وعلى مشارف نهاية العام الأول لبناء المصادم لم يخض مهديّ الانتخابات الرئاسية، إذ تمّ له التجديد فورًا، وكان الرأي العام المصريّ يدعو إلى خوض الانتخابات وخاصة فلول النظام القديم، فضلاً عن الذين يضربون في الخفاء وتحت الأحزمة، لكن خروج الشعب عن بكرة أبيهم ليدعوا له لفترة ثانية قد ألجم ألسنتهم وأزاغ أبصارهم وزلزل أقدامهم.
السنة الثانية
*استغرق عمل التشطيبات اللازمة عامًا كاملا، كما تمّ بناء مبانٍ فوق النفق مباشرة وقد تمّ تشطيبها أيضًا، تلك المباني الغرض منها فيما بعد تلقي البيانات القادمة من تجارب المصادم لإحصائها.
وتمّ الانتهاء من كلّ المصاعد الكهربائيّة، تلك التي تساعد الخبراء في التنقل عبر كلّ غرف المصادم ومساحاته المختلفة، كما أنّها تساعد على نقل مكونات المصادم إلى الأماكن المناسبة والتي سوف توضع فيها أجهزته، وبمجرد وصولها إلى الأماكن المناسبة يعكفون الخبراء على دراستها وكيفية تركيبها.
وما زال الخبراء خارج المصادم يعملون على تصميم المسارع الخطيّ ليناك 64 وقد قطعوا فيه شوطًا كبيرًا.
بينما آخرون يعملون على تكوين أكبر المجسات على الإطلاق وهو مجس أطلس، كان يشير فهمان للخبير فتوضع القطعة في المكان المشار إليه.
انسلبَ فهمان أثناء مشاهدة تشطيبات أعمال البناء ل FCC-2 وتركَ الإنشاءات الفنيّة والهندسيّة وذهبَ إلى حجرته المخصصة له ليشاهد مناقشة رسالة الدكتوراه لصديقه العزيز.
***
فتحَ التلفاز.
تقديم الرسالة: آخر السنة من هذا العام “ليس المراد شهر ديسمبر”.
قال الإعلاميّ: بعد لحظات يحين موعد مناقشة رسالة الدكتوراه التي وضعتْ تصورًا لشراع ضوئيّ يستطيع السفر بعشْر سرعة الضوء، وهذا الشراع الآن موضع مناقشة وفحص.
كما أنّها تحتوي على جهاز شامل لكلّ سُبل دعم الحياة أثناء الرحلة طويلة الأمد إلى الفضاء السحيق، وهو أيضًا محل مناقشة وفحص.
هذه الرسالة التي ناقشها خبراء ناسا معه منذ عام ولم يقتنعوا بمحتواها إذ اعتبروها من الخيال العلميّ، مما يترتب عليه عدم دعم ناسا للمشروع.
المناقشة
وبدأت المناقشة بعرضه التقديمي، عرض فيه كل مقترحاته بشأن قاعدة الإطلاق القمرية والشراع والجهاز الشامل.
وانتهى العرض، وانصرفت اللجنة بعدها مباشرة وهي في قمة الضيق والتبرّم.
ولمّا ولجوا بابَ الحجرة سقط كلّ منهما في مكانه يستبقي نفسه وكأنّما كان على أكتافه أثقال طرحها منذ ثوانٍ، ومنهم من أطلق ضيقه زفرات في الهواء، يلوذ بعضهم ببعض لإيجاد مخرج من هذه الكارثة.
فالجامعة كلّها مكتظّة بالناس من أجل تهنئته، والقيادات السياسيّة الأمريكيّة والإسرائيليّة ينتظرون حصوله على الدكتوراه ليفتخروا به أمام العالم.
قال أحدهم: «ما هذا الشراع الذي يتكلّم عنه؟ أيريد أن يُدفع من غير وقود؟ إنّه مجنون.»
ردّ عليه آخر: «يقول إنّ حزم المحطات الليزريّة العملاقة ستدفعه عن طريق استخدام الطاقة الكهربائيّة المتولدة من المحطات الشمسية نهارًا ومفاعلي الاندماج والانشطار النوويّ ليلاً، يبدو أن جاك جُنّ.»
قال واحد منهم: «والجهاز الشامل الذي يدعم الحياة هذا له شأن آخر.»
ثمّ أمسك رأسه بكلتا يديه قائلاً: «رأسي سينفجر.»
قال أفضلهم رأيا: «أنا لدي اقتراح يخرجنا من هذا المأزق.»
حدّقوا به جميعًا وقالوا: «ائتنا به أرجوك.»
قال: «نمنحه دكتوراه في “فيزياء الخيال العلميّ”، وبذلك نتحاشى الصدام مع القيادات السياسية الأمريكيّة، ونتحاشى أيضًا السبّ واللعنات من الشعب الأمريكيّ، ولن يكتب عنّا التاريخ أنّنا غيّرنا ضمائرنا لأنّنا منحناه الدكتوراه في خيال وليس واقع.»
أجمعوا أمرهم على ذلك، وبمجرد خروجهم للمناقشة أعلنوا على الفور منحه الدكتوراه في الخيال العلميّ.
أسكتت الدهشةُ كلَّ الجمْع المتابعين للرسالة فالتصقتْ ألسنتهم في سقوف حلوقهم للحظات، إذ كانوا ينتظرون مناقشة حادة لساعات طوال، حتى أولئك الذين يتابعون عبر الشاشات صمتوا محدّقين بها.
وتخطّفتْ قلوب اللجنة عندما شاهدوا هذا التحديق بهم مع الصمت الرهيب.
وفجأة. هبّوا جميعًا فرحين مهللين شاكرين اللجنة.
صرخ جاك بعد إعلان خبر منحه الدكتوراه بهذا الأسلوب، صرخ قائلاً: «أنا لم أقدّم لهذا العالم خزعبلات أيّها المجانين، أنا لا أهذي، أنا لست مجنونًا. أيّها البلهاء، النجم سيتحوّل، وشراعي سينجح، جنبوا العالم الفناء أيّها الحمقى.»
والناس يتابعون انفعالات جاك وصراخه عبر الشاشات حتى تساقط الدمع من محاجر عيونهم ليعلن هذا الدمع أنّ جاك هو الصادق، وهو الإنسان.
لقد شاهده فهمان وهو يصرخ فقال : لم يعرف أحد أنّك على حقّ إلّا أنا يا صديقي، وأسأل الله أن يلطف بك.
أمّا رئيس ناسا فلم يتمالك دموعه وقال مرتعدًا: كم أخشى عليك يا ولديّ من لؤم هذا العالم، وأسأل الله أن يلطف بك.