23 ديسمبر، 2024 1:19 ص

دراسة نقدية براغماتية لقصيدة لوحة نجاة للشاعر العراقي/ شلال العنوز /

دراسة نقدية براغماتية لقصيدة لوحة نجاة للشاعر العراقي/ شلال العنوز /

تقدمها الناقدة البراغماتية السورية الدكتورة /عبير خالد يحيي/
أولاً: مقدمة :
“يبدو أن الأمهات في بلاد الرافدين يرضعن ولدانهن أدباً ” أقول ذلك في نفسي كلما قرأت شيئاً لأديب أو شاعر عراقي، ولا يختلف الأمر أبداً إن قرأت لأديبة أو شاعرة عراقية، وكأن بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة – وعلى سبيل المثال لا أكثر – قد توالدا بمتوالية عددية لا متناهية …
والشاعر الذي نحن هنا الآن  بصدد عرض قصيدته على شاشة النقد البراغماتي، هو واحد من هؤلاء الشعراء الفطاحل .
الشاعر المحامي  شلال العنوز عراقي الجنسية،  مواليد عام 1950، بدأ بكتابة الشعر منذ عام  1968، له حضور فاعل في المشهد الثقافي العراقي والعربي، يحمل دكتوراه فخرية في اللغة العربية وآدابها من قبل الهيئة العلمية في مركز الحرف للدراسات العربية في جامعة ستراتفورد الأمريكية لإسهامه في إثراء المكتبة العربية، ترجمت قصائده إلى العديد من اللغات العالمية، سيرة طويلة عامرة بالإنجازات، يضيق المكان هنا بسردها.
مساميره المعلقة على جدران  الأدب :
مرايا الزهور … ديوان شعر
الشاعر و سفرالغريب … ديوان شعر
وبكى الماء … ديوان شعر
حديث الياسمين … ديوان شعر مشترك
صدى الربيع … ديوان شعر مشترك
تحت الطبع :
السماء لم تزل زرقاء … ديوان شعر
امنحيني مطر الدفء … ديوان شعر
أيها المحتمي  بالأرق … ديوان شعر
عش الشيطان …رواية

اعتمدت النظرية البراغماتية في تحليل هذا النص, وارتأيت الدخول فيها من:
_ المدخل البصري :
ثانياً: مبحث الشكل أو التكوين البصري  ( البناء الفني والجمالي للقصيدة )
لم يعد خافياً على أي أحد ممن يعمل فيي حقل الأدب, أن النقد هو عراب الأدب, وهو الجملة القوانين والأنظمة التي يتنظم فيها الأديب والأدب على حد سواء, هذا اللّهم إن شاء الأديب أن يكون أدبه رصيناً ملتزماً برسالة الأدب الجادة, التي خلّدت غيره من الأدباء عبرعصور وأجيال مضت, وبالقياس ينبغي أن تخلّده أيضاً, النقد الأدبي فن وعلم معقد, يستلزم بعض الأدوات التي يجب توفرها لدى الأدباء من كتاب وشعراء, ويعتبر نقد الشعر بالتحديد أكثر تعقيداً من نقد الأجناس الأدبية الأخرى, حيث يتطلب من الناقد بالإضافة إلى تحليل النص، والغوص في أعماقه المخبوءة، يتطلب أيضاً دراسة موسيقاه الداخلية والخارجية, والوقوف على بحره وقافيته إن كان شعراً قريضاً, أو على تفعيلاته إن كان شعر تفعيلة, أو موسيقاه الداخلية إن كان قصيدة نثر, لذلك يجب على الناقد أن يمدّ بساطه النقدي التحليلي الشامل على كل التفاصيل الشعرية, ليخرج لنا التحليل الأولي المستوفي لجميع الشروط النقدية, من خلال المحطات التالية :

التجنيس الأدبي للنص:
إن النص الماثل بين أيدينا, والمعنون ب / لوحة نجاة / هو قصيدة نثرية, دلنا عليها الشكل البصري للنص,  واتساق جمل النص والألفاظ  والسياقات الشعرية …
قصيدة إنسانية وجدانية تحمل الهمّ الإنساني والوطني والمجتمعي, رمزية سياسية, بمسحة فلسفية  مالت إلى الحكمة الوعظية , تتبع نظرية الفن للمجتمع .

