23 ديسمبر، 2024 2:58 م

دروس أولية في الوعي الديمقراطي : بين تأثيم العنف وتعظيم الحوار

دروس أولية في الوعي الديمقراطي : بين تأثيم العنف وتعظيم الحوار

ليس ثمة فكرة اجتماعية أو عقيدة سياسية تتصدى لظاهرة العنف وتستهجن السلوك العدواني ، وتحضّ ، في المقابل ، على انتهاج سبيل المشاركة ، وتصّر على استخدام لغة الحوار(1) ، وتشترط التعايش مع الآخر ، مثلما تدعو إلى ذلك القيم الديمقراطية وتستلزمه كضرورة مصيرية يتعين على المجتمع ، أي مجتمع ، الأخذ بها والاحتكام إليها والانغماس فيها والتعوّد عليها ، إذا ما أراد أن يحافظ على وحدة كيانه ويديم تعايش أطيافه ويقوي نسيج علاقاته وينمي أواصر تآخيه ، والاّ فأن مآل مكوناته صائر إلى التفكك والاحتراب ، على خلفية التعارض في المواقف السياسية ، والتباين في الاتجاهات الإيديولوجية ، والاختلاف في المرجعيات الدينية(2) . ولعلّ من أهداف هذا الدرس ، تحفيز الذهنية الاجتماعية وتنشيط الذاكرة التاريخية – التي غالبا” ما تشكو أعراض العطالة ومظاهر الانكفاء – لكي تتمكن بفضلها قوى المجتمع الفاعلة من تقدير (نعمة) التحاور وتثمين (قيمة) التواصل بين الأنا والأنت ، أو الذات والآخر ، أو النحن والهم . بغية التوصل إلى صيغة مشتركة تتمتع بالقبول والرضى من لدن الأطراف المعنية وتفضي بهم ، في المحصلة النهائية ، إلى حلّ المشاكل العالقة ، وتسوية الخلافات المتراكمة ، وتقريب وجهات النظر المتعارضة ، وتهدئة النفوس المجيشة ، وتنقية الأجواء الملبّدة ، وتأمين الحقوق المسلوبة  وضمان المصالح المهدورة من جهة ، وبيان العواقب ، بلّه ، الكوارث الناجمة عن ترجيح خيارات العنف وتفضيل مسالك العدوان ،  كلما دعت الحاجة لتماسّ الأطراف والتقائها عند أي نقطة من نقاط تلك المشاكل والخلافات ، على قاعدة تغليب الذات وتغييب الآخر، وتقديس الأنا وتدنيس الأنت ، وتنزيه النحن وتشويه الهم ، بصرف النظر عن أحقية مواقف هذه الجهة أو تلك  وشرعية مطاليب هذا الطرف أو ذاك من جهة أخرى . إذ (( حين نعجز –  كما أجاد سارتر – ونحن في حال من التوتر المرتفع ، عن العثور على الحلّ الدقيق المضبوط لمشكلة ما ، فإننا نتخذ أنفسنا موضوعا”للسلوك ، فنحط من قدر أنفسنا ، فتحول إلى كائن يرضى بالحلول الفظة الأقل تكيفا” ))(3) .
والحقيقة ان موضوع هذا الدرس لا يستهدف الدخول في أتون النقاشات البيزنطية حول البحث عن ماهية العنف كظاهرة إنسانية رافقت ولا تزال وجود الإنسان كتوأم سيامي ، واخترقت وما برحت تفعل نسيجه الوجداني ، وزعزعت وما انفكت تمارس بناءه القيمي . هذا فضلا”عن تحاشيه التورط في عمليات فحص الفرضيات التي تصدت لدراسة طبيعتها ، وتقييم النظريات التي وضعت بخصوص الكشف عن أواليات اشتغالها ، بقدر ما يروم توثيق الروابط وإدامة العلاقات بين الفاعل الاجتماعي – فرد كان أو جماعة –  وما يحتكم عليه من تطلعات وطموحات من جهة ، وبين عالم الواقع وما يمور به من تفاعلات وتقلبات من جهة أخرى ، على أمل أن لا يشيح بناظريه عما يدور حوله من دوامات وانهيارات ، وما يجري خلف ظهره من صفقات ومساومات ، وما يحاك ضده من مؤامرات وانتهاكات ، تاركا”هكذا للصدف العشوائية والظروف المتقلبة والأوضاع الطارئة تقرر بالنيابة عنه مآل مصيره وتحدد مجال مصالحه . هذا بالإضافة إلى تعميق مستوى الرغبة لديه بالاندغام الفاعل في سيرورة البنى الاجتماعية ، واستدعاء كل مخزونه العقلاني للتعاطي النقدي مع انثيال معطياتها السياسية وتجلياتها النفسية ومظاهرها الثقافية ، ومن ثم الإسهام في إيقاظ وعيه من السبات الذي أدمن عليه وتعايش معه ، والانتفاض على وضعه المزري الذي كبّل إرادته وأخصى إنسانيته ، والتمرد على خرافاته التي ألقمته رذائل التواكل ورزايا التكاسل  والتحرر من عاداته التي قتلت فيه روح النقد والتمحيص والمساءلة ، آملين أن يستأنف دوره السياسي ويباشر وظيفته الاجتماعية ويتحمل مسؤوليته التاريخية ويستنهض طاقاته الفكرية ، للحيلولة دون تعرضه للمزيد من التردي في وضعه الإنساني ، والانحدار في مركزه الوجودي ، والنكوص في امتيازه الحضاري . وإذا كنّا سنتطرق – مضطرين – إلى بعضا”مما أفرزته قرائح الكتّاب والباحثين من آراء وتصورات حول طبيعة المصادر وماهية الأصول التي تستثير نزعة العنف وتستحث رغبة العدوان ، فلأن ذلك منوط بجدوى الفضائل التي نزعمها لأسلوب الحوار بين الفرقاء الذين لم يهتدوا بعد إلى صراط العقلانية ، طالما ان الشروع بقتل الآخر والاعتداء على كلّ ما يمت إليه بصلة ، سواء فيما يتعلق بضرورات حياته أو فيما يتصل برموز مقدساته ، بات يستمد دوافعه – كما يظن البعض خطأ –  من بنية الإنسان العميقة ويمتح ديناميته من خواص تكوينه الفطري ، وان كلّ ما يقال عن دور العوامل الموضوعية المعاشة التي يمكن أن تساهم في تأجيج أو إطفاء جذوة العنف ، ماهي إلاّ أضغاث أحلام ليس إلاّ . وبالتالي الخضوع لإيحاء التخلي عن كل رهان يتوسل بأية بادرة تغيير ممكنة أو محتملة تطال وضع الإنسان المحفوف بالمخاطر الأمنية ، والمحاط بالمشاكل الاجتماعية ، والمعبأ بالضغوط النفسية ، بكيفية تتناسب وآلية حراك المجتمع الذي ينتمي إليه ونمط آفاق التطور التي ينشدها ، بحيث يغدو الحديث عن التمسك بالخيار الديمقراطي في إطار هكذا نمط من الوقائع الشاذة ضربا”من الطوباوية المفرطة والخيال الجانح . وهذا ما دفع بأستاذ أصول التربية بجامعة دمشق الدكتور( علي أسعد وطفة ) إلى التحذير من مغبة (( مخاطر النظريات التي تؤكد فطرية العنف في طبيعة الإنسان ، إذ ان من الخطر والإجحاف الكبير إرجاع مشكلة العنف إلى عوامل طبيعية أو نفسية خالصة ، لأن ذلك يؤدي في النهاية إلى إسقاط بعض الاعتبارات الأخلاقية والاجتماعية ، فالعنف والعدوان يشكلان مسألة ذات جوانب أخلاقية وسياسية واجتماعية بالغة الأهمية والدلالة ))(4) .
