23 ديسمبر، 2024 7:55 م

دراما الموت و الحياة

دراما الموت و الحياة

الأنتفاضة والمسرح عنوانان لمشروعين مختلفين , يلتقيان في هدف التغيير , والرفض والأحتجاج . ولكنهما يفترقان في نواح اخرى منها الدوافع والأسباب والشخوص الذين ساهموا في كل من الأنتفاضة او المسرح . ولست بصدد المقارنة بينهما من ناحية المضمون او الشكل او الماهية , فالذي دفعني الى ذالك هو شاب عراقي شارك في الأنتفاضة بعمق , كما جسدها مسرحيا بنفس العمق . وانا اعني انتفاضة الشعب العراقي التي قامت في عام 1991 والتي انتشرت وشاعت بين اغلب ابناء هذا الشعب المقهور , من اقصى جنوبه الى اقصى شماله .لذالك فيمكن ان نسميها انتفاضة المقهورين . تلك الأنتفاضة التي اعادت للعراقيين شيئا من كرامتهم التي اهدرتها سلطة غاشمة , احرقت في مغامراتها المجنونة ثروات البلد وازهقت ارواح ابناءه فعاد الجيش المهزوم من الكويت ,تطارده حمم الطائرات الأمريكية لتبيده وتحرق آلياته . ساتناول احد جنود ألأنتفاضة المجهولين . وهو شاب شطري . كان يحلم كبقية الشباب بوطن عريض كالبحر , يتسع لكل ابنائه . كان يحلم بغد اجمل ,يستطيع ان يحقق بعض طموحاته التي طمرها تحت الملابس الخاكيّة . كان الشباب العراقيون يؤجلون كل مشاريعهم الحياتية الى غد لن يأتي , لأنّ الحروب تلتهمهم , وتُطفيء جذوة حياتهم  . ليث عبد الغني كان واحدا من هؤلاء .اخترته ليمثل شريحة من الأبطال المجهولين الذين حملوا قضيتهم وعراقيتهم من سبخة الناصرية , مرورا بصحراء رفحا والأرطاوية  ,حتى يصل الى ارض الجليد في السويد والنرويج .  كان يحمل حقيبته وهو يعبر جسر الناصرية الذي تحول الى ركام بعد ان هشمته الطيارات الأمريكية . لم يبق من الجسر الا بعض الهياكل الحديدية التي تسلقها الأهالي وصولا الى الضفة الأخرى .. ليث تسلقها ايضا قادما من وحدته العسكرية , وحالما اقترب من بهو البلدية , حتى انقضّت طائرة امريكية على ما تبقى من جسر الناصرية , فانصهر الكونكريت بالدم البشري الهارب . سيول من دماء الضحايا تلون الفرات . نافورات من الدماء الملوثة بالغبار تباغت النهر وتترسب في قاعه  ,في صراخ اهوج وكأن القيامة قد فتحت ابوابها .  بينما تعود الطائرة الأمريكية الى قواعدها في اراضي مشايخ النفط و لتسجل انتصارها على المئات من النساء والأطفال العُزّل .لقد بكى اهل الناصرية جسرهم  .وهم منهمكون في جمع اشلاء ضحاياهم , وكأن لسان حالهم , كما قالت الشاعرة لميعة عباس عمارة في رثاء احد جسور بغداد  الذي تعرض لنفس المصير       ( ضلعي أحسّه المنكسر , موش الجسر ) .
  لايدري كيف وصل الى الشطرة . كانت اشلاء الضحايا المتطايرة وصراخ المارة ورعب اللحظة يطارده في الطريق . وفي الشطرة وجد المئات من شبابها قد تهيؤوا لأنتفاضة الصبر الجميل .. في اليوم الثاني كان شباب اهل الشطرة قد سيطروا على المدينة . واصبح مقر حزب السلطة محاصرا, وكذالك مرافق الدولة . كانت الشعارات تدعو الى الأنعتاق من حكم الديكتاتورية, اصبحت الشوارع والمباني ساحات لمعارك مفتوحة . كانت تلك الأيام القليلة تسجل مأثرة من قيم التكاتف والتعاون بين المقهورين من شباب المدينة , التي كوتهم الحروب والمذلة . كانوا يسابقون الزمن ليعلنوا انتصار الأنسان على قوى الشر . كانت الأنتفاضة تنتقل كالهشيم بين البلدات المتناثرة والمدن . من الفهود الى سوق الشيوخ والناصرية والبصرة . وكان النظام المهزوم يسابق الزمن لأعلان معاهدة العار والأستسلام في خيمة صفوان . وكأنّ الأحداث تعيد عجلة التأريخ الى ايام كومونة باريس حينما انتصر الفتية الثوريون على سلطتهم المهزومة التي فضّلت الأستسلام للعدو الألماني على ان ينتصر المقهورون من الفرنسيين .  وهكذا فعلت سلطة البعث التي ساومت الأمريكان , واعطتهم كل ما يريدون من اجل ضرب انتفاضة الشعب العراقي  . وبعد ان اعطتهم امريكا الضوء الأخضر . اتى جيش السلطة وهو يجتاح المدن الثائرة بالحديد والنار . لقد كان لقطعان الحرس الجمهوري دوركبير في تطهير المدن  من الثوريين . مستخدمة كل اسلحة الحقد  الفتاكة التي عجزت عن مواجهة الأمريكان , ولكنها الآن تحصد ضحايا الشعب بدون رحمة .
