18 ديسمبر، 2024 11:57 م

حينما دلف مدرس اللغة العربية إلى صفنا(صف الثالث المتوسط/ اعدادية المسيب عام 1973) بلا مقدمات طلب منا جميعًا أن نضع دفاتر الإنشاء أمامنا ونستعد لقراءة أول إنشاء في بداية السنة الدراسية الجديدة.أخبرنا المدرس بأنه سيطلب من الجميع قراءة الإنشاء الذي طلبه منا قبل إسبوع امام الطلبة وسيُناقش موضوع الإنشاء من  قِبل جميع الطلبة.تمنيتُ في ذلك اليوم لو لم أكن قد جئت إلى المدرسة ولكن لاتتحقق الأمنيات في كل الأوقات. لم أكن أكره درس الإنشاء مطلقًا ولكن عدم تحضيري لذلك الإنشاء هو الذي جعلني أشعر بالخوف والحرج وربما العار . أعرف أن المدرس سيوجه لي كلامًا أشد من التوبيخ الجسدي وسيجعلني إضحوكة أمام الجميع,أو ربما يرسلني إلى إدارة المدرسة لأتلقى تعنيفًا من سيادة المدير.سيتم استداع الطلبة حسب الحروف الأبجدية وأنا أنتمي إلى الحرف الرابع من تلك الحروف وهذا يعني أنني سأقف أمام   الجميع بعد ثلاثة أولاد. كان دفتري ناصع البياض لم أخط فيه كلمة واحدة ولا أعرف هل سيقبل المدرس تبريري لعدم تحضيري للموضوع. أنا في ورطة من أمري حقًا وسأتعرض إلى الإهانة مهما قدمت من تبريرات.نهض الطالب الأول ووقف أمام الجميع  وراح يتحدث عن سفرته مع عائلته إلى مصايف شمال العراق ويذكر كل ما كان قد شاهده هناك.موضوع كلاسيكي يذكره الجميع عند أول انشاء بعد نهاية العطلة الصيفية. وتقدم الطالب الثاني وكان إنشائه عن عشقه لكرة القدم وكيف قضى كل أيام العطلة الصيفية يمارس لعبة كرة القدم وكيف كان يحقق انتصارات لفريقه داخل المدينة وخارجها,في حين راح الطالب الثالث يتحدث عن مساعدته لوالديه في الحقل وكيف كانوا يعملون من الصباح حتى المساء بلا كلل أو ملل.كان المدرس يضع علامه في نهاية كل موضوع ويعيد الدفتر إلى صاحبه.    في اللحظة التي سمعتُ فيها المدرس وهو يذكر إسمي أحسستُ بدوار شديد وشعرت أن الزمن قد توقف وان كل شيء داخل الصف قد تحول إلى لون ضبابي كأنني شارفتُ على لفظ أنفاسي إلى الأبد.حينما تاخرتُ في النهوض صاح المدرس بأعلى صوته”ماذا بك؟هل أنت نائم”. وأنا أتقدم نحو اللوحة الخشبية التي يقف عندها الجميع عند تلاوة مواضيعهم-الإنشائية –خطرت على ذهني فكرة كأنها شرارة من المجهول تحثني على قول أي موضوع مهما كان وأتخلى عن فكرة الإعتذار فربما تخفف عقوبتي أو يرأف بحالي-سعادة المدرس-ويتركني مع حزني الكبير(حزن رحيل والدي إلى العالم الآخر قبل أيام قليلة جعلت كل أفراد عائلتي ينتحبون يومًا بعد آخر) أو ربما أوصل من خلال إنشائي عتابًا للمدرس وللزملاء جميعًا أنهم لم يأتوا لبيتنا لمواساتنا. وقفتُ أمام الجميع وفتحتُ دفتري الفارغ من أية كلمة وجعلت عيناي تسافران على الأسطر الزرقاء وكأنني أطلب المعونة والمساعدة من كل سطرٍ فارغ.سألني المدرس عن إسم موضوعي الإنشائي ,قلتُ بلا تردد (رحيل والدي إلى السماء).صمت المدرس قليلاً ثم أردف قائلًا تفضل.في تلك اللحظة إنقطعتُ عن العالم بكل ماتعنيه تلك العبارة وقررتُ أن أتحدثُ إلى والدي بكل صدق”وداعًأ أيتها النسمة الجميلة وداعاً أيها الرجل الكريم أشد أنواع الكرم بالنسبة لي ولكل فرد من أفراد عائلتي التي صار عددها ثمانية بعد رحيلك الأبدي.