ما معنى أن يكون المرء ديمقراطيا” ؟ . وما الغاية من تشبثه بالخيار الديمقراطي ، باعتباره أفضل الأنظمة السياسية وأنسب الحلول الاجتماعية وأنجع الصيغ الحضارية ؟ بل ما جدوى تمسكه بهذا الضرب من الاعتقاد الفكري والموقف السياسي ؟ هل لأنه يحبذ أن يكون عموم الشعب هو الذي يحكم نفسه بنفسه ، وبالتالي يغدو سيدا في عرينه وسلطانا”في مملكته ؟ أم لأنه يؤمن بضرورة أن يصبح الشعب هو المصدر / المرجع الوحيد لإثبات شرعية ممثليه ، ومن ثم مشروعية نظامه السياسي ؟ وهل هو ذاك الذي ينادي بالتعددية السياسية والتنوع الإيديولوجي ، ويناصر حركات حقوق الإنسان ، ويدعو لفتح قنوات الحوار مع الآخر / الغير ، ويعتقد بأن ظاهرة الاختلاف في الآراء والتباين في المنطلقات ، قمينة بضمان حيوية المجتمع ودليل صحته ؟ أم هو ذاك الذي لا يرى ضمانة للمحكومين من طغيان الحكّام أو عاصما”من جور المستبدين ، إلاّ بوجود دستور دائم وراسخ ، وإقامة الشعائر الانتخابية في ظل دولة القانون والمؤسسات ؟ أم هو ممن يؤرقه همّ الفصل بين السلطات ورسم الحدود بين الصلاحيات وتفعيل الرقابة على الممارسات . وكتحصيل حاصل ، ما الفضيلة التي ينشدها الفرد حين يهتم بنشر ثقافة المشاركة وتعميم قيم المواطنة بين أقرانه ، لاحتواء غرائز السيطرة وإقصاء نزعات الاستحواذ ؟؟ . تلك هي باختصار بعض ما تدعوننا إليه وتحضنا عليه دروس الوعي الديمقراطي في مضمار الممارسة السياسية ومعمعان التجربة الاجتماعية ، إذا ما راق للمجتمع المعني أن ينعم بأجواء الأمن ويرفل برداء الرفاهية . ولكن ما العبرة في طرح مثل هذه الأسئلة الحادة والاستقصاءات القاطعة ، طالما ان الكلّ يخطب ودّ الديمقراطية والجميع يسعى لنيل رضاها ؟ .
الحقيقة ان المؤكد في عرف السياسية أولا” ، ان مفهوم الديمقراطية قد غادر إلى غير رجعة قوالب التصنيفات الكلاسيكية وتخطى أطر التوصيفات التقليدية ، ولم يعد ينتظم ضمن صيغته الحرفية السابقة التي ورثناها عن الأغارقة القدماء عندما نصت على إنها (( حكم الشعب وللشعب وبالشعب )) . بل إنها خلعت ردائها الفضفاض وتخلصت من زخارف التعاريف المبتسرة وتزويق التعليلات القاصرة ، وأمست تفصح – من جملة ما تفصح عنه – عن كونها طريقة أو بالأحرى منهج إنساني يحايث حركة الواقع ويواكب تطور المجتمع ، ليس فقط في مجال تقاليد حيازة السلطة السياسية ومواضعات امتلاك ناصية صنع القرار السيادي وآليات بسط الهيمنة الإقليمية فحسب ، وإنما – وهنا مكمن الأهمية – حصول التوافق وبلوغ التراضي ونشدان التفاهم بين القوى السياسية والاجتماعية إزاء ممارسة تلك السلطة بأسلوب التداول السلمي النابذ للعنف والتطرف ، وشرعنة حالة الصراع عبر اللجوء لقوة الكلمة والمقارعة بمنطق الفكر ، بما لا يحيد عن القواعد العامة ولا يتعارض مع الأسس المشتركة . فالديمقراطية على وفق هذا التوصيف ينبغي تحديدها (( لا بوصفها تغلب الجامع والشامل على الخصوصيات – كما عبّر عن ذلك عالم السوسيولوجيا السياسية ألان تورين – بل بوصفها مجمل الضمانات المؤسساتية التي