العزيمة، والاصرار، والمثابرة، والثقة بالنفس؛ كلها عوامل رئيسية في اسباب النجاح. فالإنسان الذي يمتلك هذه الاسلحة الفكرية، لابد له أن يصيب مرماه ويحقق اهدافه، وبالتالي ينال مراده ويحصل على مبتغاه، ويصل النقطة التي يروم الوصول اليها، بكامل ثقته، ومن خلالها يحقق نجاحات باهرة، واهداف قد عجز غيره عن تحقيقها. واذا وصل الانسان الى ذلك فكان الاولى بنا أن نطلق عليه عبارة “انسان عظيم” ونتخذه المثل الاعلى في حياتنا وفي مستقبلنا، ويمكن لنا أن نستفيد من تجربته وأن نخطو خطواته التي خطاها، ونسير في نفس الاتجاه الذي سار عليه، كي نحقق اهدافنا ونصل الى طموحاتنا، كما فعل ذلك العظيم، وبالتالي ايضا قد نصبح عظماء، واسماء تنقش في صفحات الذاكرة، اذا ما ذكرت في أي محفل من المحافل، أو في سجل التاريخ، سوف تنحني لها الهامات، وتطأطئ الرؤوس.
والعظماء الذين كانوا يمتلكون كل هذه الوسائل، ومن ثم حققوا طموحاتهم ووصلوا الى اهدافهم، كثير جداً. ومن هؤلاء سيغموند فرويد (1886- 1939) الذي صار فيما بعد علمًا من اعلام الانسانية، ومفخرة من مفاخر الطب، وخصوصا التحليل النفسي، فهو المؤسس لهذا العلم في القرن التاسع عشر، واصبح اليوم لهذا العلم مدارس واسعة، بلغت الذروة، وخصوصا في اوروبا وامريكا وغيرها من الدول الاخرى.
يذكر بعض من الذين كتبوا في سيرته، أنه في سنة مبكرة من حياة فرويد، ظهر كتابان عظيمان كان لهما الاثر البالغ في تلك المجتمعات آنذاك، هما “اصل الانواع” لدارون والآخر كتاب للفيلسوف والعالم الالمان فنخر، وكان هذان الكتابان قد غير حياة فرويد، وكانا لهما الاثر البالغ في تطوير فكره، وشحذ همته كما كانت بعد ذلك ومنها العلم الطبيعي أو الفيزياء، وهذين الكتابين تعتبران الاساسيات في زرع بذرة التفكير والعلم لدى فرويد، ليحصل بالتالي الى وضع نظرية التحليل النفسي.
ولد سيجموند فرويد في سنة 1856 من ابوين يهوديين في مدينة فرايبرج بمورافيا، هي اليوم تشيكوسلوفاكيا. وفي السن الرابعة من انتقلت اسرته الى مدينة فيينا، فنشأ هناك وتلقى العلم ودرس في جامعاتها الطب. وهناك تعرف على صديق أسمه جوزيف بروير، فأشترك معه في بحث علمي حول اسباب الهستيريا وطرق علاجها، ثم في بحث آخر بعنوان “دراسات في الهستيريا، ونشر هذا الاخير في عام 1895.
ويذكر أيضا، بعض ممن كتب في سيرة فرويد أنه لم يكن يميل الى دراسة فروع الطب المختلفة، ما عدا طب الامراض العقلية. وكان اغلب اهتمامه يسير صوب الابحاث الفسيولوجية والتشريحية المتعلقة بالجهاز العصبي. واشتغل في هذا وهو لا زال طالبا في الجامعة. حتى حصل على شهادة الدكتوراه في سنة 1881 في الطب واصبح مساعدا لأرنست بروك في معمله. وفي سنة 1882 عمل طبيبا في المستشفى الرئيس بفيينا. واستمر يواصل دراسته في تشريح الجهاز العصبي الى جانب عمله كطبيب، ونشر بعض من ابحاثه التي اعتبرها مهمة، وستصبح طفرة نوعية في هذا الاطار. بعدها زاد اهتمامه في دراسة الامراض العصبية صحبها ببحوث تناولت هذا الجانب بشكل مكثف، وفي عزيمة لا تكل ولا تمل.
