4 نوفمبر، 2024 9:34 م
Search
Close this search box.

دك عيني دك

هنالك أناس يتنبأون مسـبقاً بما سيحدث بعد اعوام أو عقود من الزمن ، وهم ليسوا من المشعوذين قراء البخت والطالع ، بل علماء أو ادباء يستشعرون بمسار وحركة التاريخ وتطور الحضارة والمدنية ، و أحد هؤلاء كان الاديب الفرنسي الراحل (جول فيرن) ، والذي كتب عدة روايات في الخيال العلمي ، لكن اشهرها على الاطلاق كانت رواية (ثمانون يوماً حول العالم ) ، والتي تدور حول رجل استطاع الدوران حول الارض عبر وسائل النقل المتاحة يومها وخلال اقل من ثلاثة اشهر .

تنبأ (جول فيرن) في رواياته باختراع الغواصات والطائرات والصواريخ ، وتنباً كذلك بنزول الانسان على القمر وبأن السباق الفضائي سيكون حصراً بين الروس والامريكان ، مع العلم إن الكاتب توفي عام 1905 ، أي في مطلع القرن الذي تحققت فيه نبؤاته واحلامه الخيالية الواسعة .

يعتبر الكاتب المصري (علي سالم) صاحب مسرحية مدرسة المشاغبين احد هؤلاء المتنبئين بالمستقبل ، حيث كتب اواخر الستينيات من القرن الماضي تمثيلة قصيرة سماها (التلفزيون سنة الفين) ، وقد مثلها في وقتها ثلاثي اضواء المسرح ، أي سمير غانم والمرحومين جورج سيدهم والضيف احمد مع ممثلة مصرية لم اعد اذكر من كانت . تنبأ الكاتب في تمثيليته أن تصبح شاشة التلفزيون كبيرة جداً بحيث يظهر فيها الشخص بحجمه الطبيعي ، وأن يستطيع المشاهد من مشاهدة عدة قنوات تبث من مختلف دول العالم ، لكنه للأسف لم يتنبأ بظهور الروموت كونترول بحيث يستطيع المشاهد من تحويل القناة وهو جالس على كرسيه ، ففي تلفزيون علي سالم كان المشاهد مضطراً لتغيير القناة بيده على الطريقة السائدة يومها ، أما اسوأ ماتنبأ به الكاتب فهو العولمة الغنائية !! .

في التمثيلية يظهر الضيف احمد جالساً مع زوجته يشاهدان برنامجاً مملاً على التلفزيون ، فيقوم بتغيير القناة فيظهر على الشاشة سمير وجورج وهما يغنيان اغنية بموسيقى اوربية غربية ، الاغنية تقول (سـو سـو سو لا لالي ، ولالي ولالي سو لا لالي ) . يلتفت الرجل نحو زوجته إذ إنهما لم يفهما كلمة من كلمات الاغنية ، فيقلب القناة الى تلفزيون هاواي ، تظهر راقصتان ترتديان تنانير من القش وتعلقان قلادتين من الزهور حول عنقيهما (يمثل دور الراقصتين جورج وسمير ) ، وبعد موسيقى هادئة وحالمة يغنيان اغنية (سو لا لا لي) ، يضجر المشاهد من الاغنية المكررة فيقلب القناة . يظهر له جورج وسمير هذه المرة وهما يرتديان جلبابين (دشداشتين) اسودي اللون وكل يعتمر برأسه طاقية صعيدية (عرقجين) ، يبدأ جورج سيدهم بالكلام باللهجة الصعيدية (فهو بالأصل صعيدي) : ميسـاء الخيير ، تيليفزيون جيرجا يحييكم ويكدم الكم هذي الغنيية ، وبلحن بطئ وحزين يغنيان ( سيو سيو سيوا لا لا لـي ، ولا لـي ولا لـي سيوا لا لالي ) وجورج يقلب الاغنية الى لطمية ومناحة . يفزع المشاهد مما يراه فيقلب القناة ، وللمرة الرابعة يظهر جورج وسمير بملابس كابوي من تكساس والمسدسات بحزاميهما ، وبعد عزف سريع على الكيتار يبدءان غناء نفس الاغنية ولكن بلحن الغرب الامريكي .

