دستويفسكي وتشيخوف – عملاقان من عمالقة الادب الروسي,وهما يمثلان بالاساس في الوقت الحاضر هذا الادب خارج روسيا , فعندما يدور الحديث عن الادب الروسي في العالم , يطرح النقاد والباحثون وحتى القراء على حد سواء اسميهما قبل كل اسماء الادباء الروس الاخرين, فهما الاكثر شهرة والاكثر ترجمة , بل انهما يشغلان مكانة خاصة ومتميزة في مسيرة آداب كثيرة في العالم, بما فيها التأثير على تلك الاداب العالمية وتطورها. وكم يبدو غريبا انهما بعيدين عن بعضهما البعض في مسيرة الادب الروسي نفسه, بل يمكن القول انه من الصعب ان نجد اديبين اكثر بعدا عن بعضهما مثل دستويفسكي وتشيخوف , فابطال دستويفسكي يجسدون الازمة الروحية المتوترة للانسان, وحياتهم دائما مفعمة بالجريمة والحوارات الفكرية والفلسفية المعمقة, اما ابطال تشيخوف فانهم اناس اعتياديون , يذهبون يوميا الى العمل ويتناولون طعامهم ولا تحدث في مسيرة حياتهم جرائم واحداث هائلة, بل حتى يمكن القول انه لا يحدث لهم اي شئ مهم وكبير.
ولد دستويفسكي عام 1821, واصدر روايته الشهيرة والمعروفة عالميا – ( الجريمة والعقاب) عام 1866, عندما كان عمر تشيخوف 6 سنوات فقط, واصدر روايته العالمية – ( الاخوة كارامازوف) عام 1880 , عندما كان تشيخوف ( الذي ولد عام 1860) قد انهى المدرسة ويحاول ان يبدأ دراسته في الكلية الطبية لجامعة موسكو, وتوفي دستويفسكي عام 1881, عندما نشر تشيخوف بعض القصص القصيرة الفكاهية في مجلات روسية هزلية من الدرجة الثانية ليس الا. ولا توجد اشارة تؤكد ان دستويفسكي قد اطلع عليها او سمع باسم تشيخوف اصلا, اذ كان في تلك الفترة واحدا من اكبر الادباء والمفكرين الروس, وفي الوقت نفسه واحدا من اشهرهم عالميا. اما تشيخوف , الذي ولد عام 1860 وبدأ النشر عام 1880 كما اشرنا في اعلاه,فانه اصبح معروفا في اواخر القرن التاسع عشر ليس الا, وليس بالشكل الذي يمكن مقارنته بدستويفسكي بتاتا.
ان الاجواء المتباينة والسمات المختلفة بين الاديبين قد ادت بالطبع الى عدم ميل تشيخوف الى دستويفسكي, ولكن هذا لا يعني بتاتا ومطلقا عدم اقرار تشيخوف بعظمة دستويفسكي والاعتراف به وبمكانته المتميزة في الادب وبشخصيته الفذٌة و تأثيره في مسيرة الثقافة والفكر.
لقد كتب تشيخوف في 5 آذار/ مارت عام 1889 الى سفورين رسالةجاء فيها ما يأتي – ( اشتريت في مخزنكم دستويفسكي, وأقرأ الآن. جيد, لكنه يكتب بشكل مطوٌل وبلا تواضع, وهناك الكثير من الادعاءات..). وجوابا على سؤال المخرج المسرحي الشهير نيميروفتش- دانجنكو عن رأيه برواية ( الجريمة والعقاب ) قال تشيخوف, انها لم تحدث لديه ( انطباعا كبيرا), وقد كان جواب تشيخوف صارما . وفي 30 كانون اول/ديسمبر من عام 1902 كتب تشيخوف الى محرر مجلة ( عالم الفن ) دياغيليف, وهي المجلة التي كانت تنشر طوال 1900- 1902 على صفحاتها اجزاء من كتاب ميرجكوفسكي ( الاديب والناقد المعروف في تاريخ الادب الروسي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين, واحد ابرز شخصيات المدرسة الرمزية الروسية) الموسوم – ( تولستوي ودستويفكي), وهو كتاب نقدي كبير ويعد عملا متميزا في تاريخ النقد الادبي الروسي,كتب تشيخوف ما يأتي – ( ان الثقافة الحالية الان هي بداية عمل باسم المستقبل العظيم, عمل سوف يستمر لعدة عشرات آلاف السنين من اجل ان تعرف الانسانية في المستقبل البعيد حقيقة الرب الاصيل, دون ان تبحث عن ذلك في دستويفسكي,كي تعرفه بوضوح كما تعرف ان اثنين في اثنين تساوي اربعة).لقد كتب تشيخوف ذلك جوابا على ما كان يدعو اليه ميرجكوفسكي وبقية المناصرين للمدرسة الرمزية لتأليه دستويفسكي وعبادة شخصيته باعتباره (نبي الوعي الديني ) كما كانوا يطلقون عليه. ومن المناسب هنا الاشارة الى ان النقد الادبي في العصر الفضي ( اي عشرينيات القرن العشرين) كان يميل بشكل واضح الى جانب دستويفسكي ويفضلونه على تشيخوف, ومن بينهم ميرجكوفسكي نفسه وغيبيوس وأخماتوفا وصولا الى باسترناك ونابوكوف.
ومع كل ذلك, يؤكد الكثير من النقاد والباحثين في الادب الروسي , الى انه من الخطأ وضع دستويفسكي وتشيخوف كأديبين متضادين او مناقضين بعضهما للبعض , بل بالعكس, فانهم يعتبرون تشيخوف الوريث الشرعي لدستويفسكي , وانه استخدم هذا الميراث ليس كتلميذ يحاكي استاذه ويحاول ان يقلده, بل باعتباره فنانا حرا اصيلا, اي تعامل معه ابداعيا, ويشير هؤلاء النقاد الى قصة تشيخوف الموسومة – ( الراهب الاسود ), وهي قصة متميزة فعلا في مسيرة ابداع تشيخوف , ومليئة بالاجواء الدستويفسكية, وعدا تلك القصة, فانهم يؤكدون – وهم على حق – ان ابطال تشيخوف ايضا , مثل ابطال دستويفسكي يبحثون عن ( الحقيقة الاصيلة) للحياة, والتي تكمن طبعا في ( الايمان ), وان الفرق بين دستويفسكي وتشيخوف هو ان ( الايمان) بالنسبة لدستويفسكي هو ايمان مسيحي ديني ليس الا, اما عند تشيخوف فانه اوسع بكثير وهو يكمن في حقيقة افكار الوجود الانساني واهدافه, اي ان ابطالهما يتوحدون في عملية البحث, الا انهم يتميزون في اساليب هذا البحث , اذ ان ابطال تشيخوف يبحثون عن اهداف العصر الحديث, عصر ما بعد دستويفسكي , العصر الذي لم يعد ملائما للانسان ان يبحث فيه عن ايمان يستند الى نصوص لا تتناغم ولا تنسجم مع متطلبات الانسان في العصر الحديث.
تشيخوف لا يقل عظمة عن دستويفسكي في طرح المشاكل الانسانية ومعاناة الروح الانسانية, ولكنه يعالجها باسلوبه الخاص به, باعتباره فنانا مختلفا عن دستويفسكي, ولهذا فان ابداعهما لا زال حيٌا ويثير الباحثين والقراء على حد سواء في داخل روسيا وخارجها ايضا, بما في ذلك عالمنا العربي.