وقبل أن نستوضح عن أوجه التّضاد المطلق وموجبات القطيعة النهائية التي تستلزمها شروط الوعي الديمقراطي ،
ناهيك عما تستدعيه الممارسة الديمقراطية وتفترض مواصفاته ، حيال ظاهرة العنف وكلّ ما تتوسل به من تبريرات وكلّ ما تتعلل به من تسويغات ، فان من الضرورة بمكان الإشارة المقتضبة إلى ماهية الدوافع والبواعث التي تجعل من هذه الظاهرة ومشتقاتها سلوكا” مرافقا” لطبيعة الإنسان وعلامة فارقة في مسار تاريخه الطويل ، بالرغم من انه تخطى – على ما يبدو – عتبة طفولته البدائية وتخلّص من خشونة طباعه الوحشية ، بعد أن قطع أشوطا”واسعة في ميادين التحول من نطاق الضرورة العمياء إلى عالم الحرية الواعية ، وتوغل بعيدا”في آفاق التمدن ومدارج الحضارة ، وأمعن في الانتقال من حيز الغرائز البدائية إلى رحاب الوعي الإنساني . وبسبب كونها معنية بصورة مباشرة بكل ما يقاسيه الفرد من بؤس وشقاء وما يعانيه المجتمع من مآس وبلاء ، فضلا” عما تتصف به من تنوع في عوامل التكوين ، واختلاف في مظاهر التجلي ، وتباين في أنماط الاشتغال ، فقد استقطبت ظاهرة العنف اهتمام العديد من علماء النفس والاجتماع والانثروبولوجيا ، فضلا”عن استنزافها جهد الكثير من المفكرين والباحثين الذين سوّدوا الملايين من صفحات الكتب والمصنفات التي تبحث في أصولها السوسيولوجية ، وتحفر في مكامنها البيولوجية ، وتستقصي عن خلفياتها السيكولوجية ،   وتحلل في مرجعياتها الإيديولوجية ، وتعلل في آثارها السياسية ، دون أن يصار إلى بلوغ تخومها ، والتوصل إلى كبح جماحها ، والاهتداء إلى سبل استئصالها ، أو على الأقل ترويضها . فهي كما يصف درجة تشعبها ونطاق اتساعها ببالغ الدّقة والإيجاز الفيلسوف الفرنسي (بول ريكور) حين يقول: (( ان البصر يظل قاصرا”عندما يتحرى إمبراطورية العنف ))(5) .
ومما يضاعف صعوبات الاحاطة الشاملة بأبعاد ظاهرة العنف ، ويضعف القدرة على فرز عناصرها من بين خليط الواقع ، ويعدم الإمكانية على استخلاص مكوناتها من بين ثنايا المجتمع ، كونها تلتقي في ذات المجرى الذي تصب فيه بعض الظواهر الأخرى القريبة منها والمحاذية لها ؛ كالعدوان ، والقوة ، والإكراه ، والإرهاب(6) . الأمر الذي أشاع البلبلة الفكرية وعمّم الأخطاء المنهجية بين صفوف الباحثين ، وأوقع العديد منهم في مزالق الانتقائية أو مهاوي التوفيقة ، على وفق ما تمليه تخصصاتهم العلمية ، وبحسب ما تفرضه توجهاتهم العقائدية ، وانطلاقا”مما تستلزمه خلفياتهم الحضارية ، واستجابة لما تستدعيه مستوياتهم المعرفية ، وانسجاما”مع ما يلائم تطلعاتهم الشخصية . وعلى هذا فقد خلص الفيلسوفان الأمريكيان ( غروندي وفينيشتين ) في كتابهما المشترك : إيديولوجية العنف ، إلى أنه (( لا يوجد تعريف واحد للفظة (العنف) . ان رجال السياسة الذين يمثلون أقطابا”اجتماعية مختلفة  وحتى نفس الأشخاص ، تبعا”للغايات المرجوة في لحظة معينة ، يعطون معنى مختلفا”للفظة (عنف) ، في أي أحداث ملموسة مرتبطة باستعمال العنف . وكل فريق من رجال السياسة يرى منبع العنف في التجربة المشتركة للحياة اليومية ))(7) . وعلى أساس هذه الواقعة فقد قرن البعض ظاهرة العنف بزخم انبعاث مشاعر الخوف التي يمكن أن تنتاب الإنسان لأسباب تتعلق ؛ إما بطبيعة أوضاعه السياسية ، وإما بنمط علاقاته الاجتماعية ، وإما بمستوى ظروفه الاقتصادية ، وإما بتقلبات حالته النفسية ، وإما بعبثية تأملاته الوجودية .الشيء الذي حدا بالباحث العراقي الدكتور ( ريكان إبراهيم ) إلى افتراض خلفية تاريخية تؤشر لانبثاق هذه الظاهرة بالقول((منذ ذلك الزمن 
السحيق وعالم الخوف هو الدافع الكبير وراء السلوك العدواني البشري )) – مضيفا” في مكان آخر انه –  (( قد وجد في علم النفس المعاصر ان الخوف من مجهول أخطر بكثير من الخوف من معلوم . فحالة الرهاب phobia التي يولدها المعلوم (الحرب) لهي أهون وقعا”وأقل خطورة في النفس من حالة القلق التي تنشأ من خوف لا يعرف مصدره أو مسببه))(8) . وعلى ما يبدو فقد شاطره في هذا الرأي الباحث الغربي ( ريموت ) من خلال مؤلفه (سيكولوجية المشاعر ) عندما قال: (( ان الخوف هو أول شعور يحس به المولود الجديد منذ اليوم الأول ، ويتزايد هذا الخوف مع الكبر ، يضاف إلى ذلك الخوف الغريزي والاجتماعي هذا الخوف الناتج عن التقدم في السن وعن الحاجات والمعتقدات والقوانين والقيم الطبقية في المجتمع . والتربية تقوي غريزة الخوف تارة وتقوي مجابهتها تارة أخرى ، وعندما تستيقظ الروح العدوانية يواجهها المجتمع بالعقوبات والإصلاح والإجراءات ، أو يبثها ويدعمها لتنطلق في احتمالات