لا يكاد أي نشاط يمارسه الإنسان أو فاعلية يحسن إتقانها أو مهمة يستطيع إنجازها إلاّ وتعكس رصيد وعيه الفردي وحصيلة ثقافته العامة ونمط علاقاته الاجتماعية . فليس هناك ما تهبه قدرته القيام به كذات أو يتعرض له كموضوع ، دون أن يكون لنضوجه العقلي وثرائه المعرفي حصة فيه أو رأيا” حوله . يستوي في هذا الحكم كل ما يتصل بمجالات حياته الواقعية والرمزية ، الآنية والمستقبلية ، العقلية والاعتقادية ، سواء أكان معها لأن ما فيها من مضامين تتفق وقناعاته الفكرية ، أو تنسجم واتجاهاته السياسية ، أو تتماشى وطموحاته الشخصية ، أو تتلائم وسجاه النفسية وخصاله الأخلاقية . أو ضدها لأنه لا يتوقع منها إلاّ ما يتعارض مع ما يؤمن به من مبادئ ويعتقد فيه من قيم ويدعو له من مثل . وهكذا فالمستوى الثقافي لا يكون فقط عامل جوهري وعنصر محدّد لاتجاهات الفرد وطبيعة مواقفه حيال ما يمثله من دور اجتماعي وما يحتله من مكانه اعتبارية وما يشكله من قيمة إنسانية فحسب بل وكمعيار للتمييز الإنساني والمفاضلة الحضارية بين المجتمعات من حيث درجة تطورها ومستوى رقيّها ومرونة حراكها وعقلانية تفكيرها وزيادة قوتها ومراكمة نفوذها أيضا . (( ففي الثقافة وبالثقافة – كما يؤكد المفكر محمد عابد الجابري – يدخل الفرد البشري حقا” في البعد الإنساني للحياة ويسمو عما فيه من مقومات بيولوجية محض ،
وبالثقافة تتخذ حياته شكلا” خاصا” ، فهي التي تعطيه الجذور التي تموضعه في المكان والزمان وتجعله حاملا” لتراث ، وهي التي تفتح أمامه إمكانيات وآفاقا” خاصة يستطيع بها التعرف إلى العالم والاحتفاء به )) (1) .
وحين نعزو للثقافة هذا القدر الهائل من الأهمية في مسائل جوهرية من مثل ؛ تحليل العوامل التاريخية ، وتشكيل السياقات الاجتماعية ، وتأويل الظاهرات النفسية ، وتحويل البنيات الفكرية التي تحيط بواقع الإنسان وتسهم في تعيين مسار حياته ونمذجة مفردات شخصيته ، ومن ثم تفضي به لتفضيل هذا الخيار السياسي أو ذاك ، واعتناق هذا المذهب أو ذاك ، وتأييد هذه الإيديولوجية أو تلك . فان ذلك لا يعني إنها ( = الثقافة ) تمارس سحرها وتفرض طقوسها على الجميع بكيفية إرادية منتقاة وكأنها بضاعة أو سلعة يتناسب حجم الطلب عليها مع ما تمثله من قيمة استعمالية ، بل هي تتبلور نظريا” وتتحصل إجرائيا” وفقا” لشروط معينة وأوضاع مخصوصة ، يتداخل فيها ويتفاعل عندها الوعي الفردي بالمخيال الجمعي ، الممارسة الواقعية بالتفكير الأسطوري ، المصلحة الشخصية بالإيثار الأخلاقي ، النوازع الاستحواذية بالتكيف الاجتماعي ، بحيث يمكن أن تتهئ لشخص ما دون أن تتاح لغيره بحسب أصوله الاجتماعية ، وتكوينه الفكري ، وانتماءه السياسي ، وتحصيله العلمي ، وإعداده المعرفي ، ومخزونه النفسي . إذ ان ذلك يعتمد بالأساس على طبيعة المجتمع الذي ينتمي إليه ومستوى التطور الذي بلغه في سلم الحضارة من جهة ، وشكل النظام السياسي الذي يحكمه وماهية المعايير التي يستبطنها في تعامله مع الذات وتعاطيه مع الآخر من جهة ثانية ، ودرجة المرونة الفكرية التي يبديها وأنماط التنوع الثقافي التي يشجعها فيما بين مكوناته من جهة ثالثة . بمعنى انه ليس كل مجتمع قادر على إنتاج الثقافة وتكوين المثقفين ، مثلما ليس بمقدور الطبيعة خلق الأشكال المادية من الفراغ . فالثقافة (( بصفة عامة تساعد على التمييز بين فرد وآخر ، وبين جماعة وأخرى ، وبين مجتمع