البيئة الشعرية في النص:
الشاعر بالنتيجة هو ابن بيئته, يعيش فيها, وتعيش في ذهنه وعواطفه, فتثير ملكته الشعرية , فينطلق معبّراً, مطلقاً العنان لدواخله, كاشفاً حالته النفسية, وما يعتريه من انفعالات, في هذه البيئة تتوالد إبداعات وإرهاصات الشاعر, وهذه البيئة هي التي تساهم في إخراج عمله الإبداعي ممزوجاً بأحواله الحياتية وتفاصيله النفسية وأفكاره المتقدة ,
بيئة جمّلتها الطبيعة الخلابة ببكارتها وبساطتها, وقبّحها فعل الإنسان,
بيئة بلد الشاعر, العراق البلد العربي الأصيل, موطن الرافدين والحضارات الثلاث السومرية  والبابلية والآشورية التي سادت قبل سبعة آلاف سنة, لكن .. الشاعر يتحدّث عن موطنه في الوقت الراهن, وقت عصفت فيه زوابع الحروب الطائفية البغيضة, وهو الشاعر الذي ينأى بنفسه عن كل مجرياتها, فيختار العزلة , وتتدفق تيارات فكره وعاطفته, ليرسم لنا لوحة القصيدة هذه.

درجة العمق والانزياح نحو الخيال :
إن النص هو قصيدة وجدانية بامتياز, فلا غرابة أن يكون فيها الخيال ضارباً في العمق, وهنا – وعلى مقياس العمق – بلغ النص درجات عليا ..
إن الخيال الذي أخذنا إليه الشاعر, وحلّق بنا إليه على جناح القصيدة, بلغ حدود انزياح قارب 95%…
تتجلى أهمية الخيال, حينما نرى كيف يبدع الشاعر في تصوير مشاهد مألوفة في حياتنا, لكن الشاعر يبث فيها الحياة والحركة, ويتخيلها على نحو فيه إثارة وطرافة …
لننظر إلى هذه الصورة الناطقة بكل لغات الوجدان :
أرقبُ دموعَ
حُزنِ أمّي
تَرسم خِلجاناً
على وجه القمر
نلمس إلى أي درجة حرف بها الشاعر مؤشرالصور الشعرية  نحو الخيال, في مشهد اعتدناه بالحياة العادية, دموع الأم الحزينة, التي انسابت مدرارة , حارة, بقوة أمواج ضارية تضرب صخور شاطئ وجهها القمري , فتحفر فيه خلجاناً هي أخاديد وجهها المنير .
بحرفية عالية, مزج بين الشاعر الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي, مما أكسب القصيدة حيوية و لهجة حميمية منعشة , نأخذ هذا المقطع من القصيدة مثالاً واضحاً :
أغلقتُ النوافذَ
عانقتُ يُتمَ وِحدتي

نلاحظ كيف استخدم الشاعر فعلاًإخبارياً مباشراً (أغلقت النوافذ ), الفاعل والمفعول به محسوس , أتبعها مباشرة بجملة إنشائية ( عانقت يتم وحدتي)  من جنس الفعل, لكن المفعول به مصدر غير محسوس, فجاء التركيب حياً, يضج بالحركة, والشاعرية , لنتصور ذلك التتابع, إغلاق النافذة حركة فعلية  بقصد الانعزل, يتبعها عناق وحدة, بالغ فيها بلفظة يتم .
استعان الشاعر بالأخيلة والصور التي نقلتنا لفضاءات يسرح فيها الخيال, وتحيا بها الطبيعة, وتتجسد المجردات , يطوّعها الشاعر بين يديه, أداة تأثير علينا, ووسيلة إقناع لنا بأفكاره

