر في البلاد.

إن اتهام الشيعة – ناخبين ومرشحين – بالفساد العام هو فعل هدمٍ لا إصلاح، يُضعف الوجود السياسي الشيعي، ويُهدد تماسكه وحقّه في التمثيل الوطني.

إن خطورة هذا النمط من المقاطعة تكمن في أنها لا تستهدف تصحيح المسار، بل إفراغ الساحة من القوى التي تمثّل هذا المكوّن، لتُترك البلاد لمن يريد إعادة إنتاج التهميش والوصاية.

أحدث المقالات

أحدث المقالات