23 ديسمبر، 2024 6:22 م

دروس أولية في الوعي الديمقراطي : بين رذائل الإقصاء وفضائل المشاركة

دروس أولية في الوعي الديمقراطي : بين رذائل الإقصاء وفضائل المشاركة

غالبا”ما تطرح النقاشات حول الممارسة الديمقراطية وجدوى الاهتمام بها وشرعية الترويج لها ، جملة من التساؤلات النظرية والاعتراضات الإجرائية المتعلقة بماهية الأسس والمبادئ التي يمكن – بناء على التجربة الاجتماعية – اعتمادها من لدن الباحثين والسياسيين ، كمعايير أو منطلقات تساعد على تمييز هذا النظام السياسي عن ذاك وتوصيف هذه الدولة عن تلك ، فضلا”عن وضع المؤشرات الخاصة بتضمين ممارسات كل منهما قيم الخيار الديمقراطي والاستعداد لتمثل معطياته في المجالات كافة ؛ الثقافية والاجتماعية والاقتصادية ، فضلا”عن السياسية . ذلك لأن مفهوم الديمقراطية أصبح بالأساس لا يتوافق إلاّ مع التصور النسبي للفكر والرؤية المنهجية للتاريخ التي من شأنها التفلت من أسار أية تأطيرات سياسية ، أو تحديدات طبقية ، أو تظمينات إيديولوجية ، أو خيارات اقتصادية . بمعنى انه وجد ليبقى مشرع الأبواب ومفتوح النهايات ، يستوعب كل ماهو جديد في مجال الخبرات الإنسانية ، ويستدمج في سياق تطوره كلّ أنواع التجارب التي تمارس باسمه وتنتهج سبيله حقا”كان ذلك أو باطلا”. وقد ألمح بعض المفكرين المعنيين بتحولات الفكر الديمقراطي لهذه الظاهرة حين كتب يقول : (( خضعت الفكرة الديمقراطية لتحول عميق بحيث انتهى بها الأمر إلى الانقلاب رأسا”على عقب : كانت تؤكد على التجاوب بين الإرادة الفردية والإرادة العامة ، أي إرادة الدولة . فإذا بها اليوم تدافع عن الموقف العكسي ، وتسعى إلى حماية حريات الأفراد والجماعات ضد القدرة الكلية التي تتمتع بها الدولة )) (1) . ولعل معيار(المشاركة السياسية) الذي اعتبر واحدا”من أهم المعايير الدالة على اقتفاء الأسلوب الديمقراطي في الحكم ، إضافة لكونه عدّ من أبرز الخصائص التي تميز طريقة الحياة الديمقراطية عن سواها من الطرق والأساليب الأخرى المعتمدة في إدارة الشأن السياسي للمجتمعات البشرية المعاصرة . بحيث جرى التعامل معه والتداول به بطريقة شبه آلية توحي وكأنه أضحى مسلمة واقعية وبديهية منطقية لا تحتاج لما يبرر البحث عن أصوله والتمحيص في أسبابه . وهو الأمر الذي أحاله إلى مفردة صلصالية غامضة المعنى غائمة المدلول ، تتزين بها الخطابات السياسية للأحزاب والحركات  عن غير قصد أو غاية ، وتتناقلها ألسنة المريدين والخصوم ممن يخطبون ودّّ السلطة على غير هدى أو دراية .