لم يكن رحيلك مفاجئًأ لنا نحن افراد العائلة ولا لأصدقاءك في القرية النائمة قرب نهر الفرات.ستة أشهر وأنت تتألم بسبب المرض الخبيث ولا أحد منا يستطيع أن يخفف عنك عذاب المعاناة ليلاً ونهاراً. لا اريد أن أتحدث عن ألمك وعن ساعات البؤس التي كنتَ تعيشها لأنها تجعلني اذرف الدموع ولا أريد أن أكون ضعيفاً أمام الزملاء هنا.منذ أن أبصرتُ النور وأنا اسمع حكايات جميلة عنك ,كانت والدتي تحدثني عن حياتك وكل شيء فعلته من أجلنا كي نعيش سعداء رغم أن حالتك المادية كانت قريبة من خط الفقر لكن والدتي كانت قد عرفت كيف تتفانى من أجل توفير اشياء نحن في حاجة اليها.كنتَ تحملني على كتفيك حينما نذهب سوية إلى مناطق معينة وكنت تمنحني أشياء بسيطة لكنها بالنسبة لطفل تُعتبر كنوز تشبه كنوز الملك سليمان الشهيرة في الروايات القديمة.لا زلت أتذكر كل اللحظات الجميلة التي كنت توفرها لي.اذكر كيف كنت تعلمني ركوب الدراجة الهوائية وانت تركض خلفي وتمسكها كي لا أسقط على الأرض,وكيف كنت تعلمني السباحة في نهر الفرات في قرية آل عويف وكيف كنت تفعل اشياء واشياء لو اردتُ الحديث عنها لتطلب الأمر ساعات طويلة لتدوينها.يوم وفاتك كنتُ أنا الرجل الوحيد في البيت وعمري خمسة عشر عاماً. صرخت أمي (أبوك مات إذهب إلى البريد وارسل برقيات إلى شقيقك (ه) في الكوفة وإلى شقيقك الكبير(ش) في بغداد.ركضت الى الغرفة التي كان ينام فيها أخي (ه) أبحث في جيوب سترته عن أي مبلغ من المال فقد كنت لا أملك أي شيء من المال وكذلك والدتي.حينما وجدت مبلغ(خمسة دنانير)أخبرت والدتي التي طلبت مني على الفور الذهاب إلى دائرة البريد لأخبار شقيقاي بالفاجعة.في غضون دقائق كان كل ابناء القرية رجالاً ونساءًا واطفالاً يتواجدون في البيت وكل واحد منهم راح يقوم بواجب معين.لا أريد الخوض في تفاصيل دقيقة يعرفها الجميع عند حدوث فاجعة كهذه ولكن كل ما اريد أن أقوله هو”أنني شعرت بفراغ ولازلت اشعر حتى هذه اللحظة فراغ من نوع غريب.كل شيء يُذكرني بك في البيت والقرية وسوق المدينة ونهر الفرات وبساتين النخيل التي كنت تصطحبني معك حينما كان أبناء القرية يقطفون ثمار الأشجار وبقية المحاصيل الآخرى في زمن الحصاد.كانت عائلتنا تشاركهم كل شيء وكأننا من أقرباءهم المقربين.نحن العائلة الوحيدة الغريبة التي تعيش معهم ولكنهم يعتبروننا جزءا منهم.لا أعرف هل سنظل نعيش في نفس البيت والمكان بعد رحيلك أم سنعود إلى المدينة التي يسكنها أقرباؤنا,هذا ما سيقرره أشقائي ووالدتي.لا أعرف هل سأستمر في الدراسة أم ساذهب للعمل في أي مكان لمساعدة أمي وبقية أفراد العائلة.وداعًا والدي وستظل تعيش في روحي وقلبي مهما تقدم الزمن.  حينما أغلقتُ دفتري كانت هناك قطرات من الدمع تسيل على خدي .سرقت النظر إلى بقية الزملاء وشاهدت حالات واضحة من حزن كبير على وجوه كل واحد منهم. حينما سلمت الدفتر إلى المدرس ليضع لي العلامة التي استحقها, نظر المدرس إلى جميع الأوراق البيضاء وقد ظهرت على وجهه علامة حيرة كبيرة لكنه بلا تردد وضع على الورقة الفارغة علامة وهو يقول (عاشت إيدك انشاء رائع). تذكرت تلك الحادثة اليوم بعد أكثر من خمسين عاماً وأنا أطالع قصة باللغة الفارسية اسمها(زمستان سبز)أي الشتاء الأخضر للكاتبة(نورا حق برست) .