18 ديسمبر، 2024 8:46 م

دروس وعبر من التاريخ: عندما تتفكك الأسرة

دروس وعبر من التاريخ: عندما تتفكك الأسرة

وريقات مستلة من مخطوط كتابي (موجز تاريخ صربيا).
وريقات مستلة من مخطوط كتابي (موجز تاريخ صربيا).
كارثة الكوارث عندما يدب الخلاف بين الزوج والزوجة
سنرى كيف أن الحب القاتل سوف ينهي حياة الملك والملكة؟
وكيف أن خلاف الزوج والزوجة ينهي حكم سلالة ملكية بكاملها؟
عام 1868 أصبح ميلان أوبرنوفيتش Milan Obrenović (ولد 22 أغسطس 1854وتوفى في 11 فبراير 1901) حاكما لصربيا، ثم ملكًا عليها للفترة (1882 – 1889).
في 17 أكتوبر عام 1875 تزوج الامير ميلان من ناتاليا كيشكو Natalie Keschko، وهي أميرة مولدافية- روسية، ابنة بيتري إيفانوفيتش كيشكو -العقيد في الجيش الإمبراطوري الروسي- والبالغة من العمر ستة عشر عامًا.
في زمن الأمير ميلان أعترفت الدول العظمى السبع بصربيا دولة ملكية مستقلة ذات سيادة وذلك في قرار لمؤتمر برلين المنعقد عام 1878 والذي ترأسه المستشار الألماني بسمارك.
صراع الزوجين يؤدي الى تفكك الأسرة ويخرب دولاً:
داخل بيت الأسرة الملكية دبت المشاكل بين الزوجين….بين الملك ميلان وزوجته الملكة ناتاليا لسببين:
أولا: بسبب تظاهر الملك بعلاقاته الغرامية مع الجنس الآخر ، وبوجه خاص انتشرت أخبار علاقته الجنسية غير الشرعية مع كلارا فريوين تشيرتشل (عمة ونستون تشيرتشل)، وصاحب ذلك غيرة مفرطة من قبل الملكة ناتاليا. وجاء في بعض المصادر بأن الملكة نتاليا صفعت السفير اليوناني على وجهه علناً أثناء حفل بمناسبة عيد الفصح حيث طرق سمعها أنه قال بأن الملك له علاقة غرامية مع امرأة يونانية.
فكانت الملكة من أشد معارضيه إذ (لم تستطع تحمل خيانته) …. قرر الملك طردها من صربيا لتعيش في المنفى. لكن الملكة كسبت تعاطف الناس بالداخل وتعاطف الامبراطورية الروسية في الخارج، ووقف الى جانبها رئيس الوزراء ميلوتين غراشانين Milotin Grašanin مما جعل الملك ميلان أن يصدر إرادة ملكية في حل حكومة غراشانين وجاء بحكومة مختلطة من الراديكاليين والليبراليين برئاسة يوفان ريستيتش Jovan Ristić .
ثانياً:وهو سبب سياسي، فالملك انفتح على امبراطورية النمسا والمجر على حساب العلاقات التاريخية بين بلاده والامبراطورية الروسية، وتذكر كتب التاريخ بأن الملك ميلان شعر بالإهانة عندما زار روسيا زيارة رسمية عام 1881 وذلك لبرودة الاستقبال من قبل القيصر الكسندر رومانوف الثالث Alksandar Romanov III.
ورغم خلافه مع زوجته فأن الملك ميلان لم يسيء الى صربيا، بل حقق انجازات جبارة لوطنه سيذكرها له التاريخ. فقد قاد ثورتين ضد الاحتلال العثماني لبلاده، هزم في الأولى وأنتصر في الثانية، وكان هذا الانتصار سبباً في اعتراف القوى العظمى باستقلال صربيا دولة ذات سيادة في مؤتمر برلين 1887. وكان الملك ميلان قد اعتنى بالتعليم، فكثرت المدارس في عهده وأرسل، على نفقته، البعثات الطلابية للدراسة في الخارج. وعند تنازله عن العرش تبرع بأرض يمتلكها الى المؤسسة التعليمية حيث أقيمت عليها الحديقة النباتية في بلغراد وهي موجودة الى يومنا هذا. وقام بتحديث الجيش الوطني وتطويره.
في عام 1887 زادت الضغوط على الملك ميلان من أجل أن يتنازل عن العرش لابنه الكسندر. وبالفعل تنازل عن عرش المملكة لابنه القاصر، لكن ميلان لم يغادر صربيا، بينما عادت زوجته نتاليا الى صربيا. أصر ميلان على إبعاد نتاليا وأجبرها على الخروج من البلاد لتعيش في المنفى. ثار سخط شعبي ضده وسقط قتيلان في أعمال شغب حصلت في بلغراد بتاريخ 1/6/1891.
تعهد القصر القيصري الروسي بدفع مبلغ مليوني دينار للملك ميلان مقابل مغادرته صربيا نهائياً. قامت الحكومة الصربية في 4/3/،1892، بالتفاهم مع الملك ميلان، بإصدار قرار برلماني يقضي بمنع إقامتة في صربيا، مع عدم إمكانية دخوله البلاد دون موافقة الجمعية الوطنية. وخرج من البلاد متوجها الى مدينة تيميشوارا Temišvar ( تقع في رومانيا حالياً).
عاد ميلان الى صربيا بعد الاتفاق مع ابنه وذلك في 7/10/1897. وأوكل الملك الكسندرالى والده مهمة قائد حركات الجيش. وبدأ ميلان عملية تحديث الجيش وتدريبه. وتعرض عام 1899 الى محاولة اغتيال فاشلة عندما حاول أحد أعضاء الحزب الراديكالي قتله، وبذلك بدأ من جديد في تصفية الحسابات مع الراديكاليين. وساءت الأوضاع بالنسبة له داخل صربيا عندما عارض قرار ابنه الملك الكسندر في الزواج من دراغا ماشين Draga Mašin. ووجه ميلان توبيخا خطياً الى الملك الكسندر ولم يبارك له حسب التقاليد الأرثدوكسية. وترك صربيا متوجها الى مدينة كارلوفا فاري Karova Vari (شمال غرب تشيكيا) ثم الى تمشوارا وأخير الى فينا التي توفي فيها إذ أصيب بإلتهاب الرئة، وقد صرح طبيبه الشخصي بأن لا أمل في الحياة ولا سبيل لإنقاذه. وقد عبر الأمبراطور فرانيا يوسيف Franja Jusif عن علاقته الوطيدة بالملك ميلان حيث خصص له أحد قصوره وأمر الكونت ارغينيا زيتشيا Ergenja Zićija للبقاء جنبه حتى لحظات حياته الأخيرة. ومات ميلان في فينا عن عمر يناهز 47 عاماً.