ويذكر الدكتور كالفن س. هول، في كتابه (علم النفس عند فرويد) أن فرويد حينما درس الطب في جامعة فيينا، أنه لم يكن في نيته مطلقا أن يمارس الطب، وانما أن يكون رجلا مشتغلا بالبحث العلمي. وسعيا وراء هذا الهدف دخل مدرسة الطب بجامعة فيينا عندما كان في السابعة عشرة من عمره، وقام بأول بحث أصيل له في عام 1876، وفيه كان يبحث عن الخصيات الغائرة عند ثعبان السمك وقد وجدها. وفي السنوات الخمسة عشرة التالية وهب فرويد نفسه لأبحاث في الجهاز العصبي، لكنه لم يستطع أن يهب نفسه كلية للبحث العلمي، لأنه وجد أن البحث لا يمكنه من أن يعول زوجة وستة اولاد وعدد من الاقارب، فضلا عن هذا فإن الاتجاه ضد الجنس السامي الذي كان سائدا في فيينا في تلك الفترة حرم فرويد فرص الترقي في الجامعة، وبالتالي أضطر أن يمارس الطب. ومع ذلك لم يلبث أن اكتسب شهرة كعالم ناشئ يرجى الكثير من الخير على يديه، وصار له ذلك.
مدرسة التحليل النفسي
فرويد هو مؤسس هذه المدرسة بلا منازع، وهي نظرية تحليلية تقوم على فروض، لخصت في الموسوعة الفلسفية لمجموعة من علماء السوفيات: أن ما قبل الشعور والذي يسيطر على النفس، تحتله في اعماق النفس وقابة وهي معادلة نفسية تتشكل تحت تأثير نظام الحركات الاجتماعية. وفي حالات صراعية خاصة تفلت الميول اللاشعور من الرقابة وتظهر امام الشعور كالأحلام وفلتات اللسان أو القلم والاعراض العصابية ، التي هي مظاهر الامراض. ولما كانت النفس اولية بالنسبة لما هو جسمي بدني، فمن الضرورة استكشاف النفس بواسطة مناهج ذاتية. واحد هذه المناهج التي يقدمها التحليل النفسي منهاج يطلق عليه اسم (منهج التداعي الحر) وهو منهج في تفسي الاحلام وفلتات القلم.
ونظرية فرويد في التحليل النفسي للشخصية، مفادها أن السلوك البشري هو نتيجة للتفاعلات بين ثلاثة أجزاء مكونات العقل، والمعروفة باسم الهيكلية للشخصية، وتركز بشكل كبير على دور الصراعات النفسية اللاوعي في تشكيل السلوك والشخصية، ويرى فرويد أن التفاعلات الديناميكية بين هذه الأجزاء الأساسية من العقل تتقدم خلال خمس مراحل مختلفة من النمو النفسي. ويقرر فرويد أن الحياة تدور حول التوتر واللذة، وأن التوتر الذي يعاني منه الشخص خلال مراحل حياته سببه زيادة الليبيدو (الطاقة الجنسية) وأن الشعور باللذة ينتج عن تفريغ هذه الطاقة.
وفي كتابه (فرويد) يذكر اريك فروم إن التحليل النفسي هو علاج العصاب، وفي الوقت نفسه نظرية سيكولوجية، نظرية عامة للطبيعة الانسانية وخاصة لوجود اللاشعور وتجلياته في الاحلام والاعراض المرضية، وفي الشخصية وفي كل الانتاجات الرمزية. ويشير الى أن فرويد كان عالما كبيرا حقا، لكنه مثل ماركس الذي كان عالم اجتماع واقتصاد عظيم، كان له غرض آخر لا يزال، غرض لم يكن لدى دارون مثله: اراد أن يبدل العالم. وهو تحت قناع المعالج والعالم، كان واحدا من مصلحي العالم الكبار في بداية القرن العشرين.