 ورغم ان الأنتفاضة فشلت ولكنها كشفت الوجه البشع لسلطة صدام , كما اظهرت ان الشعب قادر على انتزاع حريته بنفسه  ,كما اسقطت الأنتفاضة الوجه القبيح لسيطرة دكتاتورية الحزب الواحد والرجل الواحد . ولأول مرة يتشكل الوعي الجمعي للناس . ولأول مرة يسمعون صونهم الذي كان خافتا , ويترنمون بأغانيهم واناشيدهم  . في هذه الفترة التي تعد بالأصابع والتي كانت قصيرة في قياسات الزمن , لكنها كانت عريضة في مضامينها الأنسانية . فلأول مرة يتشكل في الشطرة المؤتمر الأجتماعي الديمقراطي . واستطاع شباب المدينة التي حوصرت تأمين الغذاء والدواء للمرضى والجرحى والعائلات المغلوبة على امرها  .كان الشباب يجمعون الغذاء من البيوت لتوزيعه على المحتاجين , وقد وقف الكثير من ابناء المدينة موقفا مشرفا .  ومنهم غسان  شلاش  ,الذي كان له  دور كبير ومشرّف في حماية الدواء ونقله وخزنه في اماكن آمنة.  كما اثبت وطنيته ومهنيته في كونه يشتغل في المستشفى في معالجة الجرحى وتأمين الدواء لهم . وكاد ان يدفع حياته ثمنا لذالك . كان الكثير من المناضلين يسطرون البطولات في الأنتفاضة ومنهم الفنان سعد الصفار الذي سجل بكامرته تفاصيل الأنتفاضة , ولكنه قدم نفسه شهيدا دون ان يمنح السلطة الشريط , وبذالك انقذ الكثير من رفاقه وابناء مدينته .
  كان احراق بيت عزيز نومان رمزا لأنتصار المقهورين من ابناء المدينة على جلادهم , كما كان اسقاط مقر حزب البعث هو اعلان عن السيطرة المطلقة .ولكن الأنفلات الذي رافق  مثل هذه الحركات قد اضرّ بها فقد رفع البعض الشعارات الطائفية , كما اعلن البعض موالاته لأيران مما اضرّ ضررا فادحا بفحوى الأنتفاضة وقيمها الوطنية .
  دخل جيش السلطة مدينة الشطرة بعد ايام من القتال . وقد فتك بالمدينة واسر الكثير من اهلها , والذين غُيبوا الى الأبد في مقابر جماعية في اكبر مجزرة بشرية يقوم بها نظام حكم ضد شعبه في العصر الحديث .وقد سقطت المدن واحدة بعد اخرى.وكان لامفر من الهرب , فالموت يترصد الناس في كل شارع وبيت وزناد اسلحة الحرس الجمهوري مستعد لأطلاق رصاصات الموت .
  وجد ليث عبد الغني نفسه في الصحراء مع الكثير من الذين فروا هربا من انتقام النظام , حيث كانت القوات الأمريكية ترابط هناك . ومن هناك ادخلوا هذه الجموع الى الأراضي السعودية , التي اقامت لهم معسكرين بعيدين عن بعضهما . الأول : معسكر الأرطاوية , والثاني معسكر رفحا .. وكان ليث عبد الغني في المعسكر الأول والذي يتكون من عدة قواطع . واضعين كل 150 شابا في قاطع او شبك . ورغم انهم أدخلوا الى السعودية كلاجئين ولكنهم عُوملوا كأسرى حرب . وحالما ادرك الشباب العراقي انهم في هذه الحالة المزرية حتى بداوا بنضال آخر , لتأكيد هويتهم وللدفاع عن حقوقهم بوجه سلطة السجون السعودية ,التي ارتكبت بحقهم اقصى انواع التنكيل .