سطور عن الملك ألكسندر أوبرينوفيتش: Aleksandar Obrenović (1876 – 1903)
ولد الملك الكسندر في بلغراد بتاريخ 14/8/1876. أرسله والده للدراسة في باريس، فاتقن الإنجليزية والفرنسية. أعلن ملكاً على عرش صربيا في 22/2/1889.
في عهده قام بعدة خطوات مهمة أثرت على الحياة السياسية لمملكته. فقد أصدر عفواً عاماً عن الراديكاليين عام 1891 وفي مقدمتهم زعيم الحزب نيقولا باشيتش الذي تحول من لاجئ سياسي الى رئيس للحكومة.
قرر الملك الكسندر الانفتاح على روسيا وفي صيف 1891 زار بطرسبيرغ وبصحبته باشيتش، وقد لقي ترحيباً حاراً من قبل القيصر الكسندر رومانوف. وفي كلمته الترحيبية ساند القيصر المواقف الصربية، فقال أن روسيا لاتسمح بضم البوسنة والهرسك الى النمسا وستبقى روسيا تساند صربيا بإستعادة مقدونيا.

ينبغي أن نعرف، من هي دراغا ماشين؟ لماذا عارض ميلان ابنه الملك الكسندر في زواجه منها؟ وغادر البلاد بسبب ذلك وأقسم بأن أرجله لن تطأ أرض صربيا. ولماذا عارضت الزواج أمه الملكة نتاليا؟.
دراغا ماشين Draga Mašin: ولدت في بلغراد عام 1864، قبل أن تصبح ملكة هي أرملة مهندس المناجم سفيتوزار ماشين Svetozar Mašin . توفي زوجها الذي يكبرها بخمسة عشر عاماً بعد ثلاث سنوات من زواجهما. كانت قد أخبرت بعض صديقاتها بأن زواجها من سفتوزار لم ينم عن حب بل هو زواج مصالح!، فعائلته كانت غنية، وكان والد سفيتوزار طبيباً ماهراً معروفاً، وهو طبيب البلاط عند الملك ميخائيل والملك ميلان أوبرينوفيتش. وكان أخوه الكسندر ماشين قائداً للأركان العامة للقوات المسلحة. وقد أثار الكسندر ماشين شكوكاً مفادها أن دراغا كانت وراء موت أخيه سفيتوزار. تزوجت سفيتوزار عام 1883 وهو صديق الملك، وكانت ترافقه في التردد على البلاط الملكي. وبعد وفاة زوجها عام 1886 استمرت في التردد على الملكة ناتاليا وأخذت توصف بأنها من “فتيات القصر”. وحاولت، وهي أرملة، الزواج من مهندس فرنسي إلا أن الحظ لم يحالفها فانتهت العشرة بينهما. اشتغلت رئيسة لتحرير مجلة (ربة البيت). عندما استاءت العلاقة بين الملك ميلان والملكة ناتاليا وانتهى الأمر الى الطلاق، اشترت الملكة قصراً في المنتجع الفرنسي الذي اشرنا إليه سابقاً فقررت أن تصطحب دراغا معها لتجعلها محل استشارة في أمور المكياج والملابس. فرافقت دراغا الملكة التي زارت أولاً عائلة رومانوف الحاكمة في روسيا بعدها توجهت الى فرنسا. عندما تنازل الملك ميلان عن العرش الى ولده الكسندر وتشكلت حكومة جديدة برئاسة فلادان جورجيفيتش Vladan Đorđević، فأول سؤال وجهه فلادان لوزرائه يتعلق بالبحث عن زوجة للملك الجديد، وقد أعرب والده، في حينه، عن رغبته في أن تكون الأميرة الألمانية شامبورغ ليبا Šamborg Lipe زوجة لولده. زار الملك الصغير والدته في المنتجع الفرنسي عام 1895. ومنذ وصول