وآخر . بل ان الثقافة هي التي تميز الجنس البشري عن غيره من الأجناس ، لأن الثقافة هي التي تؤكد الصفة الإنسانية في الجنس البشري )) (2) . إذن وحدها فقط المجتمعات التي أخذت بأسباب التجربة الديمقراطية ، وألزمت نفسها بمراعاة قيمها ، هي من يستطيع أن يقدم الضمانات المادية ويجترح الفضائل المعنوية التي من شأنها تمهيد السبل الكفيلة بإثراء شخصية الفاعل الاجتماعي لكي يعبر عن مكنون إرادته الإنسانية بكامل أبعادها ، وتحضه على فتح مغاليق مواهبه الإبداعية في المجالات كافة دون أن يخشى غضب السلطة أو ردة فعل السلطان . بحيث لا يستقيم وجودها بصفتها هذه إلاّ بضمان أمنه السياسي وتأمين حاجاته الاقتصادية وتطمين وضعه الاجتماعي وازدهار وعيه الثقافي . وإذا كنا قد شخصنا نمط المجتمع الذي نعتقد بأنه دون سواه مؤهل – وفقا” لاعتباراتنا السابقة – لاحتضان الثقافة ورعاية المثقفين بالمعنى الذي يفيد أنسنة الواقع وعقلنة الوعي ، فلا ينبغي أن يفسر على انه بمثابة دعوى لترويج فكرة الديمقراطية ومسعى لتسويق خياراتها وتشجيع الوعي بمضامينها – رغم ان ذلك من أولويات حرية التعبير والإفصاح عن الرأي – فهي على أية حال لا تحتاج إلى من يروج لها أفكارها ويسوق عنها فضائلها . وإنما الغاية التي نرمي إليها هنا بالدرجة الأولى هي أن يصار إلى بيان أهمية أن ينال الإنسان قسطا”معينا” من الثقافة الذاتية – كلما كان وافرا” كان أفضل – بحيث تتيح له القدرة على التمييز بين أنسب الخيارات الاجتماعية وانتقاء أفضل الممارسات السياسية التي تبيح له خوض غمار عمليات التواصل الإنساني والتفاعل الحضاري دون خوف من سلطة أو تردد من عرف ، سوى ما تلزمه به الاعتبارات التي تتصل بقيم الحرية والكرامة والاستقلال . كذلك بالمقابل نروم توضيح حجم الكوارث وطبيعة المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها حياته ويساق نحوها مستقبله إذا ما قبل أن يبقى أسير الجهل بالمجتمع ورهين التخلف عن الواقع . ذلك لأن (( الأمة التي تتعدد فيها وتتوازن أنماط الحياة تصبح أقل تعرضا” للمفاجآة ، وأكثر قدرة على الاستجابة للمواقف الجديدة . ومن ثم فان النظم السياسية التي تشجع تنوع أنماط الحياة أقرب للنجاح من تلك التي تقمع التنوع اللازم ، الأمر الذي تفتقر إليه نظريات أخرى)) (3) . فالمجتمع الديمقراطي ، بالتعريف ، هو ذاك الذي تدار مؤسساته وتوزع سلطاته على وفق ما تستوجبه مشاركة المواطنين في شؤونه ، ورضاهم عن توجهاته ، والانخراط في نشاطاته . وهو الشئ الذي لا يمكن معه تصور وجود مثل هكذا مجتمع ما لم يتمتع أفراده بالحد المعقول من الوعي والحد الأقصى من الثقافة ، باعتبار ان هذه الأخيرة تشكل علامة فارقة في مسار تحول الإنسان من فوضى الضرورة إلى مملكة الحرية . فكلما أدرك المرء طبيعة العوامل التي يعتمد عليها وجوده الاجتماعي ، واستشرف مآل المقومات التي يرتكز فوقها مستقبله الحضاري ، وتطلع لتفعيل دوره وتعظيم إسهامه في العلاقات الإنسانية ، كلما اكتسب المهارات الذهنية وانتهج الأنماط السلوكية واجتاف المعايير الأخلاقية التي تمكنه من التغلب على عواقب تأخره وتمحضه القدرة على تجاوز معوقات نهوضه ، وكلما أيضا” تحكم بنظام أموره وامتلك زمام مصيره . واستطاع ، بالتالي ، أن يحول دون استغلال جهله بأمور الدولة وقلة معارفه بواقع السلطة التي طالما راهن المسئولين فيها والقيمين عليها