الحرب ))(9) . هذا في حين يحمّل البعض الآخر العوامل البيولوجية والسيكولوجية مسؤولية ما يعانية الإنسان من ضروب العنف ومظاهر العدوان التي يعج بهما المجتمع ، سواء تلك التي يمارسها هو ضد أقرانه في سياق التنافس على مزايا الاستئثار بالسلطة ، ومنافع الاستفراد بالثروة ، وهيبة الاستقواء بالنفوذ ، وارجحية السيطرة بالاستحواذ ، أو تلك التي يتعرض لها من قبل الآخرين لنفس الدواعي ، خلافا”لما توحيه له إرادته الواعية وخروجا”على مألوف طبعه في بعض الأحيان ، مما يفرض عليه حتمية التعاطي مع هذا النمط من السلوك الشائن ، دون الحاجة لأن ينتابه الشعور بالذنب حيال الآثار التي يخلفها في محيطه ، أو يشغل تفكيره بالعواقب التي يفرزها في علاقاته . ولعلنا لا نخطئ بهذا الصدد عندما نرشح ، كممثل لهذا النوع من التنظير ما أنتجته وأسهمت به المدرستين ( الفرويدية ) و ( الدارونية الاجتماعية ) – لاسيما في طوريهما الكلاسيكي – من طروحات وفرضيات ، زعمت لنفسها صفة العلمية كغطاء يقيها نقد التيارات المناوئة لمواقفها والمناهضة لاستنتاجاتها ، التي اعتبرتها بمثابة دعوة مفتوحة لتبرير كلّ ما يندّ عن الإنسان من أشكال العنف وأصناف العدوان  بصرف النظر عن مؤثرات البيئة وضغوط المجتمع ومستويات الثقافة ودرجات التحضر . وبحسب هذه الرؤية فأن: (( كل كائن بشري يحمل في طيات نفسه جرثومة الحرب الأهلية ، بمعنى ان ما من مجتمع معصوم منها . إذ يكفي أن تتوفر الشروط الضرورية كي يستعاد ما كان مكبوتا”حتى الآن ويخرج عن الرقابة الرمزية ، فيدمّر قسما”كبيرا”من مكتسبات حضارتنا ، ماحيا”حقوق الإنسان واحترام حقّ الاختلاف ، وحتى مفهوم الديمقراطية))(10) . لا بل ان بعض ممثلي هذا المعتقد يتطرّفون في تسويغ هذا المنحى من الاعتقاد حينما يلجأون إلى توظيف معطيات الفسيولوجيا البشرية لإضفاء الواقعية على ما يطرحون من أفكار وما يدّعون من تصورات . ففي مقال له بعنوان ( تشريح العنف) توصل مساعد مدير معهد علم النفس الاجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية سابقا”إلى ادعاء مفاده أن: (( العدوان هو الوسيلة الطبيعية لتخطي العراقيل على طريق إرضاء حاجات
معينة للإنسان ، وسيلة ليست فقط فطرية وطبيعية ولكنها أيضا”جزء حيوي من الجملة العصبية ، يتألف عمله من تحريك الطاقة البشرية للوصول إلى غايات ملموسة ))(11) . من جهته فقد اعتقد البعض الثالث ان جذور العنف ومصادر العدوان لا يمكن أن تتشكل ملامحها أو تتبلور معالمها إلاّ على وفق معطيات موضوعية قائمة ، تجد لها في وجدان الإنسان المعني هوى يحرك كوامن وعيه الفردي وصدى ينشط ذخيرة مخياله الجمعي . وهو ما يعتبر ، من حيث المقارنة مع ما سبق ، محاولة أولية باتجاه تلمس الأسباب التي يفترض ان لها صلة بالواقع الموضوعي . ذلك لأنه في مطلق ما يمارسه المرء من أفعال – بقطع النظر عما يتصف به من عقلانية أو همجية – يفترض مسبقا”وجود ما يشكل أرضية مؤاتية ينمو من خلالها وبالاعتماد عليها ذلك الفعل ، متيحة لعناصره في الوقت ذاته إمكانية التواصل مع معطيات الواقع والتفاعل مع مكوناته ، بحيث يدخل كلّ منهما في علاقة جدلية مع الآخر يؤثر فيه ويتأثر به . فكلما كان ( وضع ) العنف مشبعا”بالمحفزات وصاخبا”بالمؤثرات كان ( فعل ) العنف أشد وقعا”وأمضى أثرا”والعكس بالعكس . بمعنى ان دوافع الغضب ومشاعر الإحباط التي قد تنتاب الإنسان ، لا تتحول تلقائيا”إلى ميول عدوانية وسلوكيات عنفية ، تسترخص حياة الناس ، وتستبيح حقوقهم ، وتستسهل ابادتهم ، ما لم تتهيأ لها أوضاع وظروف ( حاضنة ) تجعل منها وقودا” قابلا” للاشتعال والتفجر . وعليه فقد تسنى للباحث الفرنسي ( بيير فيو ) تشخيص الحالة التي يغدو بموجبها الوضع حرجا”ويتسم بالطابع العنيف حين قال: (( في الواقع يحدث وضع عنيف عندما يكون الإنسان بسببه محروما”إلى حد خطير من ممارسة حقوقه الأساسية ، أي بصورة عامة ، عندما يمس في وجوده ، وفي كرامته ، أو في سلامته … فالإنسان إذا ما هبط دون عتبة دنيا من الطاقات الجسدية والتطور الثقافي ، يستسلم لما يحل به من تدهور ، هذا إذا تسنى له أن يعي هذا التدهور ، أو أن يلاحظ ما ينزل به من أشكال البتر ))(12) . وهنا تجدر الإشارة إلى أن مخاطر الأوضاع المحفزة لاندلاع حالات العنف لا تقتصر فقط على إيجاد المبررات الواقعية أو التسويغات المفتعلة لكي ينطلق مارد العنف من قمقمه وينفلت وحش العدوان من عقاله فحسب ، بل إنها تعمل بصورة موازية ومتزامنة على تخليق بيئات خصبة ولكنها معدية ، تساعد على نشر جرثومة العنف وتسريع نوبات