الملك الى يوم مغادرته كانت دراغا في خدمته، ورعته رعاية خاصة. وقد أنقذته من موت محقق عندما تعرض للغرق أثناء السباحة في البحر. ومنذ تلك الزيارة ظهرت بذور الحب بين الملك الكسندر ودراغا ماشين الأرملة التي تكبره سناً. وقد شاع في بلغراد خبر الحب الجامح بين الملك ودراغا ولكن عموم الناس لاتطيق أن ترى ملكها يتزوج من أرملة وتكبره سناً باثنتي عشر عاماً. فبادر ،على الفور، وزير البوليس جورج غينتشيتش بإخراج 12 وثيقة من آرشيف الشرطة تتعلق “بعشاق” دراغا، وهي محاولة لحث الملك بشكل غير مباشر على العزوف عن الزواج منها. والدة الملك الملكة ناتاليا صرحت من روسيا تصريحاً قاسياً وفي غاية التحقير ضد معشوقة ولدها إذ قالت: إن دراغا ماشين “عاقرة وعاهرة”. وعندما علمت باصرار ولدها في الزواج منها قالت: ياليتني لم ألده. أما والده، الملك ميلان فقد ترك البلاد غاضبا على ابنه. وعندما ابلغوا الملك (الابن) بان والده لم يقبل بالزواج من فتاة القصر، وانه لن يصفح عنه اذا تزوجها، رد الملك ألكسندر بعبارات صريحة يقول فيها: أنا المسؤول الرئيسي عن عائلة أوبرينوفيتش وأنا أول الذين يملكون حق الدفاع عن سلالة أوبرينوفيتش الملكية. لذا يرى بإن فكرة والده حول زواجه تعد جانبية ولا معنى لها. وبما أن الوالد لم يتجاوب مع رغبة الأبن فأن الأبن أعفى أباه من جميع مسؤولياته العسكرية. وحسب رأينا، الشخصي ونحن نكتب هذه السطور، إن إصرار الملك على عدم الزواج من دراغا ماشين يشير الى ان الملك ميلان (الأب) مطلع على علاقات دراغا الغرامية مع عشاقها داخل القصر، ولربما ميلان نفسه قد أخذ وطراً منها، ومما يعزز رأينا سيرة ميلان الشخصية وتباهيه بمعاشرة النساء وتظاهره بأنه زير نساء، ذلك أنه السبب الرئيسي في خراب علاقته مع زوجته الملكة نتاليا. وحسب رأينا أيضا أن والدة الملك الكسندر هي الأخرى قد علمت بشكل أو بآخر بأن زوجها قد وطأ (فتاة القصر). فالأم نتاليا وصفت ماشين بأقبح الصفات ووصلت الى حد اعلان البراءة من ابنها الكسندر في حالة وقوع الزواج. ورأينا المحتمل هذا لم يذكره المؤرخون الصرب في كتبهم.
في انتخابات عام 1893 تساوى عدد أعضاء البرلمان الصربي من الراديكاليين والليبراليين وهذا يعني ظهور أزمة سياسية في البلاد. كان قرار الملك لحل هذه الإشكالية هو أن يمسك الأمور بيده هو. فدعى الصفوة من الوزراء وكامل لجنة الوصاية بتاريخ 1/4/ 1893 لحضور حفل عشاء تكريمي في القصر الملكي. وقد ظهر حول الملك الشاب من 10 الى 12 ضابطاً، بشكل غير مألوف، يقفون حوله للقيام بخدمته!.
دعا الملك، بعد العشاء، ضيوفه للانتقال الى صالة الشرف، وخاطب الحضور بأنه يسعى لإنقاذ البلاد ووضع حد لما يجري، وعليه فأنه قرر أن يستخدم صلاحيته الملكية في حل الحكومة ومجلس الوصاية، وأعلن أن صربيا تتجه نحو سياسة جديدة.

