23 ديسمبر، 2024 9:46 ص

دستور السقيفة: نقطة تحول في دولة المسلمين

دستور السقيفة: نقطة تحول في دولة المسلمين

السقيفة مكان يقع في جانب المدينة المنورة، وله سقف ممتد، ويعود لبني ساعدة الخزرجي، ولذلك عُرف بسقيفة بني ساعدة، وكان أهل المدينة يجتمعون فيه للتشاور وحل قضاياهم اليومية. زادت أهمية هذا المكان في اليوم الذي تلا وفاة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في 11 هـ/ 632 م عند اجتماع الأنصار لتنصيب خليفة منهم.
فقد كانت وفاة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لحظة صادمة، ومرحلة مهمة في تاريخ الدولة الإسلامية الوليدة تلتها أحداث وتحديات كبيرة. وعلى الفور، اجتمع المسلمون لاختيار من يتولى أمر المسلمين، وخلال الاجتماع انقسموا إلى فريقين: فريق أهل المدينة الأنصار، واختاروا سعد بن عبادة الخزرجي، أما المهاجرون فاختاروا أبو بكر الصديق، ورجَّح ترشيح عمر بن الخطاب لأبي بكر الكفة ليصبح أول خليفة للمسلمين في تاريخ الدولة في المدينة.
أفرز ما دار في سقيفة بني ساعدة مجموعة من المبادئ منها: أن قيام الأمة لا تقام إلا بالاختيار العام، وأن البيعة هي أصل من أصول الاختيار وسنة القيادة، وأن الخلافة لا يتولاها إلا الأصلب دينًا والأكفأ إدارة، فاختيار الخليفة رئيس الدولة وفق مقومات إسلامية وشخصية وأخلاقية. وإن الرئاسة لا تدخل ضمن مبدأ الوراثة النسبية أو القبلية، وأن إثارة (قريش) في سقيفة بني ساعدة باعتباره واقعاً يجب أخذه في الحسبان، ويجب اعتبار أي شيء مشابه ما لم يكن متعارضًا مع أصول الإسلام، وأن الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة قام على قاعدة الأمن النفسي السائد بين المسلمين حيث لا هرج ولا مرج، ولا تكذيب ولا مؤامرات، ولا نقض للاتفاق، ولكن تسليم للنصوص التي تحكمهم حيث المرجعية في الحوار إلى النصوص الشرعية. وقد استدل الدكتور توفيق الشاوي على بعض الأمثلة التي صدرت بالشورى الجماعية في سقيفة بني ساعدة حيث قال:
1-أول ما قرره اجتماع يوم السقيفة هو أن “نظام الحكم ودستور الدولة” يقرر بالشورى الحرة تطبيقاً لمبدأ الشورى الذي نص عليه القرآن، ولذلك كان هذا المبدأ محل إجماع، وسند هذا الإجماع النصوص القرآنية التي فرضت الشورى، أي إن هذا الإجماع كشف وأكد أول أصل شرعي لنظام الحكم في الإسلام وهو الشورى المُلزِمة، وهذا أول مبدأ دستوري تقرر بالإجماع بعد وفاة رسولنا صلى الله عليه وسلم، ثم إن هذا الإجماع لم يكن إلا تأييدًا وتطبيقًا لنصوص الكتاب والسنة التي أوجبت الشورى.
2-تقرر يوم السقيفة أيضاً أن اختيار رئيس الدولة أو الحكومة الإسلامية وتحديد سلطانه يجب أن يتم بالشورى، أي بالبيعة الحرة التي تمنحه تفويضًا ليتولى الولاية بالشروط والقيود التي يتضمنها عقد البيعة الاختيارية الحرة ـ الدستور في النظم المعاصرة ـ وكان هذا ثاني المبادئ الدستورية التي أقرها الإجماع، وكان قرارًا جماعيًا كالقرار السابق.
3-تطبيقًا للمبدأين السابقين، قرر اجتماع السقيفة اختيار أبي بكر ليكون الخليفة الأول للدولة الإسلامية.
ثم إن هذا الترشيح لم يَصِحَّ نهائياً إلا بعد أن تمت له البيعة العامة، أي موافقة جمهور المسلمين في اليوم التالي بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قبوله لها بالشروط التي ذُكرت. وبعد أن تمت بيعة أبي بكر رضي الله عنه البيعة الخاصة في سقيفة بني ساعدة، كان لعمر رضي الله عنه في اليوم التالي موقفاً في تأييد أبي بكر حينما اجتمع المسلمون للبيعة العامة: قال أنس بن مالك: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد، جلس أبو بكر على المنبر فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «أيها الناس إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت وما وجدتها في كتاب الله ولا كانت عهداً عهده إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدبر أمرنا ـ يقول يكون آخرنا ـ وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله رسوله صلى الله عليه وسلم فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثاني اثنين إذ هما في الغار فقوموا فبايعوه».
فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة. فتكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله ثم قال: «أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أُرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمَّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله».
مثلت خطبة أبي بكر دستورًا صارمًا لمن يتولى حكم المسلمين، وتعد من أعظم الخطب الإسلامية رغم إيجازها والمليئة بالعبر والدروس. ففي خطبة السقيفة أسس الصّدِّيق ميزان العدل والرحمة في التعامل بين الحاكم والمحكوم، وركّز على أن طاعة ولي الأمر مترتبة على طاعة الله ورسوله، ونص على الجهاد في سبيل الله لأهميته في إعزاز الأمة، وعلى اجتناب الفاحشة لأهمية ذلك في حماية المجتمع من الانهيار والفساد.

مراجع المقال:
ابن كثير، البداية والنهاية، بيروت، دار ابن كثير، 6/ 305 – 306.
توفيق الشاوي، فقه الشورى والاستشارة، ص: 140.
عبد الرحمن الشجاع، دراسات في عهد النبوة، ص: 256.
علي الصلابي، أبو بكر الصّدِّيق، إستانبول، دار الروضة، ص. ص 106 – 121.
فتحية النبراوي، عصر الخلفاء الراشدين، ص: 30.