على الاستخفاف بعقله والاستهانة بقدراته والمساومة بمصالحه والتفريط بإنسانيته ، للحد الذي بات لا يحسب حسابه ولا يؤخذ برأيه حتى في تلك المسائل التي تخص حاضره والقضايا التي تهم مستقبله . من هنا نستطيع أن نعلل أسباب الهلع الذي ينتاب أنظمة الحكم الاستبدادية حين يتعلق الأمر باستحقاقات الموقف من الثقافة التي ينبغي اشاعتها داخل الفضاء الاجتماعي ، والمثقفين الذين يتوجب بثهم في مؤسسات التنوير الفكري . فبما انه يتعذر تبرير فساد المجتمع ، وتمرير أكاذيب السياسة ، وتعمير خرائب الاقتصاد ، وتسخير أوهام الايديولوجيا ، من دون غطاء ثقافي مموه على شكل خطاب إعلامي موجه ، يرتكز على مسوغات قيمية واستعدادات سيكولوجية لدى الناس العاديين الذين غالبا” ما يجري تضليل إدراكهم للواقع المسكون بالتغيير وتنميط وعيهم حول المشكلات التي يطرحها المجتمع المجبول بالحراك ، مما يستتبع ضرورة إبقاء الجمهور المهمش قدر الامكان ضمن دائرة المعلومة المفبركة والرأي السطحي . أي استمرار السيطرة عليه وهو في حالة من عدم الإحساس بوطأة الحرمان الاقتصادي الذي يجتاف بؤسه المميت ، وقليل الشكوى من الطغيان السياسي الذي يتماهى بسطوته القاتلة . ولهذا (( فباستخدام الأساطير – كما يقول الأكاديمي الأمريكي هربرت شيللر – التي تفسر وتبرر الشروط السائدة للوجود . بل وتضفي عليها أحيانا” طابعا” خلابا” ، يضمن المضللون التأييد الشعبي لنظام اجتماعي لا يخدم في المدى البعيد المصالح الحقيقة للأغلبية . وعندما يؤدي التضليل الإعلامي للجماهير دوره بنجاح ، تنتفي الحاجة إلى اتخاذ تدابير اجتماعية بديلة )) (4) .
والجدير بالملاحظة انه إذا كانت الثقافة العامة كنشاط فكري وتصورات رمزية مطلوبة لذاتها ، من حيث كونها أداة فعالة لتحرير الإنسان من أوهامه العنصرية وتبديد أساطيره الطائفية واجتثاث نزعاته البدائية ، لاسيما بالنسبة لشعوب البلدان التي تخطت مرحلة طفولتها الحضارية وتجاوزت عتبة الوعي بالذات والانهمام بالآخر ، بعد أن أحكمت هيمنتها على مجال العلاقات الدولية ، واخترقت شبكات التواصل الإنساني . فان حاجة شعوب العالم الثالث للثقافة الديمقراطية تحديدا”تكاد تكون أكثر إلحاحا” وأشد ضرورة من حيث كونها الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامها في عصرنا الحاضر ، لكي تحوز رهان الانعتاق من أسار ماضيها المعتق بالتخلف ، وتقلب صفحات تاريخها الموغل في الجمود ، وتستعيد زخم إرادتها الموؤدة بالقهر المزمن . ذلك لأن عمليات أصلاح هياكلها الاقتصادية المهترئة ، وإعادة ترميم بنيتها الاجتماعية المتداعية ، ومحاولات تفعيل أنساقها المعرفية المعطلة ، ومساعي عقلنة ممارساتها السياسية المتهورة ، مرهونة ولحد بعيد ليس فقط بتبني خيار التجربة الديمقراطية كشعارات ومساومات ومزايدات وخطابات كما تعودت الشعوب الرازحة تحت نير الأنظمة الشمولية أن تسمعه وتتغذى عليه صباح مساء على وفق مبدأ ان التكرار يولد التصديق والقناعة ، بعد ان أيقنت بأن الواقع أثبت فشل سياساتها وساقها لأن تلمس فداحة أثمنها ، وإنما لابد من غرسها كقيم وتوطينها كعلاقات وترصينها كمؤسسات وتدعيمها كمواقف . الأمر الذي لا يمكن الادعاء بتحقيقه دون أن يكون المدخل إلى ذلك تعميم مبادئ الثقافة الديمقراطية بين أفراد المجتمع المعني وإشاعة الممارسات الحضارية بين مكوناته ، على قاعدة ان (( الديمقراطية