إن ماتنبأ به علي سالم في مسرحيته ، حدث ما هو اسـوأ منه فعلاً ، فقد اختزلت الفضائيات وشبكة الانترنيت المسافات وقاربت بين البلدان ، فصرنا نعلم موعد صلاة المغرب في مسقط ، أو درجات الحرارة المتوقعة ليوم غد في الدار البيضاء ، ونحن متسمرون في مكاننا امام التلفزيون . كما صرنا نقرأ جرائد الحكومة والمعارضة في تونس أو لبنان أو غيرهما من البلدان ، من خلال البحث على شبكة الانترنيت .

لم تعد المعرفة حكراً على فئة أو طائفة قليلة من الناس ، ولايدهشنا كون سوء الخدمات التي يعاني منها الشعب العراقي ، هي نفسها التي يشكو منها اهل سين من البلدان العربية ، أو إن الفساد الاداري والمالي الذي نتحدث به عندنا ، له شبيه في بلاد عربية آخرى .

في اواخر عام (2009) امطرت السماء بغزارة على مدينة جدة السعودية ، وحدثت سيول كبيرة وغرقت شوارع المدينة بالمياه ، وجرفت السيول عدداً كبيراً من المنازل والسيارات واوقعت عدداً من الضحايا (123 ضحية) . تبين لاحقاً إن المدينة السعودية ذات الشوارع العريضة والعمارات الشاهقة ، ليس فيها شبكة لتصريف مياه الامطار ، بل ليس فيها مجاري مياه ثقيلة اصلاً ، وقد اعتاد اهل جدة على استدعاء سائقي التانكرات لسحب المياه الثقيلة من خزانات المساكن والعمارات ، وتفريغها في بحيرة اصطناعية تبعد قرابة سبعة عشر كليومتراً عنها ، وقد سميت هذه البحيرة الضخمة من باب السخرية والتهكم ببحيرة المسك ، وليس الامر بمستغرب على العرب الذين يسمون الاشياء بنقائضها .

حادثة السيول هذه تسببت بهيجان الرأي العام السعودي ضد مدراء وموظفي بلدية جدة ، مما اضطر الحكومة السعودية لفتح باب التحقيق وذلك لتهدئة خواطر الناس والبحث عن المتسببين بهذه الكارثة ، ولأول مرة تعترف الحكومة السعودية بوجود رشاوى واختلاسات في دوائرها وتحيل عدداً من كبار الموظفين الى القضاء ، وهذه الحادثة نبهتنا الى إن الفساد الاداري والرشوة عملة عربية متداولة في البلدان النفطية الغنية ، وليست حكراً على البلدان الفقيرة وصغار الموظفين فقط  . 

لقد تسببت الاقمار الصناعية وامكانية حصول وسائل الاعلام على الصور والافلام منها بفضح امور كثيرة كانت الانظمة العربية تتستر عليها ، فصار بوسع الصحفي الجالس على مكتبه في باريس او لندن ، أن يعلم بحصول مظاهرة طلابية امام جامعة القاهرة وكيف تعاملت الشرطة معها ، وأن يعلم بحصول حادثة انقلاب شاحنة على طريق عمان الزرقاء مما تسبب بأزدحام على الطريق وتوقف حركة السير . لم يعد بوسع الحكومات اغلاق الحدود وطرد الصحفيين الاجانب ، كما لم يعد بوسعها حجب اخبار الصفقات المشبوهة  والتستر على الفساد والمفسدين تحت شعار حماية الامن القومي ، وسياسة تكميم الافواه التي كانت متبعة حتى اواخر القرن الماضي لم تعد تجديهم نفعاً ، فلقد اتاحت لنا الفضائيات وشبكة الانترنيت مجالاً واسعاً للتحرك والاطلاع على اسرار انظمة الفساد العربية ، واتاحت لكل من يستطيع الكتابة أو التصوير نشر صور وافلام ووثائق على شبكة الانترنيت ، تفضح وتدين انظمة حكم الحصونة والعربنجية . 