تتيح الجّمع بين وحدة العقل الوسائلي وبين تنوع الذاكرات ، الجّمع بين التبادل والحرية ))(2) . هذا من ناحية ، أما من الناحية الأخرى فأن المؤكد في عرف الاجتماع ثانيا” انه وأن كانت الديمقراطية وسيلة فاعلة وأسلوب ناجع لتذليل معاناة الشعوب وتأمين حاجاتها المادية والمعنوية ، بما يسهم في تحرير إرادتها المكبلة ، وإطلاق طاقاتها المعطلة ، وتثوير وعيها الشقي . إلاّ انه – وهذا درس آخر – لا ينبغي أن تترك لسلطان مزاجها وطوع رغباتها ، لتمارس لاحقا” طغيانها باسم حقوق الأكثريات الجاهلة أو الإرادة العامة المفترضة أو المصلحة القومية المتخيلة أو أي مسما”آخر ، على خلفية أميتها السياسية وتخلفها الاجتماعي وعوزها الاقتصادي وتأخرها الثقافي وتصدعها الوطني ، فذلك يعدّ كالمستجير من الرمضاء بالنار كما قالت لعرب قديما” . وحيث ان الديمقراطية تعتبر ذروة الممارسة الاجتماعية في مسار وعيها التاريخي ، فهي تسلتزم ، لكي تبلغ رسالتها وتحقيق أهدافها ، إنجاز مطالب الوعي بمضامينها ، وتكييف السلوك على وفق قيمها . ولعل من أبرز تلك المضامين وأرفع تلك القيم تلوح النزعة الوطنية المتطلعة صوب الأفق الكوني الرحب ، وكأنها تتويج لحكمة الإنسان وعقلانيته لا لتعصبه وجهالته ، كما شهد العالم فواجع التجارب النازية والفاشية . فالديمقراطية في نهاية المطاف – باعتقادي المتواضع – هي الوطنية البالغة حدّ الإشباع العقلاني والحضاري والإنساني . بمعنى إنها الفعل السياسي الذي استحضر قيمة الرموز الوطنية التي يبجلها ، واستغرقه الانتماء للهوية الجمعية التي يسعى للحفاظ عليها ، للمدى الذي يبوئها الصدارة في أجندة خياراته ، ويمنحها الأفضلية في تسلسل أولوياته ، بعد أن يشذبها من زؤان العصبيات العنصرية ، ومخلفات النزعات الطائفية ، ويجعل منها معيارا” للمفاضلة وفيصلا” للمقارنة . وهنا يستحضرني ما قاله أمين عام حزب
الله اللبناني السيد ( حسين نصر الله ) خلال ردّه على محاولات المعارضة اللبنانية لسحب البساط من تحت أقدام الحكومة الوطنية المنتخبة ، عبر تجييش المظاهرات الجماهيرية وتصعيد الاحتجاجات الشعبية لحمل الحكومة على الاستقالة ، ما معناه (( هل تريدون أن نحتكم إلى الشارع لتسوية الأمور الوطنية ، وهو في حالة من التعبئة الطائفية والتخندق السياسي ؟ ))(3) . بمعنى ان حلّ المشاكل الاجتماعية ونزع فتيل الأزمات السياسية ، لا يتحقق بترك الزمام تقرره الانفعالات العفوية للجماهير المهيجة سيكولوجيا”والمستنفرة إيديولوجيا”، وإنما الأحرى أن تتكفل بها النخب الوطنية الحريصة على وحدة عناصر المجتمع والضامنة لأمن مكونات الوطن ، بعد أن حصنها الوعي السياسي الناضج ، وعقلنها المراس الديمقراطي المتراكم ، ونورها الغنى الثقافي المتنوع ، وطورها الحسّ التاريخي العميق ، وألهمتها التجربة الواقعية المشتركة . ذلك لأنه في (( الجمهور – كما يجادل غوستاف لوبون – يتحرر الأبله والجاهل والحسود من الإحساس من دونيتهم وعدم كفاءتهم وعجزهم ، ويصبحون مجيشين بقوة عنيفة وعابرة ، ولكن هائلة ))(4) .