لا هدف لها بحد ذاتها . إنها الشرط المؤسساتي الذي لا غنى عنه لابتداع العالم على يد قوى فاعلة مخصوصة ، مختلفة بعضها عن بعض ، لكنها تعمل معا”على إنتاج قول البشرية ، وهو قول لا يكتمل أبدا” ولا يمكن توحيده مطلقا”. فإذا غاب عن وعي الديمقراطية دورها الذي يضعها في خدمة الذوات الشخصية ، فإنها تتردّى إلى اوالات مؤسساتية من السهل وضعها في خدمة الأقوياء وفي خدمة الأجهزة والجماعات التي راكمت من الموارد ما يكفي لتمكينها من فرض سلطتها على مجتمع لا يضع أي عائق أو حاجز في وجه غزوها له )) (5) . مع التأكيد على ان عناصر الوعي الديمقراطي لا يكتمل نضجها وتترسخ قواعدها في منظومة العقل الجمعي بغير إدراك مغزاها التربوي واستيعاب مضمونها الأخلاقي باعتبار كونها أرقى ما توصلت إليه البشرية في مسيرة تجاربها الاجتماعية وانضج ما بلغته في ممارستها السياسية ، بحيث أصبحت رصيدا”حضاريا” للإنسانية جمعاء وإرثا”تاريخيا” لأجيالها القادمة .
ومما يزيد في أهمية الثقافة الديمقراطية والتطلع للظفر بخيارها في حالة الشعوب المخترق وعيها والمنتهكة كرامتها والمستعبدة إنسانيتها ، هو ان الأنماط الاجتماعية بمختلف أشكالها والتجارب السياسية بشتى أنواعها – باستثناء النظام الديمقراطي – لا تصلح أن تكون نموذجا” يحتذى من جانب تلك الشعوب لاتخاذه كسبيل مأمون العواقب ، تنشد من خلاله الخلاص من دياجير عبوديتها ، وتستطيع بالاعتماد عليه الانتقال إلى رحاب حريتها ، طالما إن أنظمتها السلطوية مجبولة على أساليب التجهيل الثقافي والتهميش الاجتماعي والإقصاء السياسي والتجويع الاقتصادي ، بحيث يكون بمقدورها متى شاءت فرض ما تراه مناسبا”من قوانين وتشريعات ولوائح لتعزيز هيبتها وتقوية شوكتها وإظهار سطوتها ، بحيث تجعلها في منأى عن المساءلة الدستورية والمحاسبة الأدبية من جهة ، وتمنحها التفويض الشكلي لقمع تطلعات الرأي العام وكبح جماحه وضبط سلوكه من جهة أخرى . ذلك لأن تلك الأنظمة الهمجية مصممة ، بواقع أصولها الشاذة وطبيعتها الاستثنائية ، لإلغاء مقدرة المحكومين على اختيار من يمثل إرادتهم ويجسد آمالهم في مؤسسات الدولة ، وتغييب وعيهم في تقدير أهمية مشاركتهم في تنظيم شؤون المجتمع ، وإضعاف ثقتهم بأنفسهم من حيث كونهم مواطنين فاعلين لهم حقوق يمارسونها بتعقل وعليهم واجبات ينفذونها بحكمة . ولهذا فمردود الثقافة في بعدها الديمقراطي لا تفضي – كما قد يتبادر إلى ذهن العامة من الناس – طابعا”من السكون والثبات على مكونات المجتمع المتباينة وعناصره المختلفة ، بفعل آليات الاندماج الاجتماعي والانصهار الثقافي والتمازج السلالي(6) ، بزعم إنها تقصي الفوارق في توزيع موارد الثروة ، وتنفي التمايزات في تقسيم مصادر السلطة ، بل إنها تؤدي فعلا”إلى تحفيز التناقضات الداخلية وتحريك الصراعت البينية إلاّ إنها تبقى في المحصلة النهائية (( صراعات أفقية ، أي طبقة ضد طبقة أو إيديولوجيا ضد أخرى أو عقلية ضد عقلية ، والنتيجة في مثل هذا الصراع هي ظهور الجديد من جوف القديم والوصول إلى نتائج جديدة ، وبالتالي تحقيق تقدم . أما غياب الديمقراطية فهو لا يؤدي إلى انتفاء الصراع وإنما يصرفه إلى القوالب العتيقة كالقبيلة والطائفة مما يجعل منه صراعا” عموديا”، حيث يقف الفقير والغني في صف ليقاتلا الفقير والغني في الصف الآخر مما يجعل من الصراع فتنة واقتتالا”وتدميرا” للذات )) (7) .
