23 ديسمبر، 2024 10:51 ص

دفاعاً عن العلامة مصطفى جواد

دفاعاً عن العلامة مصطفى جواد

تعرف القراءة بأبسط صورها ، على أنها دمج وعينا بمجرى النص ومحيطه ؛ أي أننا في القراءة نضم الفعل والبنية المحيطة في إطار واحد تقريباً ، وتأسيساً على ذلك لا أريد من القارئ الكريم هنا أن يسقط في الحكم ، دون أن يتأمل النص المقروء لأول وهلة ، إذ إن كاتب السطور قد قرأ تفوهات تغمز هذا العالم الجليل مصطفى جواد في كتاب ( يهود العراق ) الذي أعده لنا مشكوراً الباحث مازن لطيف بجمعه مقالات وبحوث ، حول الطائفة اليهودية العراقية ، إذ أورد الأخير مقالاً للأستاذ رشيد الخيون ، يتضمن نصاً مقتبساً من مذكرات الأديب العراقي اليهودي أنور شاؤول الموسومة بـ ( قصة حياتي في بلاد الرافدين ) وهو يتحدث ـ شاؤول ـ عن محنة بقايا اليهود في العهد البعثي ، وهي اعتقالهم للأديب اليهودي مير بصري ، وبما أن جهود رئيس الطائفة ساسون خضوري ـ بحسب الكتاب ـ لم تفلح في إطلاق ولده من قصر النهاية ، لجأ شاؤول الى أصدقائه المسلمين ، وكان أحدهما اللغوي مصطفى جواد ، وقد اعتذر جواد فقال عنه شاؤول في مذكراته ( كان عملاقاً في التحقيق اللغوي والبحث التاريخي ولكنه لم يكن كذلك في السماحة والنجدة والوفاء ) إن النص يتضمن ضديداً مبطناً ضد موقف العلامة مصطفى جواد وهو من هو ، إذ يبدو أن هنالك نمطاً آخر من المعرفة افتقر إليه رشيد الخيون عند اقتباسه كلام شاؤول في مقاله ، كما تبناه أيضاً مازن لطيف ، وهو عدم إلتماسهما العذر للعلامة مصطفى جواد بعد أن لم يلتمس له شاؤول عذراً ، أقول يلتمسا العذر على موقفه ، حتى لو كان هذا الالتماس موضوعاً في هامش توضيحي صغير ، يشرحان فيه تلك الفنتزة المقصودة في مذكرات أنور شاؤول ، فالعراقيون جميعاً يعلمون من هو الجلاد ناظم كزار ، مدير الأمن العام ، ومن هم البعثيون ، إذ لا تنفع معهم شفاعة الشافعين ، كما أن توافر من يستطيع أن يشفع لمعتقل ما ، عليه أن يكون من ضمن دائرة كزار وحزبه ، ولاسيما أنه من كان يوضع  في قصر النهاية سيء الصيت ، لا يجرؤ أحد أن يسأل عنه ويتشفع له عند السلطة والعلامة مصطفى جواد ، كما هو معروف بعيد كل البعد عن الاحتكاك بهذه الدائرة المرعبة ، وإن كان وجهاً معروفاً لدى السلطة من خلال شهرته العلمية ، لكن هذا لا يجدي نفعاً في هذا الموقف ، ويتبنى رشيد الخيون و مازن لطيف ما جاء به شاؤول الذي يقول غامزاً ( فمير بصري كان من أصدقائه القدامى ) يقصد من أصدقاء العلامة مصطفى جواد ، وكأن الخيون ولطيف يتجنبان إعادة النظر في معايير الموقف ، فقد ابتعدا كلياً عن التوضيح للقارئ بهامش بسيط ، عن السبب في عدم توسط مصطفى جواد في التشفع والتوسط لصديقه القديم مير بصري المعتقل في الأمن العامة ؛ إذ لا يستطيع أي عراقي وقتذاك أن يجرؤ ويسأل عن مصير أحد ذويه إن كان معتقلاً عند ناظم كزار، فكيف بالتشفع في إطلاق سراحه ؟!  إذ ما بيد العلامة حيلة على هؤلاء ، ولعل أنور شاؤول قد فاتته كمثقف إدراك الفجوة القائمة بين العلماء والسلطة البعثية ، وقد تبعه في هذا الفوات الخيون ومازن لطيف أيضاً ، بدليل أن شاؤول قد ذهب بعد ذلك إلى صديق آخر ، وهو أحد المقربين من سلطة البعث ، كما يشير رشيد الخيون في مقاله إذ يقول ( لكن الصديق الآخر الذي رمز له شاؤول بحرف ( س ) طلب منه رباعيته الشعرية ( يهودي في ظل الإسلام ) وهي : إن كنت من موسى قبست عقيدتي / فأنا المقيم بظل دين محمد / وسماحة الإسلام كانت موئلي / وبلاغة القرآن كانت موردي / ما نال من حبي لأمة أحمد / كوني على دين الكليم تعبدي /سأظل ذياك السموأل في الوفاء / أسعدت في بغداد أم لم أسعد . سلم ( س ) الرباعية إلى وزير الداخلية صالح مهدي عماش ، فأعجب بها وأمر أن تنشر في جريدة الجمهورية شباط 1969م مع ملاحظة تغيير الشطر ( أسعدت في بغداد أم لم أسعد ) ؛ لأن فيها شكوى من الوضع لكن (س) قال : إن هذا هو بيت القصيد ، وعندها قال لعماش : إن هنالك شاعراً آخر يهودياً يحمل مثل هذه الوطنية ، وهذا الحب للغة العربية ، والإسلام هو مير بصري …… وتم إطلاق سراح مير بصري بكفالة مالية ، وقعتها أنا في زيارة فريدة قمت بها شخصياً لزنزانات مديرية الأمن العامة ) ففي هذا النص بنية غامضة يمكن التوقف عندها ، وهي أن شاؤول قد صرح باسم مصطفى جواد ورمز بالحرف ( س ) لمن كان شفيعاً قريباً من سلطة البعث ، وساعد بإخراج مير صبري ، وفي هذا تحليل واحد لا ثالث له وهو : أن هذا الشخص (س) الذي ساعده مازال حياً عند كتابة شاؤول لمذكراته ، وفي منصب مهم في سلطة البعث ولعل التصريح باسمه سيضر به ، على عكس مصطفى جواد ، الذي قد كان ميتاً عند كتابة هذه المذكرات ، ولا يضر التصريح باسمه . ومن العجيب أن شاؤول نفسه في مذكراته يصف سلطة الأمن البعثي بقوله ( كيف لا تهلع القلوب وتفزع النفوس ؟ وزبانية مدير الأمن ناظم كزار، أتبع لليهودي من ظله والاعتقالات مستمرة والتحقيقات على قدم وساق ) ويصف العلامة مصطفى جواد بأنه لم يقف معه ومع صديقه !! ويحاول التشفع لهما في مديرية الأمن العامة !! . إن نموذجاً فكرياً مثل العلامة مصطفى جواد ، لا يسمح لنا إلا بأن ندافع عنه لا بوصفنا متعصبين له وإنما لمعرفتنا ، أنه عاش طيلة حياته في منأى عن أي منصب ؛ إذ كان متجنباً الاحتكاك برجالات السلطة ، ولاسيما سلطة البعث ، فالرجل هو الأنموذج الذي سارت به الألسن بوصفه عالماً جليلاً وإنساناً نبيلاً ، لا يشق له غبار.