وإذا ما استعرضنا مأساة العراق بكل أبعادها ومضامينها المؤلمة ، لاستيعاب الدروس واستخلاص العبرّ ، في ضوء ما جرى وما هو جار الآن وما يحتمل أن يجري في المستقبل ، لتبدت لنا الحصيلة مثبطة للهمم وباعثة على اليأس. فقد تحولت الديمقراطية ، التي هي – ظاهريا”- معبودة كلّ الأحزاب السياسية والتيارات الاجتماعية بدون استثناء ، إلى شعار انتخابي مؤدلج تم زجه في أتون المقالب السياسية والمساومات الحزبية ، لاستقطاب تأييد الجماعات الأولية واستدرار مؤآزرة العصبيات المذهبية ، وذلك من أجل ضمان الفوز ببعض المكاسب الشخصية والامتيازات الفئوية ، بدلا” من اتخاذها كوسيلة عقلانية مشروعة لتحقيق المطالب الوطنية المؤجلة في الاستقلال السياسي والاستقرار الاجتماعي والأعمار الاقتصادي والتبلور الثقافي . والانكى من ذلك ان تلك الأحزاب والتيارات عمدت لتوظيفها كأداة م، أدوات المقالب المذكورة لتعظيم تلك المكاسب ومضاعفة تلك الامتيازات ، بعيدا”عن أصول العمل السياسي الواقعي وخلافا”لأعرافه وقواعده . وعلى هذا فقد تنبّه أحد الكتاب العراقيين – ممن عوّلوا على نجاح التجربة الديمقراطية في العراق – إلى هذه المسألة ، إلاّ انه تجنب الإشارة إليها بصورة مباشرة وصريحة حين أبدى أسفه قائلا” (( ان البرامج المطروحة تمثل خيارات بناء سلطة وليست خيارات بناء دولة . ويبدو إننا سنبقى نعاني من غياب التمييز بين السلطة والدولة ، وعدم وضوح الفرق بينهما لدى النخب ستجد نفسها وجها” لوجه أمام معركة دستورية لا يبدو إنها أعدت نفسها لها بعناية ، حتى التحالفات الانتخابية لم تقم على استعداد القوائم الانتخابية للمعركة يفتح الباب أمام خلافات جديدة ، واصطفافات جديدة ، وتحالفات جديدة تحت قبة الجمعية الوطنية الانتقالية المقبلة ))(5) . وحقيقة الأمر ان القضية لا تتعلق بانعدام التمييز أو قلة إدراك الفارق بين الدولة كسلطة مؤسسة ( بكسر السين ) ، وبين السلطة كمؤسسات حكومية تمارس وظائف الهيمنة والسيطرة معا” بأسم الدولة وتحت غطائها – باعتبار ان هذه الأخيرة ، وان يكن حضورها ماثل في وعي الإنسان / المواطن من خلال تحديدها لأنماط سلوكه وتقنين حدود علاقاته على صعيد الحقوق والواجبات ، فهي كيان اعتباري / معنوي غير ملموس ، لايمكن تعيين أبعاده وتأطير ملامحه والاستدلال عليه ماديا” . فهي على حدّ تعبير الفقيه الفرنسي (جورج بوردو) (( ليست إقليما” أو شعبا” ولا مجموعة من القواعد الملزمة . كل هذه العوامل ليست بالتأكيد غريبة عنها ولكنها تضعها فوق المعرفة المباشرة . فوجودها لا يتعلق بالظاهرية الملموسة ، انه شيء ذهني . فالدولة بالمعنى الكامل هي فكرة . وبما إنها ليس لها غير حقيقة ادراكية فهي ليست موجودة إلاّ لأنها تدرك بالفكر ))(6) . هذا في حين تشكل السلطة امتدادا” لقدراتها (= الدولة) وتجسيدا” لهيبتها في إطار علاقات القوى الفاعلة في المجتمع السياسي ، كما وتعدّ ذراعها المادي لإحلال النظام وفرض القانون على مستوى المجتمع المدني . بيد أن هذا يدفع باتجاه تبني خيار الاستحواذ على مقاليد السلطة وتفضيله على خيار ترصين كيان الدولة وتعزيز سلطانها ، هو ما قد يترتب على الأطراف المعنية من مواقف سياسية والتزامات وطنية ، تتعدى نطاق التوقعات الآنية والحسابات العاجلة لهذا الحزب السياسي أو ذاك ، لهذه الحركة الاجتماعية أو تلك ، مما يجعل البعض يؤثر الطارئ والآني على الثابت والدائم . بمعنى ان التيارات السياسية التي تضع