لا يزال وجود الإنسان على ظهر الأرض لغزًا، لكن اللغز الأكبر هو محاولاته المستميتة من أجل البقاء والتعايش، ولو في أسوأ الظروف وأقسى درجات الإحباط والأسى. وغالبًا ما تتواتر حكايات عن أن الإبداع يولد من رحم المعاناة، وأن الظروف القاسية صنعت قامات بشرية يبجِّلها التاريخ والمجتمع ويتخذ منها درَّة تاج. والسبب وراء هذا التناقض هو طبيعة الإنسان التي تسعى دومًا لتحدِّي كل ما يحيطها، وتتخذ من الصعاب عدوًا يجب قهره على مستويات عدَّة. وعلى النقيض، إذا لم يجد الإنسان عدوًا ليقهره، فإنه يتَّخذ من نفسه عدوًا ويبدأ في تدمير نفسه؛ ولربما كان خير دليل اقتراف فعل أحمق أو جريمة دون داعٍ، أو حتى إدمان المخدرات، بالرغم من علم المتعاطي بمدى خطورتها.
ولقد تطرَّق لذاك الأمر تَّى “بيير كونيسا” Pièrre Conesaالكاتب والمفكِّر والباحث ونائب وزير الدفاع الفرنسي السابق والخبير بالسياسات الداخلية والخارجية وكذلك بالتاريخ السياسي والعسكري، وهذا بالإضافة إلى كونه أستاذًا جامعيًا، وتشير تلك الخبرات والمناصب أن صاحبها داهية نافذ البصيرة. وعلى هذا الأساس سطر “بيير كونيسا” Pièrre Conesa كتابًا تحت عنوان “صناعة العدو”La Fabrication de l’ennemi عام 2011؛ ليكون نبراسًا يُحتذى به.
وأحد المبادئ الهامة التي يبني عليها “بيير كونيسا” الكتاب مقولته: “إن من يحيا على محاربة عدوه، من مصلحته أن يدعه يعيش“. فمحاربة العدو هي الأدرينالين الذي يفْرزهجسد الإنسان ليحفِّزه على تنمية غريزة حب البقاء وكذلك تصبح هدفًا ساميًا، بلوغه يحقق نشوة الانتصار. ويتبلورهذا المفهوم مع مناقشة أدب ما بعد الاستعمار من ذاكالمنظور؛ فهناك بالفعل عدوًا، ألا وهو المستعمر الذي تكرِّس الشعوب جهودها للحد من هيمنته ومقاومته بغرض القضاء عليه. وحتى بعد إزاحة العدو المُستعمِر ، تجد الشعوب المستعمرة فيه نموذجًا جليًا للحاضر الغائب الذي بجب أن تضمر له العداء الشعوب التي استعمرها مسبَّقًا، وكذلك تعزو إليه ما أصابها من تدهور وانحطاط حتى ولو كان على الصعيد الأخلاقي أو الإنساني. ولهذا السبب حذَّر المفكر والفيلسوف السياسي “فرانتز فانون” Franz Fanon (1925-1961) من خطورة المرحلة التالية لطرد المستعمر التي يتحوَّل فيها أبناء البلد الذين وصلوا لسدَّة الحكم إلى نسخة مطابقة للمستعمر ويمارسون نفس القهر والضغوط النفسية والاجتماعية على أبناء البلد. وعلى نفس الغرار، يُحاكي الأفراد نفس الممارسات على المحيطين بهم.
وانبلجت تلك الظواهر بجلاء في سياق رواية “موسم الهجرة للشمال” (1966) للكاتب السوداني “الطيب صالح (1929-2009). ولقد نالت تلك الرواية شهرة عالمية واسعة وتُرجِمَت لأكثر من عشرين لغة. وتعد أهمية هذه الرواية أنه تمت كتابتها في مرحلة انتقالية من تاريخ السودان، ولكنها أيضًا لا تزال تموج بالاضطرابات والحروب الأهلية الناجمة عن تخبُّط هواياتي ناجم عن وقوعها لفترة طويلة تحت وطأة المُستعمِر الإنجليزي، لكن أضحت فيما بعد دولته قبلة يرنو إليها أبناء البلد ويتوقون زيارتها، ولهذا ذكر بطل الرواية وهو في طريقه لعاصمة بريطانيا متهكمًا واصفًا إيَّاها “لندن عاصمة العلم والاستعمار”.