مجنوناً عاد إلينا
يلبس وِشاح
فِتنة  ليل
يقصُّ رأس
شمس الوئام
بمناجلِ
تَطرّفٍ أعمى
كي ينتحر
صُبحُ الندى
حيث غدا الليل وشاحاً يُلبس, والشمس رأساً يُقص, والصبح ينتحر …
ولم يغفل الكاتب عن زج عواطفه  وأحاسيسه وآرائه, ونظرته الخاصة إلى العالم, وإبراز ذاتيته.
وأنا شاعر
أعشق الحياة
بلا حدود
أحمل في قلبي
أسرارَ وادي (عبقر )
احتدامَ حُلْم (كلكامش)
صَبابة عشق ( عشتار)
أنشد مذبوحاً
في طرقات لَغوِ
السُّكارى
وكأنه يقدَم سيرة ذاتية, هوشاعر, يعشق الحياة, في قلبه كل العواطف والأحلام , في واقع يُذبح فيه كل شيء.
حرص الشاعر على تحسين الكلام , باستخدامه بعض المحسنات البديعية،
المحسنات اللفظية  (كالسجع والاقتباس ):
سجع :عنف القهر , جناية الفقر
اقتباس : ضمّن القصيدة شيئاً من القرآن الكريم:
-أن أكون بعضاً
من حطب الحطمة

-رُبّما إلى أن
تأذن (القارِعة):
-ببيتٍ أوهنَ
مِن بيتِ
العنكبوت
-أغرق في غياهب
جبّ القحط
والمحسنات المعنوية  ك (الطباق , ,حسن التقسيم , تأكيد المدح بما يشبه الذم)
-الطباق : نائماَ , يقظاً أظلّ
-حسن التقسيم : تقسيم البيت إلى جمل متساوية في الطول والإيقاع
تنامُ  في جَفنِ
جوع  الانكسار
عُنفِ القهر
جنايةِ الفَقر
-تأكيد المدح بما يشبه الذم:
المُصيبةُ انّي شاعرٌ
ومن حولي لايفقهون
سِرَّ نبوءة الشعر
والى الآن لايفقهون

حرص الشاعر على موسيقى النص : حرص في أثناء تأليف النص على موسيقى الألفاظ , والموسيقى الداخلية لهذه القصيدة النثرية المنسجمة مع مضمون النص…
أُدوّنُ تاريخ
مَخاضٍ يائسٍ
بحبر أجنحة
فراشات مَسبيّة
أمسحُ …
وَشمَ  مأساة
عاهر
بفرشاة انتظارِ
فجر مُبتلَع
نلاحظ الوقع الموسيقي الداخلية ( أدوّن ..أمسح ) ( تاريخ مخاض يائس ..وشم مأساة عاهر ),

_ المدخل اللساني Linguistic  Trend:
التي تبحث في الدال والمدلول التركيبي البنيوي , وتوابعة الاشتقاقية , أي دراسة اللغة المكتوبة , الألفاظ  و دلالاتها, و طريقة تلقي المتلقي لها وتجاوبه معها,  بعد أن خضعت لميكانيكية التميز في علم الكتابة والإملاء , تنتقل بعدها حسب التدرج المنطقي الذرائعي إلى حيز ميكانيكية التميز في القراءة والتفسير الصوري للنص المكتوب . ومن هذا المدخل نجد :
اختار الشاعر الألفاظ الفصيحة من قاموسه اللفظي الغزير, و نضدها في قصيدته, من غير إسفاف, وبعيداً عن الابتذال, حتى عندما بلغ في القصيدة مبلغ الغضب، لم يستعمل ألفاظاً دونية, بقي محافظاً على اللباقة الأدبية ( يلعن قرصنة أزمنة التسكع ), واستعان بالعديد من الألفاظ التي تعكس سعة اطلاعه, على ثقافات الحضارات السابقة , من أساطير إغريقية وسومرية وآشورية وبابلية, ووظفها في خدمة المعاني الشعرية في القصيدة ( صخرة سيزيف –مهر زيوس- حلم كلكامش-صبابة عشق عشتار… ) , ابتعد عن الألفاظ القديمة , اللهم إلّا الألفاظ التي اقتبسها من القرآن الكريم وهي ألفاظ جميعنا يدرك معانيها لا نحتاج المعاجم لتفسيرها ( القارعة – الحطمة – الجب ) , أتى بمصطلح مدمج بكلمة واحدة (صهيون + يهود =صيهود ), أظن أن لم يسبقه أحد إليه,  الألفاظ بالمجمل سهلة, لكن التركيب كانت من درجة السهل الممتنع , وقد حرص الشاعر على ترتيب جمل القصيدة بأعمدة وتنسيقات بصرية تناسبت وتلاءمت مع السسياقات الشعرية واللغوية, وهذا ما منح النص الشكل الذي يجب أن يكونه, متكاملاً شكلاً ومضموناً وموسيقا,  لا يسعنا هنا إلا أن نشهد للشاعر بسعة ثقافته, وذوقه العالي, وتمكنه اللغوي, فهو يستحق شهادة الدكتوراه الفخرية الحاصل عليها في اللغة العربية وآدابها.

