23 ديسمبر، 2024 5:31 م

دعوني اعيش كباقي البشر

دعوني اعيش كباقي البشر

كعادتها في وقت الظهيرة ، تتصارع السيارات كأمعاء جائعة للحصول على منفذ . تصرخ الوجوه تذمرا. تتزاحم اصوات المنبهات لتختلط بالشتائم. لاأحد يستمتع بالمشهد. ربما أكون الوحيدة التي تبحث عن صرخة وجود في ظل هذا الجنون المميت.

لقطة اولى

ينساب على دراجته كموجة متراخية.. شاب في اوائل العشرينات. أليس ركوب الدراجات ممنوعا في شوارعنا؟ هو لا يأبه . ملابسه عصرية ، على ظهره استقرت حقيبة رياضية، لابد من انها تحمل كتبه. يقترب من كلية الفنون الجميلة. قد يكون رساما او عازفا او يدرس التمثيل ويحلم بأن يقف على خشبة المسرح يوما ما. وجهه المرفوع تحت سقف ابتسامة يتوهج احلاما.. فابتسم بدوري..

لقطة ثانية

يتحرك بتكاسل كشيخ فقد عكازه ليستند على مكنسة.. شاب في أواخر العشرينات، جسد متكامل البناء في مظهره ، لكن عينيه المثبتتان على رصيف الشارع زادتا من عزلته عما حوله فلم يعد يرى سوى ذرات التراب والنفايات التي تنقاد جزعا الى ضربات يده المتأرجحة كمن يسير في نائما على غير هدى.

لقطة ثالثة

اربعة شباب تكدسوا في مؤخرة سيارة نصف نقل، لايتجاوز اكبرهم الثامنة عشرة. ملابس رثة هي الزي الرسمي لعمال المسطر تكملها ادوات بناء تبعثرت تحت ارجلهم. ولأن حوض السيارة يختنق بمواد البناء وجدوا لهم مكانا للجلوس فوق بعضها. ثلاثة منهم كانوا يطلقون العنان لاصواتهم وتصدح اكفهم بالتصفيق كمن يرافقوا زفة عرس. استسلموا لقدرهم الذي يسحبهم الى نهار من الكد للحصول على بضعة آلاف من الدنانير. أما رابعهم فقد أدار ظهره ليجلس على حافة حوض السيارة وقد غابت عيناه عن الوعي وهي تتسمر على الأفق. السير بطيء جدا أتاح لي مراقبته لفترة. ملامح فتية وشعر اشقر تأسر خصلاته قساوة (الجل) الذي سيتحول الى طين في نهاية النهار. لكزه احد زملائه ليقطع حبل صمته، التفت نحوهم بتثاقل وأعاد رأسه بحركة نصف دائرية لتستقر عيناه الى أمام هذه المرة.. انه ينظر الي.. اكتسبت نظرته هذه المرة حدة.. ربما غضبا او حزنا. من خلف زجاج السيارة شعرت بحرقتها تخترق حواسي. كان في عينيه صوت يصرخ: انقذيني!

لقطة رابعة

برنامج تلفزيوني في احد القنوات المحلية يعرض اسلوب تنظيف المجاري في العاصمة مقارنة مع أخرى في العاصمة عمان، الكاميرا تستقر على فتحة المجاري (المنهول) ليخرج منها بعد ثواني شاب في الثلاثينات عاري الصدر  اصطبغ رأسه حتى اسفل قدميه بلون الطين الاسود وتركت المياه الثقيلة آثاره على بشرته فلا تكاد تتبين حتى ملامح وجهه. كم سيتقاضى ثمن دخوله في فتحة المجاري؟ التقرير ينتقل الى عمان حيث يبدو عمال المجاري بحلة انيقة وقد استعملوا صنبور شفط المجاري ويعلق المذيع قائلا : انها آلية عادية يمكن تصنيعها في الشيخ عمر.. أي دولة هي الأغنى.. نحن أم الاردن التي مازالت تعيش على مساعداتنا؟

لقطة خامسة

صفحات الفيس بوك والبريد الالكتروني تعج برسائل عن أولاد السياسيين: ترفهم، فضائحهم، سفراتهم، جناسيهم الاجنبية، حبيباتهم الشقر، حفلات اعراسهم الفخمة، ارصدتهم ، مكاتبهم الانيقة ومناصبهم التي حصلوا عليها دون شهادات او خبرة.. اتساءل : هل تلتقي أحلامهم في نقطة مع القلم والمكنسة وطاسة البناء؟

 

لقطة أخيرة

أنظر في عيني ابني. عصرت سنوات العمر لأراه كما هو الآن.. شابا في الخامسة عشرة يتمتع بأكبر وأبسط وأجمل الأشياء التي تصونه من ومضة قلق. ماذا لو لم أكن هنا؟ هل ستواسيه مكنسته في وحدته على أرصفة الشوارع أم تصطف ايامه وهو يرتدي نفس الثوب في طابور المسطر ليحصل على قوت يومه؟ أم سيتمتع يوما بركوب دراجة وتنشق هواء الحرية في بلد يوفر له مايحص عليه اقرانه في بلدان العالم المتقدمة؟

تعليق

.. في كل واحد من هؤلاء الشباب يغلي دم عراقي وان اختلفت الطوائف والقوميات، معظمهم لايصغي لنشرات الاخبار ويكتفي باغاني الموجة الشبابية ليدفن يأسه في رجفة أكتافه الباحثة عن فرح مؤقت.. ومهما اختلفت قصصهم واصولهم فمن المؤكد ان حلما واحدا سيجمعهم: الحيـاة!

..في بلد النفط والموازنات الغافية بانتظار لحظة انفجارها على حقائب من وضعها، يتطلع ابناؤنا الى حلم أبعد من كسرة خبز، وملابس رثة او صينية الصنع، او فراش توخز رطوبته عظامهم الفتية. لاتعنيهم خطب الجمعة ولا اهتزاز العمائم او الشوارب او اطماع دول الجوار او الاجندات الخارجية، لايشغلهم عدد اصوات الناخبين أو حرب الكراسي فلديهم حربهم التي وجدوا انفسهم مرغمين على خوضها وفي داخل كل منهم صوت يصرخ:

دعـوني أعــيش كباقي البــــشر…

[email protected]