انفلاتها بين سائر أفراد المجتمع ، حتى أولئك الذين لم يشأوا التورط في عمليات القنص المتبادل ، نظرا”لما تشيعه تلك البيئات من أجواء مشحونة بالخوف من المعلوم والهلع من المجهول ، فضلا” عما تبعثه في النفوس المجيشة من أحقاد وضغائن على خلفية الآثار النفسية والعواقب الاجتماعية التي تخلفها جماعات العنف عقب طقوسها الدموية المتعاقبة . الأمر الذي تيسر للأستاذ (ليونارد بيركونز) استخلاص نتائج تلك الوضعيات حين كتب يقول:(( لقد صرفت أكثر من عقد من الزمن لأقوم ببحث معملي دقيق ، أدى – في النهاية – وبشكل منسجم – إلى نتيجة تقول بأن الشخص الذي يشاهد العنف مهيأ أكثر من غيره ليكون هو نفسه عدوانيا”سواء كان غاضبا”حينذاك أم لا ، لأنه لا يستطيع التخلص من منبهات العنف ))(13) . هذا من جانب ، أما من الجانب الآخر فأن لظاهرة العنف مساوئ أخرى لا تقل خطورة عما يعرف عنها ويرشح منها ، ان لم تكن أشد فتكا”وأعظم تخريبا”، لاسيما تلك المظاهر المسماة بالعنف الرمزي(14) ، أو المقنع(15) ، أو الفكري(16) ، أو اللغوي(17) . حيث تقتضي آلية الانتشار الكامنة في بنيته والتحول في مستوياته ، إلى تفعيل عمليات غزو معاقل السيكولوجيا الاجتماعية واختراق بنية الوعي الجمعي ، عاملة على خلخلة منظومة القيم الوطنية ، وزحزحة نسق الأعراف الاجتماعية ، وتصديع مداميك المعايير الأخلاقية ؛ متيحة ، من ثم ، لسلطان العنف التحكم بصمام الانفعالات والعبث بنظام السلوكيات . ومن هذا المنطلق شرعت  الآراء تتشظى والتصورات تتشعب ، إزاء ما يمكن اعتماده كقاعدة أو كمنطلق لتحديد العوامل وتصنيف المقومات التي يفترض إنها تسهم في تكوين ظاهرة العنف وتشكيل أنماطها . فإذا ما تجاوزنا رأي من يقول بأرجحية العوامل البيولوجية / السيكولوجية التي ورد ذكرها سابقا”، حيث تصدى لها العديد من الفلاسفة والمفكرين الذين شقوا عصا الطاعة على ذات المرجعيات التي كانوا تحت عباءتها ، بعد أن اكتشفوا فداحة الأخطاء التي وقعت فيها وجسامة العيوب التي نجمت عنها . وكمثال على ذلك ما جاء بكتاب((تشريح التدمير البشري)) لأحد أبرز تلامذة فرويد (أريك فروم) في معرض ردّه على مزاعم أنصار هذا التيار وادعاءاتهم ما نصّه: (( كلنا نتساءل مفكرين ، ان كان البشر المعاصرين المتحضرين ميالين للحرب والقتال ، فإلى أي مدى كان ميل الإنسان الأول للقتل  والحرب ؟ والنتائج التي توصل إليها (كويسني)    في دراسته عن الحرب تؤكد ان أكثر البشر بدائية أقلهم ميلا”للحرب ، وان النزعة والميل للحرب والقتل لم تنم إلاّ متناسبة مع درجة التحضر ))(18) . نقول إذا ما تجاوزنا ذلك سنجد أن هناك العديد من وجهات النظر المختلفة التي ترتأي كلّ منها ترجيح عوامل معينة على حساب أخرى ، معتبرة إياها بمثابة المقوم الرئيسي لاستدعاء ظاهرة العنف واستشراء نزعة العدوان في المجتمع . فهناك من يعتقد أولا”بأن فعل العنف لا يجد صداه ولا يبلغ مداه إلاّ في بيئة حضارية / ثقافية ، تكون له بمثابة الحقل الذي يولد فيه والمحيط الذي يترعرع
في كنفه . بحيث يبدو وكأن: (( العدوانية ظاهرة ثقافية تتأصل جذورها في المستوى ما قبل الثقافي ، الذي هو منطقة التلاقي بين الطبيعة والثقافة ))(19) . كما ان هناك من يسوق ثانيا”العوامل الهيكلية / البنيوية كشروط لابد منها لاحتدام مظاهر العنف واستقدام مخاطر العدوان ، معللين ذلك ، لربما ، بأن الإنسان الذي أستغرق مئات الآلاف من السنين حتى يقطع أواصر صلته بجذوره البدائية الأولى ، ويبلغ هذا الشأو الواسع من التطور البيولوجي والارتقاء الحضاري ، ما كان ليصل إلى ذلك المستوى من الانحدار الاجتماعي وتلك الدرجة من النكوص الإنساني ، لولا وقوعه تحت وطأة انخساف بنيته التحتية وانهيار عمارته الفوقية . بحيث لم تعد أمامه وسيلة معقولة تنأى به عن الحالة المأزقية التي وضع فيها ، أو سبيل واقعي يعصمه من الضياع الذي سيق إليه ، سوى اللجوء إلى خياره البدائي (العنف) حفاظا”على سلامته ، ودفاعا”عن حقوقه ، وضمانا”لمصالحه ، وتأمينا”لمصيره . الأمر الذي جعل هذا النمط من العنف يتخذ أشكالا”عدة منها: (( غياب التكامل الوطني داخل المجتمع ؛ وسعي بعض الجماعات للانفصال عن الدولة ؛ وغياب العدالة الاجتماعية ؛ وحرمان قوى معينة داخل المجتمع من بعض الحقوق السياسية؛ وعدم إشباع الحاجات الأساسية ( كالتعليم والصحة والمأكل …الخ ) لقطاعات عريضة من المواطنين ؛ والتبعية على المستوى الخارجي ))(20) . وهنالك من يعوّل ، ثالثا”، على معيار الظروف الاجتماعية / الاقتصادية كدليل مقنع على تأزم حالة الإنسان ، وكمرشد مضمون