والبناء الروائي يعمد تكرار هذا النموذج لتوضيح مدى تغلغل وجود العدو ليس فقط في سدَّة الحكم بل في كيان الشعوب المستعمَرة. فبطل الرواية هو ابن نابغة لخادمة تعمل في بيت عائلة إنجليزية؛ والقهر الذي تشعر به هو تفانيها في خدمة من ينهبون بلادها ويستعبدون أبناء شعبها، وهي بالتأكيد ليست مستثناة من ذلك. والغريب أنها تعمد أن تجعل من ابنها نموذجًا آخر لمن يقهرها؛ فبوساطة من تلك الأسرة الإنجليزية يسافر إلى لندن من أجل استكمال دراسته. لكن، ذاك ذاكرة هذا الشاب يعلق بهاذكرى أجيال تجرَّعت الأهوال على يد هذا المستعمر الغاشم، ولهذا لم يشعر بأن الأسرة الإنجليزية كانت ذات فضل عليه، ولم يكن لها كذلك شعورًا بالامتنان، بل أنه تمادى في العداوة حينما ابتدع طريقة غير مألوفة للانتقام من قاهري أبناء بلده وقتلهم بكل وسيلة ممكنة.
طبقًا لكتاب “صناعة العدو”، فإن “بيير كونيسا” منذ بداية الكتاب لا يحدد طريقة مقبولة أو غير مقبولة للقتل، فهمه الأكبر هو بحث وتحليل الأسباب التي أفضت إلى نشوء علاقة العداوة، وكيفية ابتداع وتفاقم الخيال والصورة الذهنية للانتقام والقتل قبل التنفيذ أو الذهاب للحرب، لكنه أيضًا يشدد أنه بعد بناء هذا المتخيَّل تتم عملية القتل براحة ضمير. وهذا ما فعله تمامًا بطل الرواية، ذاك الراوي الذي لم يعطيه المؤلِّف اسمًا حتى يتحوَّل إلى نموذج يحتذى بابتكاراته، حتى ولو في القتل والانتقام. فلقد نهل “الراوي” من علوم المستعمر حتى حصل على درجة الدكتوراة في الأدب وأضحى يشغل وظيفة أستاذًا جامعيًا، لكن موقعه كمعلِّم ذو سطوة على أبناء المستعمِر لم يشفي صدره الموغر. ولهذا، شرع في تنفيذ مخططات القتل بطريقة ترضي ضميره وغروره. فلقد استغل قدرته على غواية النساء، بكلامه المعسول ورائحة البخور والطقوس الشرقية،في انتهاك أجسادهن وتحطيم قلوبهن، وحتى من تزوَّجته وحاولت أن تردعه وتجعله يتجرَّع ذاك العذاب النفسي عينه انتقامًا لكرامتها التي يهدرها عمدًا، قتلها بدم دون أن يبدي الندم.
العدو بالنسبة للرَّاوي، كما هو الحال تبعًا لمفاهيم “كونيسا”، وجوده شديد الأهمية اجتماعيًا وسياسيًا في المجتمعات المُعاصرة؛ فهو الوسيلة الفاعلة لبناء هوية ثابتة وراسخة. فالعدو هو ذاك الآخر الذي يشكِّل الشرّ والتهديد ولا يمكن فصله عن الحياة لأهمية وجوده بشكل دائم ومستقر. وعلى هذا الأساس، وعبر حلقات التاريخ المتعاقبة، نجد أن المجتمعات المستقرَّة التي لا أعداء لها تعمل على صناعة عدوًا؛ فالعدو وجوده يقدِّم خدمات كثيرة ذات قيمة، ويكون بمثابة المهدئ الذي يجعل أبناء الشعب تتغاضى عن السلبيات التي تؤرِّق سُبُل العيش من خلال خلق إحساس بالمسئولية القومية وضرورة توحيد الصفّ، وبهذا تترسَّخ الأواصر الجمعية لدى أبناء الشعب. وبنفس الطريقة، فإنّ الرَّاوي بعد رجوعه للسودان، يتزوَّج ويعيش حياة مستقرَّة مع زوجة مُتفانية في حبه وخدمته، لكنه يهجرها للبحدث عن عدو جديد ينتشله من حياة راكدة، بل ويجد في مقتلها وسيلة لبدء حياة انتقام جديدة ضد كل منيمزق بلاده بالحروب الأهلية.
لقد صنع “الطيب صالح” الأعداء في الداخل والخارج، وجعل من الراوي نبراسًا لهوية مكتملة فهمت قواعد البقاء والريادة، وهذا ما يعلِّمه للمتواجدين في محيطه ولذاك الوافد من بلاد المستعمر من أجل توحيد صفّ من استطاع الذهاب لبلاد الغرب دارسًا، حتى تتحوَّل علاقته بها إلى فاتحًا.