ولعلنا في إطار هذا الدرس من دروس الوعي الديمقراطي ، نتطلع – بشئ من الإيجاز والابتسار – لتسليط بعضا” من الضوء على هذه المسألة / الإشكالية التي طالما شغلت تفكير الناس واستحوذت على اهتمامهم ، قبل ان نعتزم التوجه لعرض ما نعتقده فضائل التمسك بهذا المعيار الحضاري ، وتبيان ما نراه رذائل التقصير في إهماله أو التعمد في تجاهله . فلكي تكون هناك مشاركة فعلية يثقّ بها ويعول عليها ، لا بد وان تسبقها واقعة لا يكاد مجتمع إنساني يخلو منها أو يتنكر لها ، والاّ لانتفت خصائصه واضمحلت مقوماته ، تلك هي واقعة ( التعددية ) سواء أكانت اجتماعية / سياسية ، أو ثقافية / حضارية ، أو دينية/مذهبية ، مع الأخذ بنظر الاعتبار ان هذه التعددية لا تستقي عناصر وجودها ودوافع ديناميتها من الخيال المفصول عن الواقع والتفكير المعزول عن المجتمع ، بقدر ما هي نتاج وقائع تاريخية متراكمة وحصيلة تمازج إنساني مستمر ، ينبغي موضعة سيرورتها على نحو يتيح للقارئ الإلمام بما قد عتم عليه من معلومات تتعلق بشؤونه أو حجبت عنه ملاحظات تتصل بمصيره . والحقيقة ان مسألة التعددية لا تدخل حيز الاهتمام الجدي للرأي العام ، وتكون مصدرا”للاستقرار أو للاضطراب الاجتماعي ، إلاّ متى ما ارتبطت بالعامل السياسي بشكل عام وتعلقت بالسلطة السياسية على وجه الخصوص . حينذاك فقط نلج مضمار الصراعات المستديمة بين أشكال المذاهب السياسية وأنواع النظريات الإيديولوجية ، ونطأ حقل المشاكل المزمنة التي شكلت ( كعب أخيل ) الفكر السياسي بشطريه الغربي والشرقي على حد سواء ، مع الاختلاف في حجم المشاكل وعمق الأزمات الناجمة عن الإخلال في تطبيق هذا المعيار بالنسبة للعالم الأول ( الغربي ) وتعطيل العمل بمقتضاه بالنسبة للعالم الثاني ( الشرقي ) . وهكذا فان (( مسألة الديمقراطية تطرح مباشرة مسألة السلطة السياسية ، الهيمنة ، الغلبة ، النفوذ والاستقلال معا”)) (2) . ومع هذا فان الرغبة التي يبديها الإنسان حيال إغراء السلطة السياسية وتعلقه بها لا تحركها نزوات العبث الذاتي ولا تأتيه بمحض الصدفة الموضوعية ، بل لابد وأن يكون وراءها باعث مادي أو حافز معنوي يحتاجه ذلك الإنسان ويتوق إليه على هذه الدرجة من الشبق العارم والجاذبية المضنية ، التي طالما أفضت به إلى دروب الحرمان وساقته إلى مهاوي التهلكة . أي ان واقعة التعددية في المجال السياسي تتبلور على وفق آليات سيكولوجية وسوسيولوجية تتفاعل فيما بينها وتتكامل على نحو مطرد ، بحيث تبتدأ من الرغبة في امتلاك مصادر الجاه والنفوذ الشخصي ، لتنتهي بطموح الاستحواذ الكلي على مقاليد السلطة ان أمكن ذلك فبها  أو المشاركة ان تعذر حصوله . ولهذا فقد اعتبر المفكر الجزائري الدكتور ( عبد الله العروي ) ان (( حقيقة السياسة إذن هي امتلاك أمر الآخرين ، والطبيعة الحيوانية في الإنسان تدفع الحاكم إلى القهر واستغلال المحكوم )) (3) . ولكن هل ان كل رغبة في الامتلاك تفضي دائما” بالضرورة إلى استفحال نزعة الاستحواذ والهيمنة عند الإنسان للحد الذي يجعلها مسؤولة عن سعيه لإقصاء نظيره الآخر، وحمله على تهميش دوره ، ودفعه للحيلولة دون مشاركته في قضايا الشأن العام / السياسي التي هي بالمحصلة النهائية قضاياهم إجمالا”؟ . الواقع ان ظاهرة قيام شخص ما – على سبيل المثال –  باقتناء عقار خاص أو شراء مركبة شخصية أو تأسيس مشروع حرّ – وهي من الأمور الخاصة – لا تشكل في العرف السياسي أي نوع من أنواع الهيمنة أوالاستحواذ بمفهومه السياسي على ممتلكات الشأن العام ، بقدر ماهي ممارسة لحق مكفول له بموجب قانون المصلحة العامة أو الشأن العام  الذي أباح له حرية التصرف بماله الخاص في حدود الضوابط العرفية والتشريعات النافذة من جهة ، كما لم يلزمه ، من جهة أخرى ، بضرورة أن يشاطره أقرانه من المواطنين الآخرين في مزايا تلك النشاطات أو تحمل تبعاتها . بيد ان المسألة لا تلبث أن تأخذ منحا” آخر وتحتمل تأويلا” مغايرا”حالما يتعلق الأمر بقضايا الشأن العام / السياسي ، الذي من سماته انه ، وان اشتق من المصالح الخاصة وبني على أساس الإرادة الفردية ، لا يتحدد بحاصل جمع تلك المصالح أو التقاء تلك الارادات . (( ذلك لأن الجمع ما هو إلاّ مجرد تجميع للعديد من الأشخاص يحتفظ فيه كلّ واحد منهم بإرادته الخاصة . في حين ان الدولة – وهي مضمار الشأن العام بامتياز – تمثل مجتمعا”تحركه روح واحدة توجه فيه كل الحركات بطريقة ثابتة نسبيا”، وذلك من أجل المنفعة المشتركة )) (4) . وهنا نصل إلى استنتاج هام جدا”مفاده ؛ ان من يحوز على مفاتيح توجيه دفة الشأن العام ويتاح له امتلاك مصادر السلطة فيه ، دون أن يسمح لغيره بمنافسته على هذه الغنيمة أو بمشاركته تقاسم منافعها ، فقد أوتي قدرة الاستحواذ على مقاليد الدولة واستطاع أن يفرض سلطانه على الجميع ، سواء تم له لك عن طريق الثورة التي تقوم باسم (الشعب) أو عن طريق الانقلاب الذي يحصل باسم ( الوطن ) . وعن ذلك يقول الفيلسوف الفرنسي ( بيار بورديو ) ان :  ((الدولة هي نتيجة سيرورة من تمركز لمختلف أنواع رأس المال ؛ رأس مال من قوة فيزيائية أو أدوات للقهر أو القمع ( بوليس وسواه ) ، ورأس مال اقتصادي ، ورأس مال ثقافي أو على نحو أفضل إعلامي ، ورأس مال رمزي ، تمركز يشكل ، بحد ذاته ، الدولة الحائزة على نوع من رأس المال يعطي سلطة على الأنواع الأخرى من رأس المال وعلى حائزيها )) (5) . ولأن تعزيز وحدة المجتمع وحماية مصالحه وضمان أمنه ، فضلا”عن تأمين مستلزمات حقوقه حاضرا”ومستقبلا”، هي من صميم الواجبات الموكولة للدولة ومن أخص المهام المكلفة بإنجازها ، باعتبار كونها تجسيد حي لإجماع الإرادة العامة وقد تركزت بصيغة مؤسسية . فان استحواذ البعض على مقاليد سلطتها والاستئثار بمزايا نفوذها والاستفراد بسلطان هيبتها ، خلافا”لآمال وطموحات البقية من أطراف تلك الإرادة / المجتمع ، بزعم ان هذا البعض أدرى بشؤون السياسة وأعلم بقضايا الدولة وأقدر بإدارة السلطة ، على خلفية توفره على المعتقد الإيديولوجي الصحيح ، أو الكفاءة العلمية العالية ، أو المقدرة المالية الوفيرة ، أو الأصل القومي الراقي ، أو الأيمان الديني القويم ، أو المنبت الطائفي المعتدل ، أو الأرومة القبلية الأصيلة ، سوف تؤدي – ان عاجلا”أم آجلا”- ليس فقط إلى تشطير مركزية الدولة إلى مؤسسات ضعيفة تتناهبها أطماع الأحزاب والتكتلات والتيارات فحسب ، بل وستفضي إلى تفكيك وحدة المجتمع إلى كيانات متصارعة على وفق اتجاهات الولاء الطائفي والانتماء