كانت تحب الأبنية القديمة. تقف أمامها لدقائقٍ وتنسى العالم. عندما مررنا في الزقاق القديم، نسيتني. كانت تصوّر بشغفٍ من كل الزوايا. كانت تحب الشرفات الصغيرة، التي تتسّع لشخصين لا أكثر. وتحب الأبواب الخشبية الزرقاء التي ينسى أهلها أن يوصدوها، فتبقى مفتوحةً للهررة والهواء اللطيف. كانت شغوفةً بأشياءٍ كثيرة، وكنت ساذجاً لا يعرف أكثر مما قرأ في الكتب. تبعتها إلى كلّ مكان. نسيت ما اختزنته من حقدٍ على العالم وأفكارٍ لا تصلح إلا لليأس. تبعتها على الرصيف بجانب الشارع ورأيت الفرح الذي يغمرها وهي تمشي بين السيارات تمر بمحاذاتها ولا تنتبه لم أكن أعلم معنى أن نبتسم بخفّةٍ للصيادين الجالسين في هدوئهم، لا يكترثون لنا، نحن المتفرّجين على البحر ولا نملك شجاعة العيش في داخله. سحبتني إلى عالمها ولم أعترض. وعندما أمسكت يدي بقوّة بينما تشبثتُ بخجلي القديم من الأضواء ومن عيون الآخرين. في تلك الليلة، لم أكن مخمورًا تمامًا، ولم أكن صاحياً أيضًا. كنت ببساطةٍ أحبّها ولا أعترف.
كنت لا أراها بينما تسير أمامي، بل أرى الجزء الأيمن منها: الذراع، والكتف والحقيبة التي تتدلّى برفقٍ منها. حقيبتها جزء منها. كانت من القماش الأبيض، مرصّعةً بالورود، تُخرج منها أقلام الكحل، والمرايا ودفترًا صغيرًا تدوّن عليه أشياءً أجهلها. أذكر عندما جمعنا الصور في ألبوم وجلسنا نتفرّج. لم أكن أعلم إن كنت مسحورًا بها، وبيديها اللينتين بينما تقلّب الصور، أم أنني مأخوذٌ بقدرتها على تحويل الأشياء العاديّةٍ إلى سحرٍ تام. تذكرت الزقاق القديم الذي لثمنا فيه أسرع قبلة حين لفتني بذراعيها وقميصها الأبيض الذي طوّت أكمامه برهافة. انتبهتُ إلى أنني لم أكن هكذا في حياتي. كان بإمكاني أن أبقى واقفًا كأبله في وسط الطريق، فقط لكي لا أتطفّل على رقّتها بينما تلاعب هرّة على الرصيف.
لا أعلم ماذا حدث. كيف انزلقت الحياة من بين أيدينا بلا انتباه، وكيف بإمكاننا أن نتابع أيامنا عندما تصير ناقصةً إلى هذا الحد. أن ينقطع ذلك الخيط الذي يربط حياتنا بعضها ببعض، ولا يبقى لنا سوى انعكاس وجوهنا في المرآة. اليوم أتأكّد إنه الحب. إضعناه في لجة المستحيل ولا ينبغي أن نحزن كوننا كنا جبناء بالفطرة