23 ديسمبر، 2024 6:00 ص

أزِفَ وقتُ خُروجي من المنزل . تسارعت خطاي أرومُ وصل موعدي . بانت فوهةُ العسكري بجانبي فتحسستُ قدمي على أرضٍ أجدبت منذُ سنين , فانسللتُ خاطفاً كريشةٍ عصفت بها ريحٌ وسط صحراءٍ مكفهرةٍ ..
تَباطأَ مسيري عندما لمحتُ في أفقِ عيني اليسرى شارةَ الجندي ملوحاً -بممنوع المرور من هنا – , فاستدرتُ . وقفلتُ باحثاً عن مكانٍ آخر مثلَ نملةٍ تسعى الى مخرجٍ حينما يواجهها عارضٌ ..
ونفذتُ أخيراً من أحدِ الازقةِ الضيقةِ فتذكرتُ قولهُ تعالى ” حتى يَلجَ الجملُ في سمِّ الخياط ” . وكم كانت دهشتي عِندما سَمعتُ “بسم الله الرحمن الرحيم ” !! صادحاً بها المسجدُ على مقربةٍ مني تزامناً , والذي أُحيطَ بأسلاكٍ شائكةٍ يذكّرُ المسلمينَ صلاةَ الجمعةِ بعد تلاوته آيٍ من القرآن ..
تابعتُ السيرَ وأنا أَحثُّ قدماي الاسراع , واستقلتُ السيارة , ووصلتُ شارعَ المتنبي , ومِنهُ انحدرتُ وكأنني مياهٌ في ساقيةٍ وصلت لتوها الزرعَ الاخضرَ , فجلستُ في قاعةِ نازكِ الملائكة , وأنا أتطلّعُ الى الوجوهِ يأكلُني الفضولُ لمعرفة الجميع متسائلا :
أهؤلاءِ جميعهم أتوا من ” الورشةِ الثقافيةِ ” ؟ , لم أعرف؟ . إلا أنني أنصتُّ الى ترنيماتٍ جميلةٍ كان يتقِنُها أُستاذٌ أربعيني , مدورُ الوجه , باسمَ الثغرَ , تُلفتُ نَظَركَ أسنانهُ البيضاء , ولم أعرفهُ حتى انتهى , وشَكَرهُ المقدمُ باسمهِ : (كاظم الشويلي ), فصفقتُ لهُ اعترافاً مني لقصتهِ الجميلة ! , ثمّ اعتلت المنصةَ إمرأةٌ -حسبتها بمنتصف العشرينات- ذاتِ طلعةٍ وسيمةٍ , حالمةٍ , صوتها يشبهُ (السيندريلا ) , وقد قرأت علينا ما جادت به قريحَتُها , واختَتمت وأنا أُحاولُ الانصاتَ جيداً . فقد أزعَجني ( المايكروفون ) لخفوتِ صوتهِ من جهةٍ , وَزحمةُ المارّينَ قُربَ بابِ القاعةِ وضجيجهم من جهةٍ أُخرى ! . ورُغمَ ذلكَ لم يفتني التقديرُ للأختِ (سهام الطيار) , وصفقتُ لها أيضا .
بعدها أغدقَ علينا الاستاذُ (أحمد البياتي) بمعلوماتٍ عنِ الــ( ق.ق.ج) , واستفدتُ شخصيا من بعضها , وقد سَألتهُ بعدَ إنتهائهِ عن بعضِ كتَّابِ القصصِ القصيرةِ جداً المعاصرينَ , فَذكَر لي عدداً منهم , فشَكرتهُ وأنا أُرددُ في نفسي أنني سأعيدُ سؤالي في المجموعةِ الخاصةِ بهم مرةً أُخرى .
وأخذتُ أموجُ وسطَ جموعِ المحتشدينَ في شارعِ المتنبي , بعد أن ودّعتُ بناظري المركزُ البغدادي , واقتنيتُ ثلاثةَ كتبٍ , وغادرتُ رياضَ المكانِ , ومهجتي فيه , كعاشقٍ قبّلَ حَبيبتهُ بسرعةٍ , وتواعدا الى اللقاءِ الاسبوعي القادم عهدا بنبضات القلب . تركتُ الشارعَ وصارَ وراءَ ظهري. إدلهمَّ الطريقُ من حولي . خِفتُ , بعدما رأيتُ أسرابَ الغربانِ تُحلقُ في السماء . جميعُ من حولي متشابهون , لونهم كلونِ الرصيفِ الفضي , تعلوهم بلادة في الضمير , وأنا أُعبّد طريق السيرِ علّني أجدُ من يساعدني . يكتفونَ بالتحديقِ اليّ , وكثيرٌ منهم رَمقني بنظرةٍ يائسةٍ , وتخطفني الانظارُ وكأنني المتهمُ بجريمةِ قتلٍ, حتى عدتُ أدراجي وأنفي مزكمٌ بروائحَ كريهةٍ من هُنا وهناك , ثمَّ لمحتُ من أفقِ عيني اليمنى
شارةَ الجندي من جديد وهو يلوّح بيدهِ (ممنوع الدخول)
فأخبرتهُ : أنني قاصدٌ بيتي .
رد: أرني بطاقةَ السكنِ . فأبنتها له .
قال : أينَ كنتَ ؟
قلتُ له : في شارعِ المتنبي .
قال : ماذا فعلـتَ ؟
أجبتهُ : حضرتُ ندوةً ثقافية .
قال : ممممممم , فنادى صاحبه الاخر ( أخليه يدخل ) ؟ , فأجابه ( اي خليه )
بعد ذلك تنفستُ الصعداء , بعد أن ذهبَ منّي الروعُ, وجَمعتُ شَتاتَ بَعضي , واستأنفتُ مسيري , وأنا أرسِلُ ناظري الى المسجدِ والاسلاكُ الشائِكةُ من حولهِ , فازدحمَ في رأسي ألفُ سؤالٍ لم أجد له إجابةً ؟ , إذ حتى الجامع أصبحَ بلونِ الرصيفِ الفضي , ونفسُ الاشخاصِ يرتادونهُ , ونفسُ الايامِ ذاتها قبلَ سنين , كُلهم رَماديون ! . واستدركتُ الرياضَ الذي كنتُ فيه بألوانهِ الجذابةِ , والطريقُ الذي أعبّدهُ . اطمأننتُ قليلاً وعيني على المستقبل ..
, ودخلتُ بيتي من جديد , فاستقبلتني زوجتي سارة بالترحابِ , وسألتني كيفَ كان يومُك ؟ . إرتسمت على وجهي إبتسامةٌ كاذبةٌ وأجبتها : كان يوماً جميلاً .. !!