القومي والاعتقاد الديني ، بحيث يمسي العنف والعنف المضاد هو اللغة السائدة بين فرقاء القضية الواحدة والمصير المشترك . وقد أجاد الشاعر اللبناني المعروف ( أودنيس ) وصف هذه الحالة المأساوية حين قال : (( ان اعتقاد الإنسان بأنه يمتلك الحقيقة هو مصدر كل قمع . فهذا الاعتقاد يعتقل العقل : عقل الذات وعقل الآخر . وذلك أن كل اعتقاد من هذا النوع هو بالضرورة ، إرادة سياسية . وممارسة القوة المرتبطة به ، إنما هي الإرهاب والطغيان )) (6) . ولها فقد فطنت بعض الدول التي قطعت أشواطا”نسبية من التقدم في مسيرة التحول الديمقراطي إلى أن مخاطر ترك العنان لظاهرة الاستحواذ اللامشروع على مصادر قوة الدولة والتحكم بمواردها والعبث بثرواتها من قبل بعض القوى الاجتماعية النافذة في الحقل السياسي ، واستمرار تخندقها الهوسي خلف متاريس السلطة لاستغلال شرعيتها واستثمار غطائها وتوظيف امكاناتها لأغراض تتعلق بالمصالح الخاصة دون المصلحة العامة من جهة ، واستشراء نزعات الإقصاء للآخر وعدم منحه حق المشاركة في إدارة مصالح الشأن العام ، وحرمانه من فرص الإسهام في تقرير مصير الجماعة التي يمت لها بصلة وطنية أو قومية أو ثقافية أو دينية من جهة أخرى ، قمينة بحمل تلك المكونات المحرومة والجماعات المهمشة لانتهاج كل السبل المتيسرة وتبني كل الخيارات المتاحة التي من شأنها إضعاف قوة الدولة وتمزيق وحدة المجتمع وإسقاط هيبة القانون(7) ، ما لم يتم استيعاب وجودها واستقطاب مشاركتها وتفعيل دورها في مجال المصلحة العامة وإدارة مرافق الشأن العام . أي فسح المجال أمامها لتتبوأ مواقع المسؤولية السياسية والاجتماعية بحسب آليات التداول السلمي للسلطة ، وهو الأمر الذي شكل ويشكل ضمانة أكيدة وقاعدة راسخة لاستقرار بنى المجتمع وانتظام دورة الحياة الطبيعية والآمنة بين عناصره المتنوعة ومكوناته المختلفة . (( فالديمقراطية – على ما يقول السوسيولوجي الفرنسي آلان تورين – ليست ضرورية إلا إذا كانت ترمي إلى تسهيل الحياة المشتركة بين أفراد وجماعات مختلفة ومتشابهة في آن واحد وينتمون إلى مجموعة واحدة في الوقت الذي يتميزون عن الآخرين بل ويتعارضون معهم))(8) . ومن الأمور الواجب مراعاتها في هذا المضمار هو ان المشاركة لا تستدعي الرهان دائما”على مبدأ (الأكثرية) واتخاذه معيارا”لتقييم هذه التجربة الديمقراطية أو تلك من جانب ، وإشهاره ، من جانب آخر، كشعار في الحملات الدعائية والإعلامية بمناسبة وغير مناسبة ، وكأنه خشبة النجاة الوحيدة التي يمكن أن تعصم المجتمع السياسي من مظاهر الشطط وحالات الانحراف صوب مظاهر الاستحواذ على حقوق ( الأقليات ) والعمل على انتزاع المكاسب التي ظفرت بها عقب نضالات جمة وتضحيات سخية ، بحجج وذرائع شتى منها ما هو مشروع كحالات التطرف الديني والتعصب العرقي والنزوع الانفصالي ، وأغلبها ما هو غير مشروع كالتعارض السياسي والتناقض الإيديولوجي والتقاطع الطبقي . وعلى أية حال فالشرط الحسابي ( الكمي ) المجرد عن خصائصه النوعية ليس من شروط التحول الديمقراطي ولا يمكن أن يكون . إذ انه لا يتوائم مع جوهر الفكرة الديمقراطية المؤسسة على اختيار كل ما يلزم لبلوغ حرية الإنسان وتحقيق مصالحه وحماية أمنه وضمان مستقبله ، بصرف