في اواخر عام (2012) امطرت السماء على بغداد بغزارة ، واستبشرنا خيراً بالمطر ولكن … ، أكتشفنا إن مجاري مياه الامطار مغلقة وغرقت الشوارع لعدة ايام بمياه المطر . بعد ايام من الحادثة كنت اشاهد على اليوتيوب افلاماً قصيرة وفيها سخرية وتعليقات لاذعة عن غرق شوارع الاسكندرية بالمياه ، ثم قدمت قناة النيل كوميدي برنامجاً للسخرية من غرق شوارع القاهرة ، ومن يفتش في الانترنيت سيجد إن موجة الامطار التي حدثت اواخر العام الماضي والاسبوع الاول من العام الحالي قد شملت كل من لبنان والاردن ببركاتها ، وقد فاضت مجاريهما وغرقت شوارعهما كذلك بالمياه ، وهذا دليل قاطع على إننا امة عربية واحدة …. في طيحان الحظ وصخام الوجه .

قضية العرب في المشرق أو المغرب واحدة ، ولا يوجد اختلافات كبيرة في جوهر النظام العربي الرسمي  ، بل الاختلافات الحقيقية بين نظام وآخر هي في الهوامش والتفاصيل وشكل الديكور المحيط بالسلطة .

تتلخص القضية العربية في مواطن يطلب من الدولة أن تخدمه وتساعده ، وحاكم يعتقد إن خزينة الدولة هي ميراث جده السادس عشر ولايجوز لأحد غيره وغير اولاد عمه التصرف بها ، وطبقة سياسية مازالت تعيش في العصر العثماني ، وتظن إنها تمن على المواطن حين تفتح له مستشفى أو تبني لأولاده مدرسة ، وشلة من الطبالين والمزمرين الذين يحرقون البخور حول موكب الحاكم وحاشيته ، ويلقون القصائد بين يديه في ذكر محاسنه وتذكير الشعب بفضائله ومكرماته عليهم .

في شهر شباط 2011 وبعد نجاح الثورتين السلميتين في كل من تونس ومصر ، ظن بعض الليبين الحالمين بأنهم سيتمكنون من اسقاط نظام القذافي بالمظاهرات ، فخرجت مظاهرات سلمية في بنغازي وواجهتها اجهزة الشرطة والامن بالعنف (الثوري) المعتاد من النظام الليبي ، فحمل الكثير من ابناء بنغازي السلاح وواجهوا العنف بالعنف ، وعندما سئلوا عن السبب قالوا إن نظام القذافي كان سيبدأ حملة مداهمات واعتقالات ضد معارضيه بعد سقوط رفيقيه مبارك وبن علي ، ولو لم نبادر نحن بمحاولة اسقاطه فسيقوم بأبادتنا .

بعد استطاعة المعارضين من السيطرة على مدينة بنغازي وضواحيها ، ارسل القذافي دباباته وطائراته لقصف المدينة وتدميرها ، فتدخل المجتمع الاوربي مضطراً خوفاً من حدوث مذبحة جديدة على ابوابه كما حصل في البوسنة ، ودخلت عدة انظمة عربية تكره القذافي لأرسال السلاح ومساعدة المتمردين . اثناء تقدم قوات التمرد من طرابلس دبت حالة من الهياج والفوضى ، بحيث ظهرت عدة فصائل محلية تحمل السلاح ولا ترتبط او تنسق مع المجلس الاعلى لقيادة التمرد ، وبعد مقتل القذافي وانسحاب انصاره الى داخل الصحراء ، تغيرت الاجواء السياسية بحيث لم يعد احد يقول صراحة إنه مازال يؤيد النظام السابق أو يقف ضد الثورة .

مرت اشهر على انتهاء الثورة وظل النزاع على السلطة مستمراً ، والتحق عدد من المقاتلين السابقين بصفوف الجيش والشرطة اللتان اعيد تشكيلهما ، في حين اصر البعض على طلب التعويضات واحقية التعيين في وظائف مدنية رافضين تسليم اسلحتهم أو حل تنظيماتهم المسلحة ، كما ظلت مؤسسات الدولة الليبية ضعيفة وغير فاعلة ، وبسبب النزاعات المستمرة لم تستطع الحكومة الليبية من اعادة بناء المباني والمصانع التي تهدمت بفعل المعارك السابقة بين جيشي القذافي والثوار .

