18 ديسمبر، 2024 7:59 م

دفتر المفتشة-قصة قصيرة

دفتر المفتشة-قصة قصيرة

دخل عصام إلى غرفة سكرتير إدارة الكلية، قدم كتاب دعوته للمقابلة التي تلقاها من إدارة الكلية بناء على طلب العمل الذي قدمه للعمل مدرساً فيها. طلب منه السكرتير الانتظار قليلاً ودخل إلى مكتب العميد ثم عاد وطلب منه الدخول إلى المكتب. ألقى تحية الصباح على الموجودين في المكتب. عرّفه عميد الكلية بنفسه وأوضح له أن هذه لجنة المقابلة التي ستبت في طلب العمل الذي تقدم به، ثم عرّفه بأعضاء اللجنة من أعضاء هيئة عمدة الكلية: الأستاذ المربي وذكر بالاسم، والأساتذة المربية وذكر الاسم، والأستاذة المربية ونطق الاسم. لمع الاسم، الاسم الذي لم ينسه، نظر نظرة سريعة للوجه، الوجه نفسه بالنظرة الهادئة البشوشة رغم مرور أكثر من عشر سنوات، تخيل يداً تمسح على رأسه. سارت المقابلة بشكل جيد، أجاب عن الأسئلة بثقة، خاصة سؤال المربية الثانية عن مدى معرفته كخريج جديد بأساليب التعليم، أجابها ورأى على محياها رضىً واضحاً. شكره العميد وطمأنه ولكنه أضاف أن القرار النهائي سيكون خلال أيام وسيتصلون به. وقف وشكر اللجنة، كان بوده أن يسألها إن كانت تحتفظ بدفاتر ملاحظاتها القديمة، لكنه تراجع خجلاً.

***

دخل مربي الصف السادس الابتدائي (ب) إلى غرفة الصف في الحصة الأولى وبدأ بأصابعه القوية كالكماشة بالإمساك بشعر التلاميذ الذين نسوا أن يحلقوا بعد أن طالت شعورهم، كرر عباراته المعادة عشرات المرات عن النظافة وضرورة حلاقة الرأس “على الصفر” وسط تأوهات الذين تطال أصابعه شعرهم، وكرر مرة أخرى أن الشعر الطويل ممنوع قبل الأول الإعدادي. أخرج المعلم خمسة عشر رأساً مستحلقاً وأمرهم بالذهاب إلى الحلاقين وعدم العودة إلاّ ب”رؤوس تلمع”، بصلعات نظيفة، فهو لا يريد رؤوساً يملؤها القمل. خرجوا جميعاً الواحد تلو الآخر بهدوء كما أمرهم. عندما أصبحوا خارج بوابة المدرسة طلب منهم عصام أن يقفوا ويستمعوا لاقتراحه، سيذهب كل إلى بيته ليأتي بقرش أجرة الحلاقة ثم عليهم أن يتجمعوا في ساحة القرية حيث محلات الحلاقة الثلاثة، سيساوم الحلاقين أن يحلقوا لهم بسعر الجملة، فقد ينجحون في توفير خمسة قروش يشترون بها ملبس حامض حلو وبذور بطيخ محمصة ويتقاسمونها. عادوا جميعاً بقروشهم باستثناء صالح الذي لم يجد أحداً في بيتهم، لقد ذهبوا جميعاً إلى الحقل كما قالت له جارتهم، فأكد له عصام ألاّ يهتم، فسينجح بمساومة الحلاق بسعر الجملة.

بدأ عصام مشروعه بأقرب المحلات في وسط الساحة، دخل وألقى تحية محترمة على أحمد الحلاق الذي كان يجلس في دكانه يصلح بعض الأدوات كعادته حين تختفي الرؤوس عن كرسي حلاقته، عرض عليه فكرته فرفضها رفضاً قاطعاً، معتبراً أفكار عصام تافهة، فالسعر لحلاقة “القرعة” قرشاً حتى لو كانوا مئة رأس. تلقف خليل فشل عصام ليكرر موقفه السابق الذي طرحه منذ البداية بأن لا أمل من مثل هذه المحاولة، متخذاً من جواب الحلاق القاطع برهاناً لعصام أن أفكاره لا تنجح، فلم يزد عصام في رده عليه عن مطالبته بالصبر، وقرر بينه وبين نفسه أن يطور منطقه في طرح الأمر على الحلاق التالي، الحاج جابر. قصد المحل الثاني مصمماً على النجاح. استنفر كل كلماته المؤدبة والدبلوماسية في الحديث بهدوء مع الحاج جابر الذي كان دكانه هو الآخر فارغاً في هذا الضحى. قرأ عصام إشارات النصر من البسمة التي علت ثغر الحاج جابر الذي وافق ممتدحاً ذكاء هؤلاء الصبية.