النظر عن أصله القومي وإيمانه الديني وانتماءه الطائفي وثقافته الفرعية وأرومته اللغوية ، وذلك من منطلق ان كينونته الاجتماعية غير قابلة للتشكل على وفق نمط محدد أو صياغة معينة ، كما ليس بمقدور أية محاولة إلزامه بتغيير طبيعته ومخالفة نوازعه ، وبالتالي فهو قرين التنوع في شروط اجتماعه ، والاختلاف في مصادر ثقافته ، والتباين في مرجعيات تفكيره ، والمغايرة في أصول معتقداته . الشئ الذي يصعب معه ، والحالة هذه ، حمله على قبول ما لا يصدر عن قناعاته ، ومسايرة ما لا يحقق مصالحه ، واعتناق ما لا يلبي طموحاته ، وتمثل ما لا يتفق وميوله . من هنا فان الأكثرية التي لا تراعي مصالح الأقلية – لمجرد ان عدد الأولى أكثر من الثانية – ولا تعي ان ما تتمتع به من مزايا السلطة ومظاهر السلطان ، هو في جزء منه ، متأتي بواسطة إخضاع الأقلية وغمط حقوقها وتسويف مطاليبها وتشتيت قواعدها ،لا تحسن التصرف حيال مستقبل المجتمع الذي تحكم خياراته ، ولا تقدر حجم التحديات التي ستواجه نظامها السياسي ذاته ، ولا تدرك عواقب مواقفها المناهضة لقيم الديمقراطية التي تدعي الإيمان بها والعمل في سبيلها ، وبالتالي لا تأخذ على محمل الجدّ مصير حقوقها كأكثرية . فليس (( هناك ما هو مؤكد أكثر من أن إسقاط الأقلية من الحساب ليس ضروريا”وليس نتيجة طبيعية للحرية ، وان التمثيل بالنسبة العددية ليس مما يتفق مع الديمقراطية من أية ناحية ، بل ضد المبدأ الأول لها على خط مستقيم . فجزء جوهري من الديمقراطية أن تكون الأقلية ممثلة تمثيلا”مناسبا”، وبدون ذلك لا تكون الديمقراطية حقيقة ، بل مجرد مظهر كاذب للديمقراطية))(9) . والغريب في الأمر ان جميع الأنظمة السياسية التي انتهجت سبل الإقصاء للمعارضين والتهميش للمنافسين ، لم يهدها الحس السليم للسياسة العقلانية – على الأقل لضمان سلامتها – إلى البحث عن منافذ وقنوات المؤسسات المدنية البديلة والمساعدة ( مؤسسات المجتمع المدني ) التي من شأنها ، ليس فقط تلطيف الاحتقان السياسي وامتصاص النقمة الاجتماعية فحسب ، بل والمساعدة على تفعيل بنى النظام المفككة  وأنساقه المتضعضعة ، ومنعه من الوصول إلى حافة الانهيار . باعتبار (( ان الوحدة التي يتسم بها المجتمع المدني هي نوع من المشاركة أو الشركة ، فهي لا تقوم على أساس واع من المثل الأعلى السياسي ، وإنما هي تقوم بالضرورة على أساس المصلحة الذاتية ))(10) ، مما يفضي إلى شدّ المصالح الخاصة إلى دائرة اهتمام المصالح العامة ويربط توجهات الأولى بالثانية وبالعكس في حركة جدلية تستهدف كسر حدة الخلافات السياسية وتخفيض معدل التوترات الاجتماعية . ولإنجاح عملية التوافق بين فعاليات المجتمع المدني واتجاهات المجتمع السياسي وتنشيط السعي لتعشيق الأنشطة الجزئية للأفراد والمجموعات المتنوعة بمشاغل الشأن العام وجدول أعمال الدولة فان مستلزمات العملية الديمقراطية  تقتضي أن يصار إلى اعتماد مبدأ ( المواطنة ) واعتباره المعيار الحضاري الذي لابد أن تتوافق حول مبادئه وتتوحد خلف مضامينه كل أطياف المجتمع ومكوناته الفاعلة ، سواء أكانت في صدارة السلطة وتقود دفة النظام السياسي ، أو تلك التي تنطلق من مواقع مغايرة باستخدام أدوات النقد الاجتماعي والمعارضة السياسية . ذلك لأن هذا المبدأ الموضوعي لا يستوحي ، لكي يكون شغّالا”، إلاّ ما يعزز حقوق الإنسان ويرصن حرياته ويحترم كرامته بعيدا”عن مظاهر العنف والخوف والكراهية ، وذلك باعتماد ثوابته والتزام سبيله المفضي إلى توطين مبادئ العدالة وترسيخ قيم المساواة بين الجميع . وقد أجاد الوصف ( آلان تورين ) حين قال:
