تعدُّ محافل القرآن السمة البارزة في كل المدن والأقضية والنواحي والبلدات التي يتواجد فيها المسلمون في بلدان إسلامية أو غير اسلامية، فمحفل قراءة القرآن وتجويده وترتيله هو جزء من الحياة اليومية للإنسان المسلم الذي يعكف على تعلم كلام الله عملاً بوصية من نزل عليه القرآن: (خيركم مَن تعلم القرآن وعلّمه)، وقد أخذت عدد من المحافل على عاتقها فتح دورات لحفظ القرآن ككل أو أجزاء، وكثرة مسابقات تجويد القرآن وحفظه المحلية والعالمية تكشف عن التوجه النوعي نحو الاهتمام بخلق جيل قادر على تجويد وترتيل القرآن الكريم وحفظه.
وعهدي بمحافل القرآن الكريم بدأت منذ الصغر في مدينتي كربلاء المقدسة منذ نحو عام 1970م على يد الأستاذ الملا حمود الحاج مهدي النجار الحِمْيَري (1926- 2004م) وانتهت مع خروجي من العراق عام 1980م فتى مراهقاً وانشغالي بما ينشغل به المهاجر السياسي، ولكن هذا لم يمنعني من قراءة القرآن الكريم ترتيلا وتجويدا في المحافل العامة والخاصة بين الفينة والأخرى وحسب الطلب، وتنظيم محافل القرآن وبخاصة في شهر رمضان وادارتها في بعض الأحيان، وحسب الطلب أيضا، ولكنها لم تعد في صلب الاهتمام كما كنت في أيام الصبا.
مرة أخرى ساقني الحنين الى محافل القرآن وأنا في زيارة قصيرة للدار البيضاء (المغرب) في طريقي الى دكا عاصمة السنغال أواخر يناير كانون الثاني عام 2011م لحضور مؤتمر عاشوراء الدولي الخامس الذي انعقد في جامعة دكا من قبل مؤسسة المزدهر الدولية يوم 29/1/2011م، فمجالس ترتيل القرآن وحفظه التي تشتهر بها محافل القرآن في المغرب عالقة في ذهني لكثرة ما أراه في القنوات الفضائية وبخاصة في شهر رمضان الكريم، فساقتني قدماي الى أقرب مسجد في وسط المدينة القريب من فندق “دو لوفر” الذي أقمت فيه لليلتين، وجلست معهم بعد صلاة العشاء ارتل ما يرتلون وبطريقتهم الجماعية، ورغم تعودي على محافل القرآن، إلا أنَّ الخوف تملكني هذه المرة خشية أن أدعى لقراءة القرآن فيظهر عجزي وضعفي عن الأداء والقراءة السليمة، ولسبب بسيط للغاية يقع فيه كل من هو قادم من المشرق العربي، فالرسم القرآني لعدد من الحروف والكلمات هو غير الذي تعودنا عليه بما تحت أيدينا من مصحف، وبالتأكيد فإن المغربي إذا أراد أن يقرأ من المصحف الذي بأيدينا سيقع في المشكلة نفسها، مع أن القرآن واحد، ولكن صورة الرسم القرآني واختلافها في بعض الحروف بين المشرق والمغرب يجعل المرء يقع في الخطأ إذا ما أراد الترتيل أو التجويد حتى دون أن يقصد ذلك، وحمدت الله أن المحفل القرآني انتهى دون أن يكون لي حظ في المشاركة الفردية.
بالطبع فإن الاختلاف البسيط في الرسم القرآني لا يجعل القرآن مختلفاً، فهو المحفوظ ما بين الدفتين إن كان بالرسم المشرقي أو بالرسم المغربي، ليس فيه تحريف أو نقص أو زيادة، كما يؤكد الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتيب “شريعة القرآن” الصادر حديثا (2014م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 63 صفحة، وهو من ضمن سلسلة “الشريعة” في نحو ألف عنوان، وقد تضمن شريعة القرآن 90 مسألة فقهية في أحكام القرآن و37 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا بن حسين مزمل الميثمي الغديري، مع مقدمة للمعلق وتمهيد واسع بقلم الشيخ الكرباسي يسلط الضوء على القرآن الكريم وما يتعلق بنزوله وعلومه.
