23 ديسمبر، 2024 2:00 ص

دستويفسكي فيلسوفا / تأملات

دستويفسكي فيلسوفا / تأملات

هل كان دستويفسكي اديبا دخل عالم الفلسفة , ام فيلسوفا دخل عالم الادب , وذلك لان الادب والفلسفة في مسيرته الابداعية متداخلان مع بعض بشكل يكاد ان يكون عضويا ؟ الاجابة عن هذا السؤال الفكري الكبير لازالت غير واضحة المعالم تماما ليس فقط في روسيا, وانما في كل انحاء العالم المتمدن من دول وبلدان وتيارات فكرية متنوعة , رغم ان دستويفسكي – واقعيا – ابتدأ أديبا اعتياديا بكل معنى الكلمة , وان روايته القصيرة الاولى المعروفة وهي ( المساكين ) وجدت مكانتها اللائقة بها في مسيرة الادب الروسي بالذات , ولم يحاول ان يطرح نفسه فيلسوفا حتى في ( مذكرات كاتب ) الشهيرة في تراثه , والتي ابتدأ بكتابتها في نهاية حياته , و التي يمكن القول عنها ,انها آخر كتاب أصدره دستويفسكي , وسجّل فيه انطباعاته الفكرية حول تلك الظواهر التي كانت تحيط به من كل جانب في مسيرة الحياة الروسية واحداثها آنذاك.
توفي دستويفسكي في القرن التاسع عشر عام 1881 , ولم تبحث الاوساط الفكرية الروسية هذه المسألة مباشرة بشكل جديّ وحقيقيّ ومعمّق ( اي العلاقة المتبادلة في ابداعه بين الادب والفلسفة ) لا اثناء حياته ولا بعد وفاته رأسا, ولكن دستويفسكي أصبح في الوقت الحاضر ( في روسيا وفي كل العالم ايضا!) اكثر الادباء الروس قربا من الفلسفة , بل , ان صح التعبير , حتى اكثرهم التصاقا واندماجا ووحدة عضوية مع طروحات الفلسفة ومفاهيمها ومذاهبها, او بتعبير وجيز ومركّز – ان دستويفسكي الان اكثر الادباء الروس فلسفة , حتى مقارنة بتولستوي نفسه ( انظر مقالتنا بعنوان – تولستوي فيلسوفا ), وتوجد الان سلسلة من اسماء الفلاسفة الروس الكبار ( منذ بداية القرن العشرين فصاعدا ) ترتبط – قبل كل شئ – بدراسة مفاهيم وطروحات فلسفة دستويفسكي استنادا الى نتاجاته الادبية وتحليلها, وهذه الاسماء معروفة وشهيرة مثل بيرديايف ( التي تتمحور قيمته الفكرية بالاساس في تلك الآراء وألاقوال والكتابات حول فلسفة دستويفسكي , والتي انعكست في كتابه ( رؤية دستويفسكي للعالم ) المترجم الى العربية – انظر مقالتنا بعنوان بيرديايف ودستويفسكي ) , وميرشكوفسكي ( انظر مقالتنا بعنوان الكاتب والفيلسوف الروسي ميرشكوفسكي , وبالذات حول كتابه – دستويفسكي وتولستوي ) , وروزانوف ( الذي أطلق على ( المفتش الاعظم ) لدستويفسكي تسمية ( ملحمة فلسفية ) , والتي أشار روزانوف فيها الى ان دستويفسكي قد مزج هناك ( حرية الارادة مع القانون المطلق للاخلاق ) , وشيستوف ( انظر مقالتنا بعنوان تشيخوف والفيلسوف شيستوف) , و سولوفيوف ..الخ , ويطلق هؤلاء الفلاسفة كلهم على دستويفسكي تسمية – الكاتب الفيلسوف , وهناك كذلك اسماء فلاسفة من اوربا يؤيدون هذه الآراء ويتوحدون معهم في هذا الاتجاه , بل ويرون انه حتى توجد عند دستويفسكي بدايات الملامح الاولية والاساسية للفلسفة الوجودية في العالم , التي بدأت تظهر في اوربا في اواسط القرن العشرين , وذلك ( لأن فلسفة دستويفسكي هي فلسفة الوجود الانساني قبل كل شئ) كما يؤكد أحد هؤلاء الفلاسفة الاوربيين.
لقد تناول الفلاسفة كافة نتاجات دستويفسكي الادبية بالتحليل , ووصلوا الى ان ( الفكرة الروسية ) في تلك النتاجات هي صفة انسانية مشتركة بين المجتمع الروسي والمجتمعات الاوربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر , وان هذه ( الفكرة الروسية ) هي (تجسيد لقانون الاخلاق) في هذه المجتمعات الانسانية بغض النظر عن قومية تلك المجتمعات وثقافتها ومستوى تطورها, ولهذا اصبحت هذه المجتمعات تتقبل نتاجات دستويفسكي , وأخذت تعتبرها نتاجات تعبر عن الانسان بشكل عام في كل تلك المجتمعات قاطبة, وقد أشار دستويفسكي مرة في احدى رسائله الى أخيه قائلا , الى ان الانسان ( سرّ) , وانه يحاول ان يسبر أغواره ( كي يفهمه ) طوال حياته , وذلك لانه ( اي دستويفسكي نفسه) ( يريد ان يكون انسانا ) , وكان دستويفسكي يتكلم هنا عن ( الانسان ) بشكل عام , ولم يحدد قومية ذلك الانسان او جنسيته طبعا .
ويربط بعض الباحثين هذه الافكار مع المفاهيم الدينية المسيحية الواضحة المعالم عند دستويفسكي , والتي تكمن في تأكيده على الكنيسة الروسية الارثذوكسية والدور الذي يجب عليها ان تؤديه عالميا باعتبار ان موسكو هي – ( روما الثالثة ) كما كان يدعو دستويفسكي , ولهذا , فان ( الفكرة الروسية ) التي بلورها دستويفسكي لا تفقد ( عالميتها !) , او ملامحها الاممية , رغم ارتباطها ب (الصفة الروسية ) تلك , ولهذا ايضا , فان القراء في العالم يتقبلون دستويفسكي ونتاجاته الادبية ذات الروح الفلسفية بغض النظر عن قوميتهم واجناسهم .
موضوعة دستويفسكي فيلسوفا – مسألة كبيرة في تاريخ الفكر الفلسفي الانساني , وهذه التأملات هي تذكير بالملامح الاساسية فيها ليس الا , وكم اتمنى ان يتناول أحد الفلاسفة العرب هذه الموضوعة يوما , ويدرسها بالتفصيل العميق…