حظيت المقاومة العراقية للاحتلال الأميركي وحلفائه بولاء شعبها وباحترام أمتها العربية , ولقد كان متوقعاً لهذه المقاومة أن تتصاعد لتمحو آثار العدوان وتحقق للعراق استقلاله الناجز وتستعيد هويته العربية ودوره القائد في اقليمه لولا أن اختطفتها عناصر طائفية من الإسلام السياسي طغت عليها وشوّهت وجهها الوطني وأسدلت عليه برقعاً طائفياً تغذيه مصادر خارجية لها حسابات ومصالح تتعارض مع عراق موحد وقوي ومستقل , والشاهد أن الاحتلال الأميركي قد انسحب بجانبه العسكري ولكن مشروعه السياسي لم يُهزم وما زال يواصل خطواته بثبات نحو أهدافه النهائية برغم تبنّي بعضهم لنصر يعرف العراقيون مدى زيفه بدليل مواصلة ميليشيات وتنظيمات وعصابات لجرائمها بحق الشعب العراقي منذ العام 2006 والتي تسببت بقتل ما لا يقل عن مليون مواطن ناهيك عما أحدثته من خراب وتمزيق للنسيج الوطني . وكان طبيعياً أن تعجز الدولة العراقية بهويتها الطائفية عن حماية أمنها ومواطنيها من شرّ إرهاب الإسلام السياسي , فرجال مؤسساتها الدستورية ضالعون فيه أو يتسترون عليه لحسابات سياسية , و نخبة النظام تستهتر بدماء الناس بلا وازع أخلاقي أو وطني , والفساد المروّع متفش في مفاصل الدولة وأجهزتها الأمنية , وأهم من ذلك كله أن السلطة القضائية تابعة مطواع للسلطة التنفيذية ومتراخية وإجراءاتها بطيئة وبعض قضاتها مكشوف أمام عنف الإرهاب. ومن قصص الفساد الحكومي المخزية بهذا الصدد , تلك الفضيحة التي كان بطلها السيد موفق الربيعي مستشار الأمن القومي السابق عندما استجاب لصفقة عقدها الإحتلال الأميركي مع النظام السعودي الذي بعث بطائرة خاصة أقلعت من مطار بغداد وعلى متنها الربيعي ومعه ستة ارهابيين سعوديين ارتكبوا عمليات ارهابية قتلوا فيها مئات المواطنين , وكان أشهرهم ذلك الذي قفز من صهريج وقود قبل أن يفجّره في حيّ المنصور بقلب بغداد , وقد تسبب بكارثة راح ضحيتها عشرات القتلى والبيوت , في حين أصيب هو بحروق من الدرجة الثانية فحسب , وقد سلّم الربيعي هؤلاء الإرهابيين لحكومتهم ورجع بنفس الطائرة إلى بغداد دون أن يفكر حتى بمقايضتهم بمعتقلين عراقيين لدى النظام السعودي , ولكنه كان يتحسس منتشياً جيب سترته الداخلي حيث يقبع صك مسحوب على بنك ( يو. بي.اس.) سلّمه إياه مدير المخابرات السعودية في ذلك الوقت الأمير مقرن بن عبد العزيز !