اول اضراب في المعسكر:
كان الأضراب يهدف الى فك القواطع والشبك  ,الذي يفصل اللآجئين عن بعضهم , وقد نجح الأضراب والغيت القواطع , مما جعلهم يلتقون ببعضهم ويكونون قوة لاتقهر بوجه سجانيهم  .
.وكانت المقاومة قد بدأت بترميم الهوية الوطنية وتزويدها بالوعي . لذالك فقد تطوع هؤلاء لتأسيس مدرسة لمحو الأمية و وندوات وطنية وفكرية وفنية , اضافة الى المحاضرات والنقاشات التي تدور حول الثقافة . وقد تكللت  هذه الجهود بانجاز مسرحية ومعرض فني . ولكن من اين يحصلون على الأدوات الموسيقية والأدوات الفنية . لذالك فقد استطاعوا ان يسخرّوا المواد البدائية لصنع خميرة الفن  . فقد صنعوا ادوات موسيقية من علب المعجون وعلب الحليب , والعلب الزجاجية والصفائح وادوات المطبخ , حتى الأوتار صنعوها من خيوط البطانيات والأكياس وعلب البلاستيك . وقبل تقديم المسرحية كانوا بحاجة الى بوسترات . وكان بينهم الفنان التشكيلي ( ثابت رسن ) والذي صنع الوانه من معجون الطماطة والكركم وشوربة الشعرية ومعجون الأسنان , واستطاع ان يمزج هذه الألوان ليصنع بوسترات جميلة كعنوان لمسرحهم , ولم يكتف الفنان ثابت رسن بذالك بل استمر في الأبداع الفني مستخدما هذه الألوان  ليبهر الجميع بانتاج معرض فني لأعماله . اما المسرحية فقد احدثت اثرا بالغا ليس في لاجئي المخيم فحسب وانما حتى حراسهم الذين ذهلوا لهذه القدرات الأنسانية التي تعمل المستحيل , مما حدا ببعضهم ان يتعاطف مع اللاجئين ويقدم للفنانين منهم آلة عود .
    ثمة مهمة تثقل كاهل سكنة ارطاوية وهي وجوب رفع قضية اللاجئين العراقيين الى الرأي العام العالمي . وقداعلنت حالة اضراب مطلبي من اجل السماح لهم بزيارة مدينة قريبة من المعسكر , كي يتزودوا باحتياجاتهم . وقد لبت ادارة المعسكر على مضض ذالك الطلب  الذي بدوره فتح افاقا جديدة لساكني ارطاوية ورفحا معا . حيث كلف اللاجئون زميلهم ليث عبد الغني بالأتصال بالميديا والأعلام العالمي.  اتصل ليث  تلفونيا بصوت امريكا / القسم العربي , وبصوت متهدج شرح لهم كل اوضاع اللاجئين وبشكل تفصيلي . وفي اليوم الثاني كانت مأساة اللاجئين العراقيين في رفحا وارطاوية تأخذ حيّزا كبيرا في الأعلام العالمي . ومن ثم فقد وصل صوتهم المكبوت الى دول العالم التي شكلت لجانها في محاولة لأستيعاب هؤلاء من دول اللجوء كالسويد وكندا وامريكا وغيرها . كما جعل السلطات السعودية  عارية امام العالم المتحضر .
    كان ليث عبد الغني من جملة اللاجئين العراقيين الذين تم قبولهم في السويد . وحالما حلّ في هذا البلاد الرائعة ,  حتى بنى جسرا بينه وبين رفاق دربه من اللاجئين , الذين مازالوا خلف اسوار النسيان في مخيم رفحا  . لذالك فقد بذل الكثير من الجهود لجلب الأهتمام من قبل السويد تجاه زملائه  . فقد كانت هناك جسور من التعريف بالقضية العراقية اضطلع بها هؤلاء الشباب الثوريون , الذين حملوا عراقهم على اكتافهم .
