منذ أربعة عقود، هجر طيف الألوان بلدنا، وترك ساحتنا العراقية وأزقتنا وبيوتنا، مجرجرا أذيال الخيبة والخذلان وسوء الظن بـ (437072 ) كم2 من المعمورة، ولم يبقَ من ذاك الطيف إلا لون واحد، بات علامة مسجلة و (ماركة) ممهورة باسم العراقيات، فاتشحن به وصرن لا يبرحنه يوما، إلا وعدن اليه أعواما.
نعم، لقد جفتنا الألوان وأولها لون الحب.. إذ لم يعد يزورنا إلا في عيده، وما أقصره من عيد! وما أكثر احتياجنا لإطلالته وإطالته! قد رضينا بزيارته اليتيمة، متأملين تكرارها، متوسليه ببيت شعر قالته الأعراب قديما، حيث كانوا يزعمون ان الديك يبيض مرة واحدة في عمره فقالوا:
قد زرتِنا زورة في الدهر واحدة
ثنّي ولاتجعليها بيضة الديك
ويقال: (الأصفر عنوان الغيرة).. إلا أنه رزم حقائبه بعد ان انتفت الحاجة اليه بيننا، حيث اعتد كل واحد منا برأيه حد التيه، ورفض رأي الآخر، واتخذ من الأنا غاية ووسيلة في الآن ذاته، ورفع شعار (الحياة أخذ وأخذ) حيث لاعطاء لديه، ولم يعد يرى في الآخر إلا ضدا وندا، وغاب عن مخيلتنا أننا جميعا على أٌقل تقدير “نظراء في الخلق”.
لون آخر تأبط على الحدود العراقية جواز سفره مختوما باللون الأحمر (ذهاب فقط)..! هو لون الرياض والواحات الغناء التي رغَّبَنا فيها بارئنا بقوله: “إن للمتقين مفازا* حدائق وأعنابا”. ماعاد هو الآخر يغطي -كما كان- مساحات من محافظات عراقنا، وينشر سكينته على مدننا ومحلاتنا وشوارعنا، مطيبا هواءها، منقيا نسيمها، كما قال فيه الجواهري:
هواؤكِ أم نشر من المسك نافح
وأرضك يا بغداد أم جنة الخلد!
فحل الجدب والتصحر ربوعنا -وقلوبنا أيضا- ونابتْ عن ورود الـ (روز) والـ (رازقي) والـ (جمبد) والـ (قرنفل) شجيرات الـ (عاگول) والـ (صبار) والـ (سعدان) والـ (طرفاء).
سماؤنا هي الأخرى رحلت عنها زرقتها، بعد أن كانت كعين الديك صافية، وتلبدت بغيوم دخيلة حجبت لآلئ كانت ترصعها.
منذ أربعة عقود، قاطعتنا الألوان الزاهية البراقة، لالذنب جنيناه، ولا لإثم اقترفناه، ولم نكن سوداويين فنرفضها، لكن عذرا ما قد يشفع لنا، فلنسمِّ ماحصل في تلك العقود أضغاث أحلام، أبعدتنا عن التزين والتجمل بزاهي الألوان.
منذ أربعة عقود، لبسنا غير زيِّنا.. وتنكرنا لكرنفال خدعنا فيه السينارست، فكان ماكان من شطط فيما بيننا، وجفاء طال ودَّنا، وعداء نال من صفائنا، فكنا كمن يعبث بمركب في عرض البحر وينشد النجاة، وماأبعده عنها، كقول ابي العتاهية:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لاتجري على اليبس
طيلة أربعة عقود مضت، كانت للعراقيين خلالها خبايا ومفاجآت غير سارة، فمن أمهات ثكلن بأولادهن، ونساء رمَّلهن فقدان زوج، وأطفال يتّمتهم يد الموت وسرقت منهم عنوة أمان الأب وحنانه، توشحوا جميعهم على حين غرة بالسواد، وتلابس معهم هذا اللون قلبا وقالبا، مظهرا وجوهرا، حتى بات لون العزاء والعرس لديهم سيانِ. ويطول المقال في هذا المقام لو أردت التحدث عن باقي الألوان التي هجّرناها عن عراقنا بأفعالنا وسلوكياتنا، لكن، لابد لكل مهاجر من إياب.
هي دعوة مفتوحة الى جميع العراقيين -ماعدا السياسيين طبعا- فلنفتح صدورنا أمام طيف الألوان، ولنهيئ له أرضية خصبة نبدأها من دواخلنا، بالنيات السليمة والمحبة الخالصة وروح التآلف والوئام، وليكن لون الحب أولها، فهلا دعوناه الى مهرجان إياب يجمعنا مع كل الألوان، مع الأخذ بالحسبان أن بعد الديار ليس مبررا للشتات، وآلاف الأميال ليست عذرا للجفاء، واختلاف الليل والنهار ليس ذريعة لاختلاف النفوس، كما أن تباين الآراء ليس مسوغا للعداء.
[email protected]