23 ديسمبر، 2024 3:31 ص

دستويوفسكي مفكرا الإنسان الصرصار نموذجاً

دستويوفسكي مفكرا الإنسان الصرصار نموذجاً

كان دستويفسكي مثقلاً بالأسئلة الفلسفية عن ماهية الوجود وطبيعة الإنسان ، وكان يورط شخصياته في أحداث ومواقف قاسية كي يكشف عن صراعاتها النفسية والفكرية ويزيل الأحجبة عن عوالمها الداخلية بكل متناقضاتها وتشوهاتها الوجدانية .
منحه انشتاين لقب عبقري القرن التاسع عشر، وقال عنه نيتشة : “إن كنت قد تعلمت شيئاً في علم النفس فإن دستويفسكي هو معلمي الوحيد “، وإعترف فرويد أنه لم يشتغل على ظاهرة نفسية لم يكن دستويفسكي قد تعرض لها في إحدى رواياته.

كتب دستويفسكي رواية الإنسان الصرصار “أو رسائل من باطن الأرض ” رداً على رواية “ما العمل ؟” لنيكولاي تشرنشفسكي والتي تروج لنظرية التفاؤل العقلاني و مفادها : أن الإنسان أناني بالطبيعة مما يجعله يتخذ كل قراراته لتأمين مصلحته الشخصية، وهو أيضا عقلاني بالفطرة، ولذا فقراراته يحسبها وفق قواعد المنطق وحسابات العلم بقدر ما يمكنه رصيده المعرفي، وبالتالي فإن نتائج عمله من أجل مصالحه ستكون بالضرورة متسقةً مع مصالح المجتمع ورافداً للتقدم الحضاري . كانت تلك الصورة المثالية للإنسان والتفاؤل المفرط هو المزاج السائد في أوربا بسبب النجاحات الكبيرة للثورة الصناعية والإنجازات المتواترة للعلم، فجاءت رواية الإنسان الصرصار كإنذار مبكر يبدد نشوة انتصارات ومنجزات الإنسان الأوروبي، مما جعلها هدفاً للإتهامات بالسوداوية والتشاؤم أو أنها تمثل خطراً على الفكر الإنساني. إستمر ذلك حتى إندلاع الحرب العالمية الأولى بمجازرها وبشاعاتها لتكون بمثابة الصدمة التي دعت إلى مراجعة تلك الصورة المثالية عن الإنسان.

العقل – بالنسبة لديستوفسكي- ليس هو المنتج الوحيد للفعل الإنساني، فهو يمتثل إلى مؤثرات عالم خفي شديد التعقيد ومليء بالمتناقضات والأضطرابات الوجدانية :

” وقد يصل حقدي إلى حد أن يظهر الزبد على فمي، إلا أنك تستطيع أن تجعلني مطواعاً هادئاً ذا أعطيتني لعبة لألعب بها، أو قدحاً من الشاي فيه قطعة من السكر، بل قد تفلح بذلك في مس أوتار أعماقي. إلا أنني، بعد ذلك، أصر على أسناني وأظل ساهراً الليالي الطوال أعاني من الخجل.”
إنه يهرب من عجزه إلى اليأس، ويحتمي بالأنين من الألم، ويشعر بلذة الاستكانة في الحالتين :

“الاستمتاع العجيب حتى في الصفعة، الاستمتاع باليأس طبعاً، ويمثل اليأس أقصى درجات الاستمتاع، خاصة حين يدرك الإنسان تماماً أنه في موقف ميئوس منه. أما حين يتلقى الانسان صفعة على وجهه – فإنه يشعر بالانسحاق والتضاؤل”…..”إن هذا الأنين يعبر في البداية عن لاهدفية الألم، الأمر الذي لا يرضى به إدراكك ”

يشغل الجزء الأول من الرواية مونولوج، يكشف فيه البطل عما يعتمل في داخله من صراعات ومشاعر متناقضه وتوترات نفسية، لتكون مدخلاً لفهم الطبيعة اللاعقلانية للإنسان، والسخرية من نظرية العقلانية المتفائلة على أنها جبرية تجرد الإنسان من حرية الإرادة، فالإنسان بمنظورهم أسير قوانين الطبيعة وهو ليس سوى رقم في معادلاتها ألحسابيه وعليه أن يقبل ما تمليه القواعد الصارمه للعلم والمنطق وإلا:
“سيصرخون بوجهك لا فائدة لنكرانك أن 2+2=4 ، كما أن الطبيعة لا تتوقف لتسألك رأيك، أو لتعنى برغباتك الخاصة، أو لتهتم بما إذا كنت تميل إلى قوانينها أو إذا كنت تكرهها، وعليك أن تقبل الطبيعة كما هي، ولذلك عليك أن تقبل كل نتائجها أيضاً. وهكذا ترى أن الجدار جدار.. وهكذا .. وهكذا.”…….” إن مجرد التفكير بأن 2+2=4 أمرٌ مهينٌ جداً، يشبه شخصاً بذيئاً سليط اللسان يقف معقود الذراعين عقبة كأداء في طريقك، ويبصق وهو ينظر إليك.”

لم يعط دستويفسكي إسماً لبطل الرواية، ربما ليوحي للقارئ إنه يشبه أي واحدٍ منا ، أنت أو أنا أو هي فسمه ما شئت . كما أنه قدمه كرجل عالي الثقافة والتحصيل العلمي، ربما ليقول لأصحاب التفاؤل العقلاني ها هو برغم قدراته العقلية الفذة ، سيتعرى امامكم فيكشف عن صورة الإنسان الحقيقية لا ما صورته لكم احلامكم …نعم هو يبني كي يدمر ولا يتوانى عن سفك الدماء :

“إن الانسان يميل إلى إنشاء الطرق والخلق والابتكار، وهذه حقيقة لا جدال فيها، ولكن لماذا يملك مثل هذا الميل والاندفاع الشديد إلى الدمار والفوضى أيضاً؟”
“انظروا فقط إلى كل ما حولكم: الدم يتدفق في جداول، وبكيفية تدل على منتهى المرح والجذل فكأنه شمبانيا.”…”أن أشد الناس حضارة هم أمهرهم في الذبح والسفك؟”

ومن الرموز الرائعة التي يوظفها المؤلف في الرواية القصر البلوري للمعارض في لندن، وقد كانت تعرض فيه الصناعات الثقيلة من شتى أنحاء العالم، وكان رمزاً لعظمة الثورة الصناعية:

“أنتم تؤمنون بقصر من بلور لا يمكن تهديمه – قصر لا يمكن أن يسخر منه أحد أو يحتقره أو يهزأ به، ولعل هذا هو الذي يفسر خوفي من هذا البناء ، إذ أنه من البلور ، ولا يمكن تهديمه، ولا يستطيع أحد أن ينكر وجوده أو يسخر منه”

إنه قصر شفاف يكشف عن كل من بداخله، فينتهك خصوصية الإنسان ويمتهن فردانيته التي تمثل جوهر كينونته الإنسانية، كما أنه يشمخ فوق إرادة الإنسان فلا يستطيع حتى أن ينتقده أو يسخر منه .

يطول الحديث عما تزخر به روايات دستوفسكي من نفحات فكرية وبراعة في التحليل النفسي قبل عقود من شيوع مدرسة التحليل النفسي على يد فرويد ويونج ، إنه مفكر الأدباء بحق.