لسبر أغوار مظاهر العنف التي يبديها واستكناه مسالك العدوان التي ينتهجها . من منطلق ان كل ما يقوم به من أفعال وممارسات ، وكل ما يؤمن به من قيم ومعتقدات ، وكل ما يجتافه من رموز وتصورات ، لا يمكن له أن يزيغ عن مستلزمات الواقع الاجتماعي أو يتفلت من اشتراطات الوضع التاريخي . من حيث ان: ( الإنسان على وجه العموم إنما هو تجريد . انه تجريد ، ليس فحسب ، لأن الإنسان المفرد لا وجود له ؛ لأن البشرية وحدها هي الواقع الحقيقي ؛ لأن نمو الكامن من الاستعدادات البشرية في كل فرد رهن بمحيط الفرد الطبيعي وبمحيطه الاجتماعي خاصة . فليس في طاقة امرئ أن يكون كل ما في وسع الإنسان أن يكون ولا الإنسان بكاف لتعليل ما يتحقق في كل إنسان ))(21) . هذا ، على سبيل المثال ، ما تصدرت الدعوة له والتثقيف عليه ، النظرية الماركسية وان كان من منظور طبقي ضيق –  كما في نسختها السوفاتية المتأخرة –  من خلال التأكيد على انه: (( لا يوجد العنف الاجتماعي خارج العلاقات الطبقية وخارج السياسة . وإذا كانت السياسة هي التعبير المركّز للمصالح الاقتصادية ، فان العنف الاجتماعي بدوره هو التعبير الأكثر تركيزا” للعلاقات السياسية ، ووسيلة تحقيق السياسية نفسها ))(22) . والآن بقي أمامنا ، ربعا”وأخيرا”، رأي يروم أصحابه الولوج إلى (إمبراطورية العنف) عبر بوابات السياسية ومداخل السلطة . أي إنهم يحاولون الكشف عن الديناميات الباعثة لها والصراعات الناجمة عنها والخطابات المتحكمة فيها ، من خلال معاينة نمط العلاقة وطراز الروابط التي تقيمها ظاهرة العنف مع حقول السياسية ومجالات السلطة . فمما لا شك فيه ان أقصر السبل وأنجعها لمقاربة تلك الظاهرة والكشف عن أسبابها تأتي في معظمها عن طريق الممارسة السياسية ، وتحديدا”بنوع السلطة القائمة ومستوى شرعيتها ومرونة اشتغالها ودرجة مأسستها وحجم قوتها . وتبعا”لذلك فقد اختلفت الآراء وتباينت الاجتهادات حول تحديد مفهوم العنف ومعنى القوة ، لجهة المصدر القائم بفعل العنف والممارس لضروب القوة . ففيما يرى البعض ان (القوة) هي ما ينجم عن (السلطة الشرعية) من اكراهات حيال الأفراد المناوئين والجماعات المعارضة ، حينما يتعلق الأمر بحق تلك السلطة في تأمين وجودها وضمان استمرارها ، بحيث يتمثل (العنف) بسلوك كل من يقاوم سياساتها ويضع العراقيل أمامها وينوي التعريض باستقرارها . وهنا تأتي ملاحظة (جورج سوريل) في محلها حين أشار إلى انه: (( من الواجب أن نمايز بين القوة التي تهدف إلى السلطة ، محاولة تحقيق خضوعا”أوتوماتيكيا”، وبين العنف الذي يحطم تلك السلطة ))(23) . ويبدو ان الباحثة الاجتماعية (حنّه أرندت) لم تتردد في تبني ذات
الموقف ، عندما أعلنت من جانبها ان: (( السلطة والعنف متعارضان ؛ فحين يحكم أحدهما حكما”مطلقا”يكون الآخر غائبا”. والعنف يظهر حين تكون السلطة مهددة . لكنه ما أن يترك على سجيته سينتهي الأمر باختفاء السلطة ))(24) . على ان ذلك لا يمنع السلطة السياسية ، حين تشعر بالوهن من المطاولة إزاء الضغوط التي تتعرض لها ، ويعتريها الإحساس بالعجز عن مواصلة هيمنتها بذات الاقتدار والفاعلية ، من تخطي حاجز الشرعية الذي كانت حتى ذلك الوقت تعتصم خلفه وتحتمي بغطائه ، والإسراف في تصعيد وتيرة القوة التي بحوزتها ، واللجوء إلى وسيلة خصومها التقليدية باعتماد (العنف العاري) لقمع من تعتبرهم خارج حضيرتها . هذا وقد سبق للعالم الألماني (ماكس فيبر) أن أكد على هذه النقطة خلال بحثه عن الأشكال المؤسيسة للمجتمع السياسي  معتبرا” ان: ((وسيلة السياسة هي القوة ، والعنف عند الاقتضاء . بالطبع إنها تستخدم أيضا”جميع الوسائل الأخرى لإتمام مشاريعها ، إنما في حال فشل الإجراءات الأخرى تكون القوة حجتها الأخيرة ؛ فهي وسيلتها الخاصة))(25) . أما البعض الآخر فهو وان أيد فكرة وجود اختلاف نوعي بين القوة والعنف من منظور منهجي ، إلاّ انه وجد ان الفارق بينهما يكمن لا في مصدر الشرعية وحدودها ، بل في أن القوة: (( شيء مادي ينمو طبيعيا”في الجسم أو في الجهاز العضوي .. أما العنف فهو حالة شذوذ في استعمال القوة تخرج عن المألوف والطبيعي والعادي وعن النظام والقانون ))(26) . في حين لا يرى البعض الثالث أي تمييز بين هذه الأشكال والتجليات من الظواهر جاعلا”من العنف الوعاء الذي يحوي كل أنماطها ، معتبرا”إياه: (( نقيض الهدوء وهو كافة الأعمال التي تتمثل في استعمال القوة أو القهر أو القسر أو الإكراه بوجه عام ، ومثالها أعمال الهدم والإتلاف والتدمير والتخريب ، وكذلك أعمال الفتك والتقتيل والتعذيب وما أشبه ))(27) .