وغالبا” ما لجأت جمهوريات الخوف لحملات التعبئة الإيديولوجية القائمة على التجهيل والتضليل والتسطيح والتعمية ، بدلا” من أساليب التوعية السياسية المبنية على أسس وقواعد المحاكمة الواقعية والتحليل الفكري والاستنباط العقلاني . وذلك للحيلولة دون أن يتمكن أفراد المجتمع المغلوبين على أمرهم من إدراك وقائع بؤسهم والتعرف على أسباب معاناتهم ، وتقيهم فضلا” عن ذلك من الأضرار الناجمة عن طيش قادتهم وسوء تصرفات حكوماتهم . مستخدمة لذلك دعاوى الحفاظ على ( الوحدة الوطنية ) المهددة ، ومخاطر ( الأطماع الاستعمارية ) المتعاظمة ، وصيانة ( مصالح الشعب ) الحيوية ، وتأمين ( ضرورات التنمية ) الملحة .. الخ ، لتسويغ مآربها الشخصية وتبرير انتهاكاتها لحقوق الإنسان والحريات العامة ، التي تتراوح ما بين الاضطهاد الاجتماعي والتعسف السياسي والحرمان الاقتصادي والترويع النفسي إلى مظاهر التطهير العرقي والإقصاء الطائفي والتمييز الديني والاصطفاء القبلي . ولعل هذه الانحرافات والتجاوزات حملت العالم السياسي الأمريكي (صموئيل هنتنغتون ) لأن يعتقد بأن (( الدولة الممركزة والقوية هي نصيب المجتمعات التي لم تتمكن من بلوغ الحداثة إلاّ من خلال النزاع ورغما” عن مقاومة البنى التقليدية )) (8) ، دون أن يخالجه أدنى شك حول مصادر تلك المركزة والقوة التي يعزوها للدولة كما لو إنها كانت قدرا” مسلطا” على مصير المجتمع الذي بعثت إليه من خارجه كعقاب له على قلة وعيه وبطئ حراكه وانعدام تطوره ، إنما بلغت هذا الشأو من التمركز وحازت ذلك القدر من القوة بفعل جملة من العوامل الداخلية التي كان من أبرزها ضعف الدولة التابعة وخيانة الأنظمة المستتبعة بعد أن تحولت من خياراها الوطني الديمقراطي قبل الاستقلال إلى خياراها اللاوطني الدكتاتوري بعد الاستقلال . وهنا يشخص الباحث الخليجي ( تركي الحمد ) نمط هذه الأنظمة وطبيعة السلطات التي توالت على حكمها ، لاسيما بنسختها العربية المعدلة حين يقول بأنها (( ذات تفرد معين وذات هيمنة شمولية معينة على طول التاريخ العربي وهي دائما” تحاول عجن المجتمع أو صياغته على الشاكلة التي تريد نافية خلال ذلك كل تعددية محتملة أو ممكنة أو متواجدة سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي . والمجتمع ذاته غالبا”، لكي لا نقول دائما”، يسير على وتيرة واحدة من القيم والمعايير المكتسبة والمفروضة ، بحيث لا يسمح بأي درجة من الاختلاف أو التنوع في هذا المجال ، وعلى ذلك يمكن القياس بالنسبة لكافة الأوجه الأخرى من الحياة العربية على امتداد تاريخها )) (9) . أما العامل الخارجي فقد تمثل بحجم وطبيعة الدعم والمساندة التي أبدتها الدول الاستعمارية حيال الأنظمة الفاسدة والقمعية في أرجاء المعمورة كافة ، لكي تتمكن هذه الأخيرة من إبقاء شعوبها خارج دائرة المراقبة والمحاسبة التي يمكن أن تمارسها إزاء عمليات النهب التي تتعرض لها ثرواتها الوطنية والتخريب التي