جلسوا بالتتالي على كرسيه ومشت الماكنة اليدوية مسرعة تفتح الشوارع في رؤوسهم متقاطعة قبل أن تجهز على البقع المتبقية من الشعر، الماكنة تجري على رأس الجالس على الكرسي مصحوبة بحديث الحاج جابر مستفسراً منه عن والده وعن دروسه. كان عصام آخرهم، وكان محظوظاً أن ترك نفسه ليكون آخر الجالسين على الكرسي، فقد انتهت رائحة الكيروسين، الذي ينقع فيها الحلاق الماكنة، على رؤوس من سبقوه. خرجوا والفرح يعلو تقاطيع وجه عصام وشعور بالانتصار لدى الجميع، لم يحاول عصام النظر إلى خليل الذي كان صامتاً على غير عادته. تشاوروا حول أفضل الدكاكين وأكرمها في بيع الملبس الحامض حلو وبذور البطيخ أو القرع المحمصة، فاقترح محمود أن أبا علي يعطي أربع حبات ملبس بالتعريفة ولا أحد يجاريه في ذلك، إضافة إلى أن دكانه يقع على طريق المدرسة. سار فريق الرؤوس اللامعة تحت شمس الربيع وتوقف أمام الدكان. اشتروا بنصف المبلغ ملبساً وبالنصف الآخر بذور بطيخ محمصة، بدأ عصام بقسمة حبات الملبس الحامض حلو حبة حبة بالدور حتى لا يشك أحد بعدالة قسمته، وصوت محمود يحثه “إعدل، إعدل”، وعندما وصل إلى صالح حاول هذا ألاّ يأخذ نصيبه لأنه لم يدفع قرشاً، ولكن عصام أكد له “أن الجميع أصحاب ومن الممكن أن يكون أي منهم مكانه” فوافقت الغالبية على ذلك. وضع آخر حبة ملبس في حصته، ثم بدأوا بصعود الطريق نحو المدرسة. كانت استراحة “الفرصة الصباحية” قد انتهت وساحة المدرسة خالية، فتوجهوا إلى غرفة الصف مباشرة، طرقوا الباب فجاءهم صوت المعلم من الداخل بلغة إنجليزية وصوت حنون غير معتادين عليه، (come in). أصابتهم الدهشة، سيدة أنيقة في الصف بملابس مدنية تقف إلى جانب المعلم، فاتجهوا إلى مقاعدهم بهدوء ونظام مبالغٍ بهما، ولم يسألهم المعلم عن التأخير أو يوبخهم.

كانت مفتشة جاءت من المدينة لتحضر حصة اللغة الإنجليزية، مشهد لم يسبق لهم أن شاهدوه. استأنف الأستاذ يوسف أسئلته وسط دهشة المفتشة من هذا الهجوم المفاجئ. انطلق عصام يرفع اصبعه ليجيب عن كل سؤال تطرحه المفتشة، وبدأت إجاباته عن أسئلة المعلم والمفتشة تتدفق، فانفرجت أسارير المعلم الذي كان متجهماً من جو الخمول الذي كان يخيم على الصف. وعندما طلبت المفتشة من التلاميذ أن يعطوا أمثلة على المربى تطبيقاً لمفردة (jam) استنفذ من أجابوا قبله الفواكه التي يعرفون أسماءها بالإنجليزية، فسألت المفتشة عن أمثلة أخرى فرفع يده وأجاب “مربى التين”، استغربت المفتشة “وهل يصنع من التين مربى؟”، فأجاب مكابراً مخترعاً إجابة “نعم، أمي تصنعه”. حصد عصام العديد من عبارات “برافو” من المفتشة. وعند انتهاء الحصة، نادته المفتشة ومشى معها ومع الأستاذ يوسف إلى الصالون المتوسط بين الغرف الصفية. وقفت ولاطفته وسألته عن اسمه وأثنت على اجتهاده وتمنت له مستقبلاً باهراً، فطار فرحاً بكلمة “باهراً”، وسألته ماذا يحب أن يكون عندما يكبر، تلعثم ونظر إلى المعلم ثم قال “أحب أن أكون معلماً مثل الأستاذ يوسف”، مسحت بيدها الناعمة على رأسه، وسجلت اسمه في دفتر صغير كانت تحمله. ابتسم بسمته الخجولة، وتشرّب كلماتها وتوقعاتها له بالنجاح والمستقبل الباهر مع بقايا طعم حبة الملبس حامض حلو التي أنهى مصها قبل دخول الصف، وودعتهم. هنأه الأستاذ يوسف، وقال له إن هذه المفتشة وذكر اسمها قد جاءت من مديرية التربية والتعليم في اللواء.

عاد إلى غرفة الصف مفعماً بالفرح، وهنأ نفسه على هذا النجاح ليضيفه إلى فرحه بنجاح التفاوض مع

الحلاق، ونظر مبتسماً باتجاه خليل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*التعريفة: نصف قرش، وقد كانت لها قيمة شرائية.