واللافت للنظر في هذا المجال انه بالرغم من اختلاف التوجهات الأكاديمية للذين تناولوا ظاهرة العنف ، وتباين مشاربهم الفكرية ، وتنوع مقاصدهم السياسية ، إلاّ إنهم أجمعوا على ان متوالية العنف تزداد حدّتها وتتصاعد وتيرتها ، حالما ينتقل تأثيرها من الفرد إلى الجماعة أو الجمهور ، على وفق آليات سيكولوجية الحشد ؛ حيث السياق قائم على تجييش العاطفة وتهميش العقل ، وتحكيم الغريزة وتحجيم الوعي . وذلك لأن القيود التي تلجم الفرد وتكبح جماحه ، لا تلبث أن تترك العنان للمكبوت في اللاوعي لأجل أن يعبر عن نفسه ، دون رادع قانوني أو وازع أخلاقي أو مانع عرفي . إذ (( بمجرد أن ينضوي الفرد داخل صفوف الجماهير فانه ينزل درجات عديدة في سلّم الحضارة . فهو عندما يكون فردا”معزولا”ربما يكون أنسانا”مثقفا”متعقلا”، ولكنه ما أن ينضم إلى الجمهور حتى يصبح مقودا”بغريزته وبالتالي همجيا”))(28) . وحينذاك يغدو العنف والعدوان هما اللغة الوحيدة التي يجيد استخدامها مع الآخر ، بعد أن يجري تحويل هذا الأخير إلى مجرد عائق يستحيل تخطيه والتغلب عليه ما لم يتم تجريده من كينونته الإنسانية ، وتبخيس قيمته الاجتماعية إلى مستوى اللاشيء ، وانتزاع كل ما يماثله مع الأنا من خصائص ، بغية تكفيره دينيا”وتخوينه سياسيا”، وبالتالي سهولة سحقه وابادته . من هنا خشية أن يتحول العنف إلى ضرب من ضروب السلوك الجمعي ، وظاهرة من ظواهر العلاقات البينية ، خصوصا” في المجتمعات التي تتقاذفها الأزمات وتتناهبها الخلافات وتمزقها الصراعات ، مثلما يعاني وطأته اليوم المجتمع العراقي ، دون أن يجد له مخرجا” يربأ بجميع الأطراف السياسية والأطياف الاجتماعية عن مظاهر العنف الفوضوي والقتل المجاني . نعود الآن أدراجنا ، بعد هذا الاستعراض الموجز لأبرز الآراء والأفكار التي تبلورت حول ظاهرة العنف وما قيل عنها وحولها من حقائق وأساطير ، لطرح ما بات يمثل إشكالية مستديمة تتوسط العلاقة ما بين الظاهرة المعنية وما تتسم به من انهيار الأسس وخراب الأصول وتفكيك البنى وتصدع الأنساق من جهة ، وبين فكرة الديمقراطية وما تشيعه من استقرار سياسي وتقدم اجتماعي وتطور اقتصادي وازدهار ثقافي وارتقاء حضاري من جهة أخرى . متسائلين عما هو الشيء المميز في خاصية الوعي الديمقراطي الذي يضعه على طرفي نقيض مع أي شكل من أشكال العنف ، وأي نمط من أنماط العدوان ؟ ولماذا ، خلافا”لكل منتجات الفكر السياسي منذ (أرسطو) ولحد الآن ، يتخذ الوعي الديمقراطي الجانب الأقصى في المعارضة حيال رفضه لأية صيغة من صيغ القسر والإجبار والإكراه ؟ ولماذا ، لكي يكون ضامنا”للشأن السياسي وفاعلا”في الواقع الاجتماعي ومؤثرا”في المجال الثقافي ، يشترط الوعي الديمقراطي حضور الآخر بكل مسمياته واختلاف الرأي بكل مستوياته ؟ . والواقع انه ، باستثناء الفكر الديمقراطي ، فان كل ما أبدعه الاجتماع السياسي من تصورات ونظريات ، فضلا”عن التجارب والممارسات ،  منذ دولة / المدينة وحتى دولة / ما بعد القومية ، حيث تعاملت جميعها مع ظاهرة العنف وكأنها لعنة أبدية لا فكاك منها وقدر مسلّط لا راد له ، ينبغي – ان لم يكن صعود موجتها العاتية ، وتوظيف بلاغتها الدامية ، وجني ثمارها المرّة ، وتسخير اعصرها المدمر – التعاطي معها بقدر من الحكمة والحذر والتشكك ، خشية الانخراط في أتونها ، والانجراف نحو دواماتها ، والسقوط في جحيمها . باعتبار ان العنف – كما يرى الباحث الفرنسي (روبير رديكر)- (( يظل بدون لماذا . انه لغز جذري قريب من لغز (الشر الأصلي) الذي أشار إليه كانط . وفي نهاية التحليل ، يبقى العنف أخرسا”أمام الدعوة التي دشنها التساؤل السقراطي لتقديم السبب ، وأخرسا”أمام النداء الذي يؤسس للمعنى))(29) . وإذا ما تأملنا مغزى رهان الوعي الديمقراطي على تعظيم شأن الحوار بين الجماعات المختلفة ، لا في مجال العمل السياسي والتنافس السلطوي فقط ، بل وفي المجالات كافة ، التي تتعلق بالشؤون الاجتماعية والثقافية والدينية ، لتبين لنا أن هناك العديد من النتائج الايجابية التي تترتب على انتهاج هذا الضرب من السلوك الحضاري والموقف الإنساني ، سيكون من الخطل ، لا بل من الجريمة إهمالها أو العمل خلافا” لمدلولها ، طالما إنها وضعت من أجل وحدة الجماعة وضمان استقرارها وتأمين مصالحها وتطوير وعيها وازدهار ثقافتها وتعزيز علاقاتها ، بعيدا”عن مظاهر العنف السياسي والتخلف الاجتماعي والحرمان الاقتصادي والجدب الثقافي . ذلك لأن: (( ما يقيس الطابع الديمقراطي لمجتمع ما ليس شكل التوافق العام أو المشاركة الذي وصل إليه ، بل طبيعة الاختلافات التي يتعرف بها ، ويتدبر شؤونها ، وزخم وعمق الحوار الذي يقيمه بين تجارب شخصية مختلفة بعضها عن بعض ، ومتكافئة من حيث كونها أجوبة ، مخصوصة ومحددة ، على تساؤلات عامة واحدة ))(30) .
ولأن مبدأ (الحوار) والمناقشة الذي يعتمده الخيار الديمقراطي كدالة على بلوغ المجتمع المعني مرحلة النضج الحضاري والسموّ الإنساني ، لا يمكن تفعيل مضامينه واستثمار فضائله إلاّ على أساس منظومة لغوية تواصلية تتخذ من قوانين الفكر وقواعد المعرفة منطلقات إرشادية ، تتيح للخصوم والفرقاء فرص التلاقي والتقارب على أرضية مشتركة من القناعات المعتدلة والتوافقات المتوازنة ، بعد أن دقت بين صفوفهم مظاهر التعصب العرقي والتطرف المذهبي أسافين التباغظ والتنابذ ، ان لم تكن التحارب والتقاتل ، إذ ان : (( الفكر يتيح لارادتين متنافستين التداخل والتواجد والتفاهم ، ولهذا السبب بالذات ، إضعاف عملية العنف ))(31) . فان آليات العنف ، بالمقابل ، لا تعمل إلاّ على إقصاء الآخر وتهميش الغير ، طالما إنها تتأسس على مسبقات الأنا وهوامات غرائزها . بمعنى ان الحوار البيني الذي يغلّب صوت العقل ويرجح نداء الحكمة ، غالبا”ما يقترن باجتياف قيم ومعاني الفكرة الديمقراطية من لدن الأطراف المتحاورة حتى وأن لم تكن تعي ذلك وتتقصده ، الأمر الذي يساعد على تخفيض التوترات السياسية وتخفيف الاحتقانات الاجتماعية ، واقتفاء أثر الحلول المعقولة والمعالجات المنصفة ، ويفضي ، من ثم ، إلى انفراج المواقف وانفتاح العلاقات وتلاقح الذهنيات . وعلى خلاف ذلك نجد أن تداعيات العنف وممارسات العدوان عادة ما تؤسس القطيعة وتكرّس العداوة وتغرس الكراهية ، بحيث يبدو وكأن الجماعات المستقطبة حول رموزها الفرعية والمعبئة إزاء مصالحها الفئوية ، جبلت على غرائز القتل وطبائع سفك الدماء ، لا لشيء سوى إنها مختلفة الأصول الاجتماعية ومتباينة الأرومات الثقافية ومتنوعة المرجعيات الدينية . وعليه فإذا: (( كان الحوار-  كما يقول الباحث أدغار فور – سعيا”وراء التحكيم وأملا”بالتحكيم وإيمانا”بامكان التحكيم ، فان العنف ، بعكس ذلك ، يبدأ برفض التحكيم ، أي يرفض كل تدخل محتمل . فهو بالتالي تسلط إرادة على أخرى))(32)
والجدير بالذكر هنا هو أن الاشتراط الديمقراطي لعملية الحوار لا تستهدف ، بطبيعة الحال ، أي نوع من أنواع الحوار أو أية صيغة من صيغ المناقشة ، والاّ لانتفت الحاجة إليها كممارسات ، واندثرت الآمال عليها كمؤسسات ، وسقطت الدعوة إليها كخطابات . ذلك لأن زخم الحياة الاجتماعية بكل معطياتها المادية والمعنوية ، فضلا”عن أبعادها الزمانية والمكانية ، شاهد بليغ على وجود الحوار كبديهية إنسانية لا تحتاج إلى من يروج لها بين الناس ويصورها لهم وكأنها ضرب من ضروب الامتياز الإنساني والحضاري . صحيح ان الفكرة الديمقراطية – بما هي نزوع عقلاني مؤنسن – تتوخى أن تخترق الفعل الاجتماعي من أقصاه إلى أقصاه ، دون أن تترك حقلا”من حقوله بعيدا”عن تأثيرها وخارج نطاق قيمها ، من منطلق كونها تطلع إنساني شامل يهتم بالحفاظ على التنوع البشري ويتقصى البحث عن الاختلاف الفكري . بيد ان المغزى الذي تنشده القيم الديمقراطية وتسعى إلى تأصيله في الوعي الاجتماعي لا تتبدى ضرورته ولا تتقيم أهميته إلاّ في إطار العلاقات السياسية ؛ حيث تنافس القوى وتعارض الارادات . أي ان مفاعيل الوعي الديمقراطي تتجه مباشرة نحو الحلقة الرئيسية في سلسلة العلاقات الاجتماعية التي بضمان دمقرطتها تتحول باقي حلقات السلسلة بالاتجاه الديمقراطي كتحصيل حاصل . وبما أن قضيتا السلطة وأشكال حيازتها والثروة وأنماط توزيعها شكلتا ولا تزال المحور المركزي الذي تدور في فلكه كل أطياف المجتمع ومكوناته ، فضلا”عن كونهما بمثابة المعيار الذي يعول عليه لقياس مستوى الحراك السياسي والمرونة الفكرية بين القوى والتيارات الفاعلة في رحم المجتمع ، فان الحوار وليس العنف هو الضمان الذي يتيح للجميع ممارسة حقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، بعيدا”عن مظاهر الاستئثار والتسلط التي هي من أبرز نتائج الاحتكام إلى العنف والاستعانة بالعدوان . وهكذا فان: (( ميزة الديمقراطية وخاصيتها هي الحدّ من العنف ، كما هي الحدّ من السلطة المطلقة . فإذا كان لا مفر من العنف فلأن المجتمع الذي ينغلق على مفاوضاته الداخلية سرعان ما ينشلّ بفعل سعيه لإيجاد تسويات يجعلها غياب الضغوط الخارجية مستحيلة الوجود ))(33) . وكخلاصة لهذا الدرس ، ينبغي ان نؤكد على حقيقة أساسية ؛ هي ان الدعوة لإشاعة مضامين الوعي الديمقراطي بين ثنايا المجتمع والحضّ على التحلي بمظاهره ، لا تشكل غاية بحد ذاتها دونما تأمل لما قد يجنيه الأفراد من فوائد ولما قد تكسبه الجماعات من امتيازات ، حين يؤخذ بهذا الخيار الحضاري والإنساني . بقدر ما تعتبر خصائصه ومزاياه  
 بمثابة حاجة اجتماعية ملحة وعاجلة ، تتطلبها الأوضاع التي تعيش في كنفها الشعوب المقهورة إرادتها والمهدورة آدميتها والمستباحة كرامتها والمسروقة ثرواتها والمستنزفة طاقاتها ، تحت نير الاستبداد الداخلي بكل ألوانه والهيمنة الخارجية بكل أنواعها ، لكي تتاح لها فرصة الخلاص من قيود تخلفها المزمن والإفلات من سجن عبوديتها المتوطنة ، والخروج من حضيرة وئد الوعي الإنساني وقمع التفكير العقلاني إلى حضارة الإنسان / المواطن الذي يمسك زمام أمره بيده ويحدد ملامح مصيره بنفسه ، بعيدا”عن مظاهر القهر والقسر والخضوع والخنوع والخوف والعنف .    
 

الهوامش والمصادر
(1)    في لقاء له مع قناة الحرة بتاريخ الأول من مارس/آذار2006 اشترط المفكر ( محمد أركون ) ، لكي يكون الحوار مثمرا”وبنّاءا”، ضرورة أن تمارس الأطراف المعنية بالحوار نقدا”ذاتيا”مسبقا”، يطال مختلف منظوماتها الفكرية ونصوصها الخطابية ، قبل أن تشرع بعملية الحوار ، وذلك لتجنبها الوقوع في مزالق الأنا المتعالي وتخطي اكراهات المركزية الذاتية .
(2)    ثامر عباس ؛ ظاهرة العنف وأزمة الثقافات الفرعية . مجلة الإسلام والديمقراطية ، العدد /6 ، ص 88 .
(3)    جان بول سارتر ؛ نظرية في الانفعالات ، ترجمة الدكتور سامي محمود علي وعبد السلام القفاش (القاهرة ، دار المعارف ، 1956 ) ، ص 38 .
(4)    الدكتور علي أسعد وطفه ؛ التربية إزاء تحديات التعصب والعنف في العالم العربي ( الإمارات العربية المتحدة ، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية ، 2002 ) ، سلسلة دراسات استراتيجية العدد(69) ، ص 11
(5)    بول ريكور(( إنسان اللاعنف وحضوره في التاريخ )) . ضمن كتاب ؛ المجتمع والعنف ، مجموعة من الاختصاصين ، ترجمة الياس زحلاوي ( بيروت ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، 1985 ) ، ص97 .
(6)    يعتقد المفكر الفرنسي ( جان بودريارد ) ان التمييز بين العنف والإرهاب يكمن في الدرجة لا في النوع ، معتبرا”(( ان الإرهاب ليس العنف . انه ليس عنفا”واقعيا”، محددا”، تاريخيا” ، العنف الذي له سبب وغاية انه ظاهرة متطرفة ، أي انه موجود في ما وراء غايته ، بطريقة ما : انه أكثر عنفا”من العنف )) . أنظر جان بودريارد وأدغار موران : عنف العالم ، ترجمة عزيز توما ( دمشق ، دار الحوار ، 2005 ) ، ص64 .