المطالب الوطنية في المقدمة من أجندة خياراتها الاستراتيجية ، كما وتتخذ منها معيارا” لمنهاج تحركها ودليل علاقاتها ، لا يمكن أن تغويها شهوة السلطة ومغرياتها للحد الذي يسوقها للتفريط بتلك المواقف والتنكر لها ، والعكس بالعكس . فالسلطة ، وفقا” لذلك ، وسيلة سياسية مشروعة – لا حاجة بنا للتذكير بأننا نناقش الموضوع هنا من حيث المبدأ لا من حيث الواقع ، إذ أظهرت الوقائع ان الكثير من السلطات تفتقر لأبسط معايير الشرعية – ترتكز إلى قاعدة القوة / المصلحة ، والتي غالبا” ما تعني مصلحة الجماعات السياسية المتنافسة حول مقدار الحصص وكمية المغانم التي يمكن الظفر بها قبل أي اعتبار آخر . وعلى العموم (( يشتد الصراع على السلطة في جميع أنواع الجماعات ، الكبيرة والصغيرة ، الطبيعية والاصطناعية ، بقدر ما يضاف على العوامل الموضوعية من معنى متولد من ذاتية الطامحين إلى السلطة ))(7) . وإذا ما وضعنا الدولة في كفة المقارنة فإنها ستبدو ، بالإضافة إلى كونها صمام أمان لضمان الصراعات الاجتماعية
وإدارة عمليات التوازن السياسي بين الكتل والتيارات ، فهي علاوة على ذلك رمز وطني ومظهر سيادي لا يمكن
لأي كان تجاهل أهميتها وازدراء دورها والاستغناء عن ضرورتها ، ما لم يكون مستعدا” للتفريط بمقومات وجوده الاجتماعي وشروط أمنه السياسي وشواخص تراثه الحضاري ، فضلا”عن ترك مصيره نهبا” للمشاكل والاضطرابات ، حيث تقرره الصدفة وتتحكم به الاحتمالات .
وبناء على ما تقدم فان ظاهرة انهيار ( السلطة ) السياسية – بصرف النظر عن الأسباب والدوافع – لا يترتب عليها بالضرورة تآكل أركان ( الدولة ) والإفضاء بها إلى السقوط ، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة . أما لو حدث العكس – كما في حالة العراق ومن قبله أمثلة أفغانستان والصومال – فان آثار سقوط الدولة سرعان ما تنسحب على مجمل عناصر المجتمع وفعالياته كافة ، بما في ذلك مكونات السلطة السياسية وأشكالها التشريعية والتنفيذية والقضائية ، فضلا” عن مختلف الأجهزة والمؤسسات الرسمية والشعبية الأخرى . الأمر الذي يستلزم أن تضطلع قواه السياسية ونخبه الثقافية بالمسؤولية التاريخية من خلال تأكيدها المضاعف على ثوابته الوطنية ، وحثها المتواصل على التمسك برموزه الاجتماعية ، ومثابرتها المستمرة على صيانة مقومات وحدته الجغرافية ، وتثقيفها اليومي على الاعتزاز بأصوله الحضارية . ومن هذا المنطلق فإذا ما كانت النخب السياسية والثقافية العراقية قد اعتمدت ، لإحراز قصب السبق في مضمار الماراثون الانتخابي(8) ، على رهانات الاستقطاب الطائفي والاصطفاف العنصري والتمحور العشائري ، دون مراعاة الاستحقاقات الوطنية الملحة والمصيرية ، كالأمن الاجتماعي والاستقلال السياسي والسيادة الوطنية والعمار الاقتصادي ، لاسيما البنى التحتية المدمرة ، ومعالجة قضايا الديون الخارجية ، والقضاء على مظاهر الجريمة المنظمة ، والفساد المالي والإداري ، وإعادة تشكيل دولة القانون وتأهيل مؤسساتها وتعزيز قيم المواطنة ، واتخاذ الإجراءات الضرورية لإحياء الواقعية السياسية بما يعيد للعراق مركزه الإقليمي واعتباره الدولي ، يغدو من باب الضرورة المنطقية التساؤل عن ماهية الضمانات التي يمكن اعتمادها لتأكيد نجاح عملية الانتخابات التشريعية التي أنجزت في الثلاثين من كانون الأول (يناير) أو أية نشاطات أخرى قادمة ، سواء تعلق الأمر بصياغة وثيقة الدستور أو اختيار شكل النظام السياسي ، وفقا” للمقاييس الوطنية الثابتة والمعايير الديمقراطية المعروفة . فهل يا ترى لأنها بلغت مستويات عالية من المشاركة الشعبية لم تكن متوقعة ، قياسا” بحراجة الظروف الأمنية وتدهور الأوضاع السياسية القائمة حاليا”، أم لأنها حظيت بمظاهر القبول والرضى من لدن الأكثرية التي يحق لها الإدلاء بأصواتها في صناديق الاقتراع ، بحيث نبيح لأنفسنا الحق بإضفاء الشرعية على نتائجها ؟ . ولعل من المفيد في هذا المنعطف الخطير والمعقد ، التذكير بما قاله الباحث العراقي (فاضل الربيعي) للوقوف على ما ستؤول إليه هذه التجربة الملتبسة من نتائج وما سيتمخض عنها من حصائل مربكة إذ : (( ان التاريخ الاجتماعي والسياسي في العراق ، يقدّم نموذجا”دراسيا”ممتازا”عن الطريقة التي تقوم فيها الجماهير بالاستيلاء على الحزب وإخضاعه ، بحيث تغدو السياسة مع الوقت ، نوعا”من هياج جماعي يفضي في كل مرة ومع كل حدث ، إلى تفاقم الصراعات والى دورات من العنف غير القابلة تقريبا”على السيطرة ؛ بينما تتراجع أدوار النخب السياسية والفكرية ))(9) .
والواقع انه في مثل ظروف العراق الحبلى بالنذر والمفاجآت ، حيث تتراوح ما بين الانفلات الأمني والتصدع النفسي والانقسام الاجتماعي والتشنج في العلاقات البينية ، وتوزع الولاءات بحسب التكوينات الاثنية والدينية والطائفية والعشائرية ، لا يمكن الركون إلى اتجاهات رأي الجمهور المعبأ بالعواطف والمشحون بالانفعالات ، طالما ان غالبيته العظمى تفتقر لأبجديات الوعي الديمقراطي ، فضلا”عن تدني مستويات ولائه الوطني وجهلة بطبيعة هويته السياسية . إذ من شأن ذلك أن يؤزم المواقف ويفاقم المشاكل ويصعب الأوضاع ويخل بموازين القوى والتكتلات ، ليس الآن فقط وإنما في المستقبل أيضا” . وعلى أية حال فان ما تمخض من نتائج وما تكشف من حصائل ، لا يفصح عن جهل العامة وقلة حيلتها ، بقدر ما دلل على عجز الخاصة وتقاعسهم عن الارتقاء بمستوى أنصارها ومريديها من حيث النضج السياسي والوعي الوطني ، بحيث انساقوا خلف رموزهم العصبوية ، واستحضروا موروث ثقافاتهم الفرعية ، واستدعوا نعرة ترابطاتهم العضوية .
وعودة على بدء ، فان معطيات الوعي الديمقراطي ، لا تعني – بحصر المعنى – الممارسة الانتخابية ولا تدخل في شروطها عدد الذين انخرطوا فيها ، بقدر ما تؤكد على حقيقة إنها أولا” وقبل كل شئ ؛ قيم حضارية وثقافة عقلانية وموقف إنساني وانتماء وطني ، يردفها بناء مؤسسات دستورية فاعلة وإنماء ممارسات اجتماعية ناضجة فالديمقراطية تتلاشى – كما يعتقد جوليان فروند – (( عندما تكون السلطة الوحيدة المعترف بها للمواطن هي أن يضع ورقة انتخابية في صندوق الاقتراع مرة واحدة كل أربع سنوات أو خمس ))(10) . وعلى ذلك فليس من الحكمة السياسية ولا الأنصاف الأخلاقي ألاّ توضع المطالب الوطنية بمنأى عن مقالب السياسة وألاعيبها ، بزعم ان وسائل الثانية تخدم مآرب الأولى عبرانتهاج الممارسات اللاديمقراطية ، لاسيما في التعامل مع القضايا الوطنية الحساسة التي تتطلب قدرا” نسبيا” من التضحية ، وتستلزم مستوى عال من نكران الذات . فالذي لديه الاستعداد لأن يخسر ثوابت وطنه ويتخلى عن مصالح شعبه ، لأجل أن يربح رهان السياسة بوسائل لا وطنية ملتوية ، سوف لن يخسر نفسه نهائيا” ويفرط باعتباره كليا” ، ليس لأنه قدم رهانات العاجل على حساب ضمانات الآجل فحسب ، وإنما فضل خيار معارضة حركة التاريخ ، ومناهضة منطق الجغرافيا ، ومخالفة قوانين الاجتماع .