ثورة قرآنية
يرى الفقيه الكرباسي ان القرآن الكريم هو: (كتاب علم وعمل، وكتاب يجمع فيه كل ما يُسعد الإنسان في تعلمه أو تنفيذه، فهو كتاب قانون يحدد الأعمال والسلوكيات على أرض الواقع ما يتعلق بالنفس والأطراف، وكتاب يعطيك ما تحتاجه من العلوم والقوانين لفهم الواقع الذي تعيشه لتكتشف منه العلوم)، ولأنه كذلك فإنه يدعو وبشدة الى: (الكشف والبحث واستخدام القوة والسلطان للوصول الى الحقائق التي أُودعت في القرآن). وبالركون إلى قوله تعالى: (ونزل عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) سورة النحل: 89، فإنه يؤمن ايماناً كاملاً انه: (ورد في القرآن كل ما يمكن أن يتطرق اليه الفكر البشري وكل ما تحتاجه هذه البشرية وما يلامسه من أشياء وسُنن ولكن على شكل أسس وكليات، على الإنسان كشفها في أي اتجاه كان)، ويعتقد الفقيه الكرباسي ان هذا النص القطعي هو بمثابة: (بشرى نلمسها كل يوم عندما يأتي العلم الحديث ليكتشف أمراً جديداً نفتخر به)، ولكن البشرى هذه تبقى ناقصة إذا لم يسعَ المسلم الى اكتشافها بنفسه دون أن يعول على اكتشافات الآخرين ويجر الحسرات: (فالقرآن أودعت فيه أسس كل العلوم، وقد استدل أئمة أهل البيت(ع) به على مناحي العلم والمعرفة إلا أنه بحاجة الى التدبر في آيات الله وكلامه).
ولطالما سمعت الفقيه الكرباسي في مجالسه الخاصة والعامة متحدثا عن تلازمية العلم والقرآن وهو يؤكد على أهمية اكتشاف العلوم كافة من خلال التدبر في القرآن، ويعبر في الوقت نفسه عن أسفه لانشغال المسلمين بأمور بعيدة عن الواقع، تاركين العلوم لغيرهم يخترعون ويبدعون ويكتشفون، وإذا ما ظهرت العلوم للواقع تبارى المسلمون لنسبتها الى نصوص القرآن أو السنة الشريفة، في حين يجدر بهم أن يكونوا السباقين الى اكتشافها ما داموا يملكون النصوص الكلية المنتشرة في مطاوي القرآن والسنة. من هنا فإن الفقيه الكرباسي أشار على الحوزات والمدارس العلمية للمذاهب الاسلامية كافة أن يتفرغ طلبة العلوم الدينية ضمن خطة ممنهجة وثابتة الى متابعة كل آية قرآنية وكل حديث شريف واكتشاف ما تحمله النصوص من علوم لصالح البشرية بالتنسيق مع المراكز العلمية والمؤسسات المعنية.
وهذه الخطوة من الأهمية بمكان، كما يؤكد الفقيه الكرباسي، لا تكتمل إلا بالرجوع الى أهل البيت(ع) الذين عندهم علم الكتاب، فأهل الذكر في الآية الكريمة: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) سورة الأنبياء: 7، هم: (في عهد القرآن هو الرسول(ص) وأهل بيته المعصومين(ع) ومن هذه الآية أو من فلسفة نزول القرآن الذي فيه تبيان كل شيء يمكن فهم حديث الثقلين، وارتباط هذا الرسول الصامت بذلك الكتاب الناطق، حيث يقول الرسول(ص): إني مخلف فيكم الثقلين، الثقل الأكبر القرآن، والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي، هما حبل الله، ممدود بينكم وبين الله عز وجل، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا)، ويتساءل الكرباسي: (بل من يعرف غيرهم بواطن هذه الآيات وخلفياتها، ومن يعلم تفسيرها العلمي وما تحمله من علوم غيرهم).
وتأسيسا على ذلك فليس لأحد، كما يؤكد الفقيه الغديري في تعليقه، تفسير القرآن كما يحلو له ما لم يرجع الى أهل بيت النبوة، ذلك: (إن الله تعالى لم يمنح ولم يسمح لأحد أن يفسر القرآن برأيه الخاص احترازاً من زلّة الأقلام عن طريق الصواب، فأمر بالرجوع إلى أهل البيت(ع) حيث قال: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. فنحن مأمورون بالسؤال من أهل الذكر لأننا لا نعلم ما هو الواقع المراد من القرآن الكريم في كثير من الأحيان وبالأخص في المتشابهات، وأهل الذكر هم العلماء بمعاني القرآن بل بأسراره ورموزه، وهم الراسخون في العلم الذي جعلهم الله تعالى أوعية علمه وحكمته).
إذن، إذا كان الإيمان قائما على أن القرآن فيه تبيان لكل شيء، فإن الأمر بحاجة الى ثورة قرآنية لفهم آياته بالتعاون والتنسيق بين كل الدوائر العلمية والمعرفية، وتفعيل العلوم النقلية والعقلية والعلمية مع بعضها، كما يشدد على ذلك الفقيه الكرباسي وتؤيده وقائع الأيام والثورات العلمية في المجالات كافة.
بين ظهرانيهم
ولقد ارتبط شهر رمضان الكريم بالقرآن الكريم، فهناك ملازمة من حيث النزول ومن حيث الارتباط القلبي بالقرآن في أيام شهر رمضان الكريم والحث على القراءة والمداومة عليه وارتفاع مؤشرات الثواب في هذا الموسم العبادي، الذي يعبر عنه بربيع القرآن، فالقرآن الكريم قائم بين ظهراني المسلمين في كل حين وآن، ولكنه اقترن مع الصيام حيث يتوجه المسلمون الى تلاوته والتدبر فيه، فالاستحباب كما جاء في المسألة السابعة راجع إلى: (قراءة القرآن بشكل عام ويستحب ختمه بين حين وآخر في الأسبوع أو الشهر أو السنة أو في شهر رمضان، وأقلّه كل ثلاثة أيام)، وأما في شهر رمضان كما جاء في المسألة الثامنة: (يتأكد قراءة القرآن في شهر رمضان وفي مكة المكرمة).