  لكي تكون عراقيا حقيقيا عليك ان تكون فردا متميزا وناجحا  . من الوهلة الأولى تعلم ليث اللغة السويدية  ولعله قد استفاد من نصيحة المغترب الأردني والذي عاش في السويد لسنين طويلة  والذي وصف له الأغتراب بالحقيبة التي يجب ان لانكدس فيها اشياءنا القديمة , بل يجب ان ننتقي ما يلائم الحياة الجديدة : وهي تعلم اللغة الجديدة والأندماج في المجتمع الجديد . وقد استفاد من هذه الوصفة السحرية , فتعلم السويدية وعمل في المجالات التربوية التي تحاول ان تؤكد على الثقافة السويدية مع الأحتفاظ  بالثقافة الأم للأطفال المغتربين .وقد استفاد من مفهوم ( الأمباتي ) او ما يسمى بالتقمص الوجداني  , في مجال عمله , تاركا للتلاميذ الصغار ان يتحاورا بشكل تلقائي للوصول الى المعرفة وتراكمها وتعلم اللغة أيضا  . وقد استغرقه هذا المفهوم وهو بصد الكتابة عنه للقاريء العربي .
  وحالما اكمل دراسته في المسرح , اراد ان يقدم عراقه الجميل مسرحيا . اختار ( علاء الدين والمصباح السحري ) كمسرحية فيها نكهة لبغداد المنسية , وفي هذا العرض المسرحي- الذي كان في مجمله يعتمد على التطوع – فوجيء في ان الكثير من الجمعيات الفنية والموسيقية والأجتماعية قد ساهمت , وبحماس في هذا العمل –  لقد كان عملا عراقيا / سويديا رائعا استطاع ان يرسم للسويديين معنى آخر للعراق , قدمه بفخر احد ابناءه . وقد حصل هذا العمل على جائزة ( مد جسور الثقافات لعام 1997 ). و حينما حقق هذا العمل الرائع نجاحا كبير في السويد , شجعه ان يقدم عملا عراقيا آخر وهو السندباد البحري . ورغم النجاح الذي حققه في اطار المسرح الأستعراضي الذي يذكّر المجتمع السويدي بحضارة العراق . لكنه لم يكتف بذالك . بل  اصبح مخرجا سينمائيا , ليس بالمعنى الهوليودي الباحث عن الشهرة , بل من خلال ابطال  حقيقييين يصارعون الموت الى حد التجمد , لكي يصلوا الى بر الأمان الأنساني !! لقد انتج ليث عدة افلام وثائقية تبحث عن هموم العراقيين الذين هربوا من الدكتاتورية والحصار , لكن بعضهم لم يحصد سوى الموت .
    لقد كان ليث عبد الغني معجبا ( بمسرح المقهورين ) والذي كان من افكار المسرحي البرازيلي الكبير  ( اوغستو بوال )والذي منح المسرح مفهوما آخر غير مفهومه التقليدي , الذي يعتمد على العلاقة بين المتفرج والممثل . فكما اسقط بررشت احدى جدران المسرح , فان اوغستو بوال نسف كل الجدران المسرحية , كما الغى الفضاء المسرحي التقليدي , ليبني منه فضاءا جديدا يعتمد على المشاركة الحقيقية بين المتفرج والممثل .وقد انطلق اوغستو من فكرة القهرمسرحيا,لأنه يرى ان الثقافة المسرحية التقليدية تبرمج المتلقي على ثقافة الصمت, فيصبح المتلقي مقهورا ومضطرا الى ان يقع في اسر قاهريه . ومن هنا تكمن لمسته السحرية التي جعلت من الجمهور محركا للحدث ومغيرا لمساراته ومنتجا له . لذالك فهو – اي المتفرج- يتخلص من صمته ويشعر ان صوته قادر على البوح بافكاره . لقد حمل ليث عبد الغني هذه التجربة المسرحية الى ابناء مدينته في الشطرة . وبعد ان تحاور مع مسرحيي المدينة ومثقفيها  .تم الأتفاق على أن يقدموا موضوعا عن التعليم الخاص والحكومي . وكانت التجربة ناجحة في استقطاب وتدخل الكثير من المتفرجين الذين انغمسوا في النص غير المكتوب . وشارك في الحوار حتى الأطفال والطلبة الذين احسوا ان الموضوع يعنيهم . لاشك انها ليلة مسرحية بامتياز لأنّ الكثيرين من رواد المقاهي تركوا رتابة احاديثهم اليومية وانسجموا مع الحدث المسرحي متسائلين عن فحواه وجذوره . وهكذا استطاع هذا الحدث الصغير في صياغته والكبير في مغزاه ان يحرك المياه الراكدة . لقد تناولت اسم ليث عبد الغني لابصفته بطلا او استثناءا , ولكن بوصفه شريحة ونموذجا  لكثير من الشباب العراقيين الذين غابوا او غيبوا في متاهات القهر والعنف واللوعة والذين اكلتهم الحروب او طمرتهم المقابر الجماعية .