(( ان المواطنية تمنح الحق بالاشتراك في تسيير المجتمع تسييرا”مباشرا”أو غير مباشر . فالوطنية تخلق تضامنا”في أداء الواجبات ، بينما المواطنية تمنح حقوقا”))(11) . وعودة على بدء فحري بالمجتمعات التي لا تزال تعصف بها دوامات الاحتراب السياسي والاضطراب الاجتماعي ، وتكتوي بنيران صراعاتها العرقية ونزاعاتها الطائفية ، القائمة على خلفية سياسات الإقصاء البيني والتهميش المتبادل ، أن تتخذ الممارسة الديمقراطية ملاذا”تحتمي بظله وسراجا”تهتدي بنوره . (( فمانع الديمقراطية هو الاستملاك الأنوي للدولة ، الاستملاك الاستبدادي ، الجمعي أو الفئوي ، العائلي ، القبلي ، الحزبي أو الطائفي .. الخ ، ومع زوال هذا المانع الشديد تكون
مسيرة التأسيس الديمقراطي للدولة / للدول قد بدأت )) (12) .

الهوامش والمصادر:    
(1)    آلان تورين ؛ ما هي الديمقراطية ؟ حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية ، ترجمة الدكتور حسن قبيسي ، ( بيروت ،
      دار الساقي ، 2001 ) ، ص56 .
(2)    الدكتور خليل أحمد خليل ؛ العرب والديمقراطية : بحث في سياسة المستقبل ، ( بيروت ، دار الحداثة ، 1984)
      ص7 .
(3)    الدكتور عبد الله العروي ؛ مفهوم الدولة ، ( بيروت ، دار التنوير ، 1983 ) ، ص106 .
(4)    الدكتور عبد الرضا حسين الطعان ؛ تاريخ الفكر السياسي المعاصر ، ( بغداد ، دار الحكمة للطباعة والنشر ، 1992 ) ، منشورات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ، ص 421 .
(5)    الدكتور علي سالم ؛ البناء على بيار بورديو : سوسيولوجيا الحقل السياسي ، ( بيروت ، دار النضال للطباعة والنشر والتوزيع ، 1999 ) ، ص149 .
(6)    الشاعر أودنيس ؛ العقل المعتقل ، ( بيروت ، مجلة مواقف ، 1981 ) ، العدد / 43 ، ص 3 . أورده الأستاذ (سعيد زيداني) ضمن بحثه الموسوم : إطلالة على الديمقراطية الليبرالية ، الواردة في كتاب : المسألة الديمقراطية في الوطن العربي ، تحرير الدكتور إسماعيل صبري عبد الله ، ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 2000 ) ، سلسلة كتب المستقبل العربي (19) ، ص62 .
(7)    هل ينبغي التذكير بما جرى ويجري الآن في العراق بعد سقوط النظام السابق ، جراء ممارسات الإقصاء والتهميش التي مورست ضد غالبية الشعب العراقي ، بصرف النظر عن طبيعة مكوناته الاجتماعية وتوجهاتها السياسية والفكرية ؟ .
(8)    آلان تورين ، مصدر سابق ، ص252 .
(9)    جون ستيوارت ميل ؛ عن الحرية ، ترجمة عبد الكريم أحمد ، ( القاهرة ، مؤسسة سجل العرب ، 1966 ) ، سلسلة الألف كتاب رقم (581 ) ، ص303 .
(10)    ميشيل متياس ؛ هيجل والديمقراطية ، ترجمة الدكتور إمام عبد الفتاح إمام ، ( بيروت ، دار الحداثة ، 1990 ) ، ص27 .
(11)    آلان تورين ، مصدر سابق ، ص95 .
(12)    الدكتور خليل أحمد خليل ؛ مصدر سابق ، ص175 .