تطال شواخصها الحضارية ، بعد ان جردت من حق التمرد على الحكام الطغاة والثورة على الأنظمة التسلطية ، عبر حرمانها من التمتع بثمار الثقافة الديمقراطية وإبعادها عن مصادر الوعي النقدي واستقاء الرأي المستقل ، بحيث تتمكن دون وصاية أو تبعية من تصويب الأخطاء السياسية التي ترتكبها الحكومات ، ومعالجة الاختلالات الاجتماعية الناجمة فساد الأنظمة على خلفية وهن القيم الثقافية وغياب المعايير الأخلاقية التي تشكل بوجودها ضوابط الفعل الاجتماعي وتحدد طبيعة إرهاصاته الإنسانية . من ذلك نستنتج (( ان السلوك الديمقراطي ، لا يتبناه إلاّ وعي مستقل . ومن العبث التوهم أن بامكان الشخص أن يكون ديمقراطيا”، متى أراد دون أن يتزحزح من موقعه ، أي دون أن يمر بسلسلة من التحولات ، في اتجاهاته وتصوراته البدائية )) (10) .
الهوامش والمصادر:
(1) الدكتور مجمد عابد الجابري ؛ المسألة الثقافية في الوطن العربي ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ،
1999) ، سلسلة الثقافة القومية (25) ، ص213 .
(2) تيري انغلتون ؛ فكرة الثقافة ، ترجمة ثائر ديب ( دمشق ، دار الحوار للنشر والتوزيع ، 2000 ) ، ص8 .
(3) ميشيل طومسون وآخرون ؛ نظرية الثقافة ، ترجمة الدكتور علي سعد الصاوي ( الكويت ، المجلس الوطني
للثقافة والفنون والآداب ، 1997 ) ، ص14 .
(4) هربرت شيللر ؛ المتلاعبون بالعقول ، ترجمة عبد السلام رضوان ( الكويت ، المجلس الوطني للثقافة والفنون
والآداب ، 1986 ) ، ص5 .
(5) آلان تورين ؛ ماهي الديمقراطية ؟ حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية ، ترجمة الدكتور حسن قبيسي ( بيروت ،
دار الساقي ، 2001 ) ، ص 173 .
(6) على من يعتقد خطأ بأن عصا الديمقراطية السحرية قادرة على تعطيل التفاعلات الاجتماعية ، وإيقاف
التناقضات الطبقية ، وتسوية الخلافات المصلحية ، ولجم النزعات الفردية ، ضرورة الإقلاع عن هذه الأوهام
والإقرار مع الكاتب ( كلود جوليان ) بحقيقة انه (( إذا كانت الديمقراطية تقصد ، من حيث المبدأ ، إلى تنمية
فن الحياة المشتركة ، فانه لا يمكن تصورها عمليا” بدون مزاحمة تحرك النزعة الفردية )) . أنظر كتابه :
انتحار الديمقراطيات ، ترجمة عيسى عصفور ( دمشق ، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي ، 1975 )
ص103 .
(7) الدكتور محمد عابد الجابري ؛ الديمقراطي وحقوق الإنسان ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 1997)
سلسلة الثقافة القومية (26) ص108 .
(8) برتران بادي و بيار بيرنبوم ؛ سوسيولوجيا الدولة ، ترجمة جوزيف عبد الله وجورج أبي صالح ( بيروت ،
مركز الإنماء القومي ، د . ت ) ص 32 .
(9) الدكتور تركي الحمد ؛ الثقافة العربية أمام تحديات التغيير ( بيروت ، دار الساقي ، 1993 ) ص35 .
(10) محمد كداح ؛ الديمقراطية ونشأة الوعي المستقل ، مأخوذ عن موقع مجلة (فكر ونقد ) على شبكة الأنترنيت
aljabriabed com .fikrwanakd.www