الدكتور والمعالج النفساني العراقي الكبير علي كمال، له كتاب يعتبر موسوعة في التحليلات النفسية ولابد لكل من له المام بهذا الجانب قد يكون له نسخة من هذا الكتاب المهم، وهو بعنوان (الجنس والنفس في حياة الانسان) وفي هذا الكتاب اشراقات كبيرة يسلط فيها المؤلف الضوء حول التحليلات النفسية لدى المرضى النفسيين، وفي هذا الكتاب تأثيرات واضحة لفرويد على الدكتور علي كمال، وفيه مثلا يشرح ادوار النمو النفسي لدى الطفل، وكيف أن كمال يتطرق لها من خلال تحليلات فرويد، فيقول أن الحياة الجنسية لدى الطفل تنمو في عدة مراحل أو ادوار، وبأن اطلاق الطاقة الجنسية في الاطفال يأتي من عدة مواطن في الجسم، وبأن الطفل يتخلى عن هذه المواطن بالتتابع الى أن تصبح منطقة اثارة الشهوة الجنسية اكثر تحديدا في الكبر. اما المناطق التي تخلى عنها، ربما تكون سطح الجسم كله، فأنها في وقت لاحق تظل تثير الى حد ما، ما يشبه اطلاق الرغبة الجنسية. وعلى العموم فأن ذاكرة الفرد تعاف المناطق التي تخلى الطفل عنها وبشيء من الاشمئزاز، ولهذا فأن هذه الذاكرة تكبت، والاخلاق وشعور العيب، وغيرها من العمليات العقلية الشعورية العليا، لابد لها من أن تظهر مع اطفاء الجنسية الطفولية. وافترض فرويد أن الحياة الجنسية في الطفل، لا تظهر في الاطفال بطرفة نحو الشكل النهائي المعروف عند البلوغ، وانما تأتي على شكل سلسلة من الادوار المتتابعة لا تشبه بعضها بعضا. ثم يشرح علي كمال هذه الادوار الاربعة التي يمر بها الطفل بحسب نظرية فرويد.
على أن فرويد لم يبق يراوح في مكانه في الجانب التحليلي النفسي، بل كانت له اهتمامات أخرى في جوانب تتعلق بالثقافة والفلسفة والسياسة، وفلسفة الاخلاق. وقد كان يقول:” في شبابي شعرت بحاجة شديدة الى فهم شيء عن الغاز العالم الذي نعيش فيه وربما حتى المساهمة بشيء لحلها”. وفي سنة 1910 تأسست جمعية تهتم بالفلسفة والاخلاق أطلق عليها “الاخوة الدولية لفلسفة الاخلاق والثقافة” فأنضم اليها كعضو فاعل، وكان يقدم لهم النصيحة والمشورة، والرأي السديد. و فرويد هو اليوم عالما وطبيبا وفيلسوفا ومفكرا، وهناك الملايين من يتبعه ويؤمن بأفكاره ونظرياته، ولا تجد مثقفا حقيقيا الا وقرأ عن فرويد واطلع على كتبه، وتأثر بها البعض، وبتعبير آخر إن فرويد قد غير العالم بهذه النظريات والافكار التي طرحها.
وفاتـــــــه
توفى فرويد بمرض السرطان، هذا المرض اللعين الذي فتك بآلاف وربما بملايين البشرية، وقد حاول أن يخفي هذا المرض عن الناس، مرارا وتكرارا، لكن المرض قد انتصر عليه أخيراً.
وقد ترك فرويد ستة اطفال: ثلاثة من البنين وثلاثة من البنات، وصارت احدى بناته طبيبة أسمها آنا اشتهرت بعلاج الاطفال في لندن.
وقد لاقت نظريات فرويد فيما بعد وفاته الى الكثير من الانتقاد، لأنه قال إن معظم الامراض النفسية كانت اسبابها الكامنة هي اسباب جنسية بحتة، ولم يوزعها الى اسباب أخرى.