ما جرى في سجن مدينة تكريت مؤخراً , هو فضيحة سياسية وقضائية وأمنيّة تدفع بالحكومة إلى خارج السلطة في أي بلد يحترم نفسه , فزعيم تنظيم القاعدة في العراق كان قد أعلن منذ شهر تموز الماضي أن تنظيمه بصدد القيام بعملية أطلق عليها ” هدم الأسوار ” وهدفها اقتحام السجون لإطلاق سراح عناصره , وكان سجن تكريت الثالث في سلسلة عملية ” هدم الأسوار” بعد سجني ساحة التحريات والتاجي , ولم تكن عملية اقتحام سجن تكريت مفاجئة لأن معلومات أمنية رصدتها وجرى إبلاغ المعنيين بها فضلا عن أنه سبق قبل شهور اكتشاف نفق داخل إحدى الزنازين بطول ثلاثين متراً وبارتفاع متر واحد تسلل منه سجناء ليجدوا أنفسهم تحت أقدام طاقم سيارة ” همر ” عسكرية ! ولقد كان في سجن تكريت 47 إرهابياً محكوماً عليهم بالإعدام استنفذوا كافة وسائل الاستئناف والتمييز وبات الحكم عليهم ناجزاً لا ينتظر سوى التنفيذ , وبعض الإرهابيين الذين جرى تهريبهم كان محكوماً منذ العام 2008 مثل التونسي طارق الحرزي , وتفاصيل ما كان يجري في هذا السجن مدهشة ومثيرة للحيرة خاصة فيما يتعلق بسيطرة الإرهابيين على قاعات السجن وامتلاكهم لأجهزة اتصال خارجي وأسلحة , دون أن يجرؤ أحد من مسؤولي السجن على مصادرتها أو التعرض لهم , بل إن مدير السجن العقيد ليث السكماني كان رقيقاً معهم وغضّ نظره عن مخالفاتهم الصارخة , ومع ذلك فقد ودّعوه قبل هروبهم بطلقتين في صدره ثم ذبحوا اللواء الشهيد وائل طه بكر الذي كان معتقلا بتهمة مقاومة الاحتلال الأميركي !
لقد فشلت كل الحلول التي جربتها الدولة لاستئصال الإرهاب , وبات المواطن العراقي البسيط هو من يدفع تكاليف تفاقمه يوماً بعد آخر , وقد سبق أن عانت مصر طيلة ثمانينات القرن الماضي من إرهاب الإسلام السياسي لكنها تمكنت من اجتثاثه من جذوره , إذ شكلت السلطة المصرية كماشة كان أحد طرفيها قوة تنفيذية تمتلك معلومات دقيقة وكفاءة قتالية عالية وسلطة اعتقال غير محدد المدة للعناصر الخطرة , وكان طرفها الآخر – وهو الحاسم والأهم – محكمة مختصة بالنظر في قضايا الإرهاب ويرأسها قضاة عسكريون , وكانت أحكامها قطعية غير قابلة للإستئناف وواجبة التنفيذ خلال أيام قليلة , ولم يُسمح لأي جهة حكومية بالتدخل في عملها باستثناء رئيس الجمهورية الذي كان يملك العفو عن المدانين أمامها وهو حق لم يحدث أن مارسه الرئيس طيلة حكمه حتى أطاحت به ثورة الشباب , ولقد كانت النتائج باهرة إذ تمكنت مصر خلال فترة معقولة من تصفية جيوب الإرهاب وتطهير البلد منها , فقد قُتل العدد الأكبر من الإرهابيين وهرب خارج مصر عدد آخر , وأما من نال أحكاماً بالسجن فقد أتاحت له سنوات السجن الطويلة أن يعيد التفكير بما اقترفه بحق بلده وأهله , وأن يراجع أفكار فقهاء الإرهاب والظلام المنحرفين عن الإسلام وسماحته , وكذلك أصدرت الجماعة الإسلامية قبل سنتين كراسات ودراسات أدانت تجربتها الإرهابية ومعها فكر وممارسات تنظيم القاعدة , ثم خرجت من المعتقل بعد ثورة كانون ثاني 2011 لتمارس العمل السياسي العلني شأنها شأن أي حزب مدني ؛ ولقد كان من حسن حظ مصر أنها خلت من إرهاب قادر على تحدي القانون واقتحام السجون ليطلق سراح عناصره , كما أنها لم تعرف إرهاباً له ممثلون بالسلطة يتكفلون بإطلاق سراح عناصره المعتقلين عبر تشريع قانون للعفو العام ! .
* مستشار قانوني