(7)    ف . دينيسوف ؛ نظريات العنف في الصراع الإيديولوجي . ترجمة الدكتورة سحر سعيد ( دمشق ، دار دمشق للطباعة والنشر ، د . ت ) ، ص120 .
(8)    الدكتور ريكان إبراهيم ؛ النفس والعدوان : دراسة نفسية اجتماعية في ظاهرة العدوان البشري ( بغداد ، دار الشؤون الثقافية العامة ، 1987 ) ، ص9 و ص145 على التوالي .
(9)    توماس بلاس ( محرر ) كتاب : العنف والإنسان – أربع دراسات حول العنف والعدوان ، ترجمة وتقديم الدكتور عبد الهادي عبد الرحمن ( بيروت ، دار الطليعة ، 1990 ) ، ص15 .
(10)الدكتور عدنان حب الله ؛ جرثومة العنف : الحرب الأهلية في صميم كل منا . ترجمة الدكتور فردريك
            معتوق ( بيروت ، دار الطليعة ، 1998 ) ، ص11  .
(11)    ف . دينيسوف ؛ مصدر سابق ، ص 141 .
(12)    بيير فيو ( العنف والوضع الإنساني ) ، ضمن كتاب : المجتمع والعنف ، مصدر سابق ، ص 139 .
(13)    ليونارد بيركونز ( تعبئة العنف ) ، ضمن كتاب : الإنسان والعنف – أربع دراسات ، مصدر سابق ص59 .
(14)    يعتقد المفكر الفرنسي ( بيار بورديو ) ان (العنف الرمزي) يتمثل: (( بالضغط أو القسر أو التأثير الذي تمارسه الدولة على الأفراد والجماعات بالتواطؤ معهم . ويبرز بشكل جلي في التعليم الذي يمارسه النظام المدرسي لجهة الاعتقاد ببديهيات النظام السياسي أو لجهة إدخال علاقة السلطة إلى النفوس كعلاقة طبيعية من وجهة نظر المهيمنين )) . للمزيد حول هذا الموضوع أنظر ؛ الدكتور علي سالم ؛ البناء على بيار بورديو : سوسيولوجيا الحقل السياسي . ( بيروت ، دار النضال للطباعة والنشر ، 1999 ) ، ص 147 .
(15)    يرى الدكتور مصطفى حجازي ان العنف المقنع ((يشيع متى ما ازدادت حدة القمع المفروض من الخارج من ناحية ، وازداد إحساس الإنسان بالعجز عن التصدي له من ناحية ثانية )) ، أنظر كتابه ؛ التخلف الاجتماعي : سيكولوجية الإنسان المقهور . ( بيروت معهد الإنماء العربي ، 1976 ) ، ص257 .
(16)    يشير أستاذ معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية الدكتور عبد الغني عماد إلى ان (العنف الفكري)
يعد بمثابة: (( المقدمة التي يتكئ عليها العنف المادي والرمزي ، وهو يرتسم على صورة ثقافة وخطاب كما في الحالة الصهيونية ، فيعمد إلى تجريد الآخر/ الضحية ، مستخدما”آلية التخفيض والتهميش والتغييب )) . انظر كتابه : ثقافة العنف : في السوسيولوجيا السياسية الصهيونية . ( بيروت ، دار الطليعة ، 2001 ) ، ص 7 . 

(17)    وجد الأكاديمي آلان بيرو ان ( العنف اللغوي) هو: (( مزيج من القمع الذاتي الشخصي والقمع الموضوعي . وترتدي الكلمات سحرا”جديدا”، لا يكون لها بموجبه من معنى ، إلاّ إذا عكست فقط محتوى العبارات المستخدمة ، الإجرائي والوظيفي والنفسي )) ، أنظر كتاب المجتمع والعنف ، مصدر سابق ، ص47 .
(18)    كولن ولسون ؛ التاريخ الإجرامي للجنس البشري ، الجزء الأول ، سيكولوجية العنف ، ترجمة الدكتور رفعت السيد علي ( القاهرة ، جماعة حور للثقافة ، 2001 ) ، ص74 .
(19)    ميشيل كورناتون ( جذور العنف الحيوية النفسية والنفسية الاجتماعية ) ضمن كتاب ؛ المجتمع والعنف ، مصدر سابق ، ص 76 .
(20)    الدكتور حسنين توفيق إبراهيم ؛ ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 1991 ) سلسلة أطروحات الدكتوراه (17) ، ص 44 .
(21)    الدكتور شارل بلوندل ؛ المدخل إلى علم النفس الجماعي ، ترجمة الدكتور حكمة هاشم ( القاهرة ، دار المعارف ، 1962 ) ، 29 .
(22)    ف . دينيسوف ؛ مصدر سابق ، ص29 .
(23)    الدكتور ملحم قربان ؛ قضايا الفكر السياسي – القوة – ( بيروت ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، 1983 ) ، ص132 .
(24)    حنّه أرندت ؛ في العنف ، ترجمة إبراهيم العريس ( بيروت ، دار الساقي ، 1992 ) ، سلسلة الفكر الغربي الحديث ، ص 50 .
(25)    جوليان فروند ؛ سوسيولوجيا ماكس فيبر ، ترجمة جورج أبي صالح ( بيروت ، مركز الإنماء العربي  ،
           د . ت ) ، ص107 .
(26)الدكتور أودنيس العكرة ؛ العنف في التجربة السياسية ، مجلة دراسات عربية ، يوليو ، 1985 . أورده
      الدكتور عبد الهادي عبد الرحمن ، في العنف والإنسان ، مصدر سابق ، ص18 .
(27)الدكتور حسنين توفيق إبراهيم ؛ مصدر سابق ، ص42 .
(28)غوستاف لوبون ؛ سيكولوجية الجماهير ، ترجمة وتقديم هاشم صالح ( بيروت ، دار الساقي ، 1997 ) ،
      سلسلة الفكر الغربي الحديث ، ص 60 .
(29)روبير رديكر ؛ من السلطة إلى العنف : أفول السياسة ، ترجمة فؤاد مخوخ ، مجلة فكر ونقد ، موقع على
      شبكة المعلومات ( الانترنيت ) .
(30)آلان تورين ؛ ما هي الديمقراطية ؟ : حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية ، ترجمة الدكتور حسن قبيسي . (بيروت
      دار الساقي ، 2001 ) ، ص253 .
(31)بيير فيو ؛ العنف والوضع الإنساني ، ضمن كتاب : المجتمع والعنف ، مصدر سابق ، ص 144 .
(32)المصدر نفسه ، ص144 .
(33)آلان تورين ؛ مصدر سابق ، ص83 .