وعلى الصعيد العائلي:
أقر الملك ألكسندر طلب والدته فغادرت بلغراد في 7/5/1891 متجهة الى منتجع بياريتس Biarritz الفرنسي. وعلى صعيد آخر كانت العائلة الملكية قد اهتزت نتيجة لإصرار الملك على الزواج من أرملة كانت إحدى “فتيات” القصر. وأصر الملك الكسندر على قراره في الزواج من دراغا ماشين رغم معارضة والده الشديدة وكذلك معارضة أمه الملكة نتاليا، وفي النتيجة أعلن الملك بأن زفافه يوم 23/7/1900 ودعا الشعب للاحتفال بهذه المناسبة ليرى الملكة صربية وليست أجنبية. وبسبب قرار الملك هذا اعلنت الوزارة استقالتها. وأعلن والده، الملك ميلان قبل وفاته في إيطاليا، بأن أرجله لن تطأ أرض صربيا بعد.
لم تمر سنة واحدة على الزواج حتى ألقى الملك الكسندر خطاباً في 8/5/1901 ذكر فيه أن الملكة حامل وسوف تلد ولياً للعهد. فأعلن العفو العام عن السجناء ومن بينهم الراديكاليين وأولئك الذي وقفوا ضد زواجه.
خطاب الملك يشير بشكل واضح على تكذيب كلام أمه الملكة نتاليا بأن دراغا ” عاقرة”.
وعلى أثر هذا الخبر، أرسل القيصر الروسي نيكولاي رومانوف مهداً من ذهب لولي العهد. علم الملك الكسندر، في الوقت نفسه، بنبأ وفاة والده في العاصمة النمساوية فينا، فأرسل مبعوثاً عنه لحضور الجنازة، واقام قداساً على روحه في إحدى كنائس بلغراد إذ ظهر هو والملكة دراغا يرتديان الملابس السوداء.
تبين فيما بعد أن الحمل كاذب، وكلام الملكة الأم هو الصحيح. فأوعد الملك بالانتقام من الطبيب الذي أقر بالحمل، فيما عرضت الملكة عليه خيار الطلاق منها والزواج بأخرى إلا أنه رفض ذلك.

اندلعت مظاهرات عمالية صاخبة في بلغراد في 23/3/1903 ،واصطدم المتظاهرون مع الشرطة والجيش. كانت حصيلة المواجهات سقوط ستة قتلى من المتظاهرين.
ألغى الملك دستور 1901 وذلك بتاريخ 25/3/1903 وحل البرلمان. قامت مجموعة من الضباط في 29/3/1903 باقتحام القصر الملكي ليلاً ووصلوا الى مخدع الملك والملكة وأطلقوا عليهما النار وأردوهما قتلى وهما في بيجامات النوم البيضاء، والقوا بجثتيهما من شباك غرفة النوم الى حديقة القصر. وكذلك تم قتل رئيس الوزراء ديمتريا ماركوفيتش Dimitrija Marković ووزير الدفاع ميلوفان بابلوفيتش Milovan Paplović وأخوة الملكة نيكولا ونيكوديا.
وبموت الملك ألكسندر انتهى حكم سلالة أوبرينوفيتش ونودي ببيتر الأول كاراجورجيفيتش Petar I Karađorđević ليصبح ملكاً على البلاد.