الهوامش المصادر
(1) لقد سبق نشر موضوع هذا الدرس ، فضلا”عن الدرسين الثاني والثالث على صفحات جريدة السيادة في أعداد سابقة . وقد تم إعادة نشرها مجتمعة ضمن مجلة ( فكر حر ) العدد الأول بتاريخ كانون الثاني (يناير) / 2005 ، ص 21 .
(2) ألان تورين ؛ ما هي الديمقراطية ؟ حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية ، ترجمة الدكتور حسن قبيسي (بيروت ، دار الساقي ، 2001 ) ، ط /2 ، ص8 . هذا وقد أشار الدكتور محمد عابد الجابري إلى أن (( مفهوم الديمقراطية قد تغير وتبدل ، وأنه في تطور دائم ، يستمد حركته التطورية من حركة التطور التاريخي التي لا تني ولا تقف . ففي كل عصر ، بل ربما أثناء العصر الواحد نفسه ، كان هناك مفهوم للديمقراطية ، ان لم يكن مخالفا” للمفهوم الذي ساد قبله ، فهو على الأقل نغاير له إلى حدّ كبير )) . أنظر كتابه : الديمقراطية وحقوق الإنسان ، سلسلة الثقافة القومية (26) ، قضايا الفكر العربي (2) ، ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 1997 ) ط/2 ، ص14 .
(3) لقد قيل هذا الكلام خلال الأزمة السياسية التي عصفت بالمجتمع اللبناني عقب حادثة اغتيال رئيس الوزراء ( رفيق الحريري ) ، والتي يبدو ان العدوان الإسرائيلي الأخير قد أزاح تداعياتها مؤقتا” عن واجهة الأحداث الدامية .
(4) غوستاف لوبون ؛ سيكولوجية الجماهير ، ترجمة وتقديم هاشم صالح ( بيروت ، دار الساقي ، 1997 ) ط/2 ، ص74 .
(5) نشير هنا إلى ما أفصح عنه رئيس تحرير مجلة الإسلام والديمقراطية الأستاذ محمد عبد الجبار شبوط من هواجس مشروعة حيال مخاضات إعداد مسودة الدستور الدائم ، والذي فاته ان طبيعة الخيارات التي كانت – ولا تزال – مطروحة على الساحة السياسية العراقية ، لا تكمن فقط في سعي التيارات السياسية المسؤولة نحو ( بناء السلطة ) على أنقاض ( بناء الدولة ) – ولكن سلطة من- ، بل في الإصرار على ( بناء المليشيات الطائفية ) فوق وضد كل من السلطة والدولة معا”كما دللت التجارب الدامية وأثبتت الوقائع المروعة لاحقا. أنظر ؛ مجلة الإسلام والديمقراطية ، العدد/8 ، 15 كانون الأول (ديسمبر) 2004 ، ص5 .
(6) جورج بوردو ؛ الدولة ، ترجمة الدكتور سليم حداد ، ( بيروت ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر ، 1985 ) ، ص10 .
(7) الدكتور ناصيف نصّار ؛ منطق السلطة : مدخل إلى فلسفة الأمر ، ( بيروت ، دار أمواج ، 2001 ) ط/2 ، ص346 .
(8) الجدير بالملاحظة ان موضوع هذا الدرس كتب خلال حمى عملية الانتخابات النيابية (التشريعية) التي سبقت وضع مسودة الدستور العتيد فترة وجيزة ، وقد ارتأينا إبقاء المضمون على حاله مع إجراء بعض التعديل هنا والإضافة هناك ، لكي يتاح للقارئ فرصة التقييم والمقارنة على وفق ما آلت إليه الأوضاع من تردي سياسي ونكوص اجتماعي .
(9) فاضل الربيعي ؛ الجماهيرات العنيفة ونهاية الدولة الكارزمية في العراق ، ( دمشق ، الأهالي للطباعة والنشر ، 2005 ) ، ص24 .
(10) كلود جوليان ؛ انتحار الديمقراطيات ، ترجمة عيسى عصفور ، ( دمشق ، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي ، 1975 ) ، ص172 .