والظاهر كما يؤكد الفقيه الكرباسي أن شهر رمضان لا يلازم القرآن الكريم فقط من حيث نزوله فيه ككل في ليلة القدر، بل الكتب السماوية جميعها: (فقد أُنزلت الصحف على النبي آدم(ع) في السابع والعشرين منه سنة 6879 ق.هـ، وعلى النبي شيث “هبة الله”(ع) في الثاني منه سنة 5950 ق.هـ، وعلى النبي ادريس(ع) في الثامن عشر منه سنة 5838 ق.هـ، وعلى النبي إبراهيم(ع) في الأول منه سنة 2230 ق.هـ، ونزلت التوراة في السادس منه سنة 1528 ق.هـ على النبي موسى(ع)، والزبور في الثامن عشر منه سنة 911 ق.هـ على النبي داود(ع)، والإنجيل في الثاني عشر منه سنة 612 ق.ه على النبي عيسى، والقرآن في الثالث والعشرين منه سنة 13 ق.هـ على النبي محمد صلى الله عليه وعلى من تقدم عليه من الأنبياء وعلى آله الطيبين الطاهرين).
ومن مفاد النصوص الداعية الى الاهتمام بالقرآن الكريم فانه: (يجب العمل بمقتضى القرآن وتفصيل آياته وأحكامه، ولا يجوز هجره بعدم العمل بأحكامه) كما جاء في المسألة الخامسة، لأن الإسلام في واقعه محكوم بالعبادات والمعاملات معاً، فاذا حسنت العبادات حسنت المعاملات. ولذلك شاع على الألسن مقولة (الدين المعاملة)، وهذا القرآن الذي بين أظهرنا اليوم هو الذي نزل على خاتم الرسل والأنبياء(ع) بلا تحريف أو زيادة ونقصان، بل ويذهب الفقيه الكرباسي في المسألة الثالثة أنه: (يجب على المسلم الاعتقاد بأن كل ما في القرآن هو منزل من قبل الله وهو صحيح ليس فيه لبس)، ويزيد الفقيه الغديري في تعليقه: (جملة وتفصيلاً، حكماً وموضوعاً، أصلاً وفرعاً، كلاً وجزءاً).
ومن يقترب من القرآن الكريم ويتدبر في آياته، يشعر بأهميته كدستور حياة على مستوى الفرد والأمة والبشرية أجمع، فهو كما يؤكد الفقيه الكرباسي في التمهيد: (كتاب علم وعمل، وكتاب يجمع فيه كل ما يُسعد الإنسان في تعلمه أو في تنفيذه)، وما نراه اليوم من انحراف لدى طبقات من الأمة عن جادة الصواب، ونسبة كل شاذ الى القرآن والدين إنما هو من الزيغ عن مراد القرآن وعدم الرجوع إلى أهل الذكر، والفتيا على ضوء الفهم القاصر للآيات، ولذلك يشدد الفقيه الكرباسي في المسألة الحادية والخمسين على انه: (يجب التوقف على ما لا يفهمه القارئ من معنى القرآن، ومن أراد الاستدلال بآياته أو استنباط أحكامه، لابد من تعلّم ناسخه من منسوخه، بل وتعلم اللغة العربية بكل علومها، وتعلم العلوم الشرعية بكل أنواعها ليتمكن من فهم القرآن)، من هنا يضيف في المسألة الثامنة والسبعين انه: (لا يجوز تحميل القرآن رأي الإنسان، بل الواجب فهم القرآن وتحميل رأيه على الإنسان)، ولكن كم من الأدعياء يحذون حذو الصالحين ويرجعون إلى أهل الذكر لفهم مراد القرآن؟ بالتأكيد كثر الأدعياء في هذا الزمن الذي صارت فيه الفتيا شغلة كل متكسب بالدين، وكما يقول الشاعر:
لَا تَصْحَبَنَّ عُصَابَةً حَلَقُوا الشَّوَارِبَ لِلطَّمَعِ
بَيْنَا تَرَاهُ مُصَلِّيًا فإِذَا بَصُرْتَ بِهِ رَكَعَ
يَدْعُو وَكُلُّ دُعَائِهِ مَا لِلْفَرِيسَةِ مَا يَقَعُ
وهذا لسان حال عدد غير قليل من المجموعات التي تحمل الناس على غير ما أتى به محمد بن عبد الله(ص)، وما أكثرهم في هذا الزمن، الذي أصبح فيه الحق باطلا والباطل حقّا، حتى صارت الأمة طعمة سائغة لمن هبّ ودبّ، يسرق خيرها ويمزقها أيدي سبأ، وصار الدين محل سبّة في وسائل الإعلام الأجنبية بسبب إساءات أدعياء الدين الذي ضيعوا الثقلين، أحدهما أو كلاهما، فأضاعوا المشيتين!