في آذار عام (2012) استضافت اذاعة ال (بي بي سي) العربية في لندن ، احد قيادات الصف الثاني للثورة في برنامج تحاوري مع الجمهور ، وسأله المذيع عما حققته الثورة بعد عام من انتهاء المعارك ، وأخذ الرجل يشرح مانجحوا وما فشلوا في تحقيقه ، ووجهت له عدة اسئلة عبر الهاتف من المستمعين . ثم استطاع المذيع من الاتصال هاتفياً بالمدير المسؤول عن ملف المقاتلين في طرابلس ، وسأله لم لم تستطع الحكومة من استعياب جميع المقاتلين وحل المليشيات ؟؟ ، فقال له لأن عددهم كبير وهو بحدود اربعمائة وعشرة الاف مقاتل ، وقد طلبنا منهم القاء السلاح ، فأصروا على الاحتفاظ بأسلحتهم لحين قيام الحكومة بتعويضهم عن الاضرار التي اصابت مساكنهم وتعيينهم في وظائف مدنية ، فالكثير منهم لايريدون الخدمة في الجيش أو اجهزة الامن .

سأل ضيف الاستديو (وهو ليبي كذلك) المدير أن يعيد عليه الرقم الذي ذكره سابقاً ، ثم سأله من اين حصلت على هذه الارقام ؟؟ ، فاذا بالمدير يخبره بأن ملفات المقاتلين طالبي التعويض وعناوينهم موجودة لديه ، مما اصاب الضيف بالوجوم وكأن احداً ما قد صفعه على وجهه . لاحظ المذيع ما حصل فأنهى المكالمة مع طرابلس والتفت للضيف ليسأله عما حدث ، ومرت لحظة صمت ثقيلة قبل أن يقول الضيف : لقد كنت احد المسؤولين عن تزويد المقاتلين بالأغذية والادوية اثناء الثورة ، والى يوم مقتل القذافي لم يكن لدينا سوى سبع وتسعون الى ثمان وتسـعون الف مقاتلاً فقط ، فمن اين جاء الباقون ؟؟؟ .

تصوروا ثلاثمائة واثنا عشر الف مسلح لم يكن مشتركاً بالثورة ، جاءوا بعدها يطالبون الدولة بوظائف وتعويضات عن تضحياتهم المزعومة ، في حين إن عدد سكان ليبيا لايتجاوز الستة ملايين نسمة ، ولا تصدر سوى مليون وربع برميل نفط يومياً . كيف سـتستطيع الحكومة الليبية من اعمار المدن المدمرة وبناء الدولة ، إذا لم تعوض هؤلاء الطفيليين المسلحين وتسد افواههم وجيوبهم بالمال ، وكيف يستطيع أي نظام من العمل مادام لديه ميليشيات تمنع البناء والاعمار وتبتز الدولة ؟؟ ، وما يقال عن ليبيا يقال مثله وامثاله الكثير عن العراق ودول عربية آخرى ، فنفس الاغنية القديمة تكرر وتعاد ولكن في كل مرة بلحن مختلف .

في مطلع الثمانينات من القرن الماضي ، كان تلفزيون بغداد يعيد بث مقطعاً تمثيلياً مشهوراً من احدى المسرحيات ، ويظهر في المقطع حفلة عرس واهل العروس والعريس يتبادلون التهاني والقبلات والفرقة الموسيقية تعزف الالحان الشعبية ، وفجأة يقتحم الحفلة رجل غريب ويأخذ بالرقص بحماسة فرحاً بالعروسين ، فيقترب منه خال العروس ويسأله أن كان ابن عم العريس ؟ ، لأ ، ابن خاله ؟ ، لأ ، من اقاربه ؟ ، لأ ، من اصدقائه ، لأ ، فيسأله قابل ادك على راسي ؟ ، فيلتفت الراقص لعازف الطبلة قائلاً : دك عيني دك . يتكرر نفس المشهد مع اخو العريس الذي يظنه من اقارب العروس ، وكل الاسئلة اجوبتها لأ ، ودك عيني دك . اهل العروس واهل العريس يوقفون الفرقة الموسيقية عن العزف ليسألوا الرجل الغريب عن هويته ، فيقول : اني ابن خالة الخياطة التي خيطت ثوب العرس !!! ، ودك عيني دك .

وأخيراً : لو توقف ابناء عم وخال وبقية اقارب وعشيرة الخياطة التي خيطت ثوب العرس عن ولوج الاعراس ،  والتسابق على موائد الطعام قبل اقارب العروس والعريس ، لعاش العراق والكثير من الدول العربية بخير وسلام وشكراً .

أحدث المقالات