الصور الشعرية :
الصور الشعرية في هذه القصيدة طاغية في كل مقاطعها, تنيرها الإضاءات الجميلة, وتتغشاها العاطفة, يتسيّدها الخيال بدرجة انزياح عالية, تسيطر تجربة الشاعر الشعورية وتبرز جلية واضحة، نلقي الضوء على بعض هذه الصور :
ألمُّ خَطوي
مُتمرِّداً
في طُرقٍ
مثقوبة الذاكرة

الشاعر متمرد,  يحاول لمّلمة ذاته المبعثرة في ذاكرة معطوبة .
أغرقُ في غياهبِ
جُبِّ القَحَط
أبتلعُ غُربةَ الحَمام
في مُدنِ
الصّقيع
وحيد في ظلمات الحرمان , غريب في صقيع الغربة .

5-التكوين الجمالي والبلاغي :
هذا التكوين يتشكّل من خلال الجرس الموسيقي, واستخدام المحسنات البديعية ( طباق – جناس- سجع – مقابلة – تورية- حسن تقسيم – ترادف – اقتباس ) لتقوية المعنى, ونظم إيقاع الجرس الموسيقي , وقد أشرت إليها سابقاً…
أنتقل إلى علم البيان ( التشبيه- الاستعارة – الكناية – المجاز المرسل )
لقد ألبس الشاعر الغير محسوس لباس المحسوس :

#عانقت يتم وحدتي :استعارة مكنية , جعل اليتم ( المشبه به, غير محسوس ) إنسان يُعانق ( محسوس)
# ألتَحفتُ عباءةَ وقت  يَتمَطّى مهزوماً :استعارة مكنية , جعل الوقت (المشبه به, غير محسوس) إنسان يتمّطى ( محسوس)
#  ألمّ خطوي متمرداً: استعارة مكنية, جعل الخطوات أشياء ملموسة يمكن لمّها .
# أرقبُ دموعَ حُزنِ أمّي
تَرسم خِلجاناً على وجه القمر : استعارة مكنية , جعل الدموع بطاقة إنسان يرسم .
# صرائف القصب أراها حاسرة تنام .. : استعارة مكنية , بيوت  تنام
# يستفرد بي سعال : استعارة مكنية

كما ألبس المحسوس ثوب غير المحسوس :
# أغرقُ في غياهبِ  جُبِّ القَحَط : استعارة تصريحية , جعل نفسه ( مشبه , محسوس ) يغرق في جب (القحط ,غير محسوس)
# يُشعلني تنّورُها
ساجراً بالزفير
يَلعنُ قرصنة
أزمنة التسكّع: استعارة , التنور يقوم بأفعال الإنسان , يشعل ويلعن
# أبتلع غربة الحمام : استعارة تصريحية , جعل نفسه يبتلع ( غربة الحمام , غير محسوس )
# أحصي لسعات مغارز القدر : استعارة تصريحية , جعل نفسه يحصي ( لسعات مغارز القدر , غير محسوس)
# استنشق رائحة الخذلان : استعارة
# أنادم فحيح طقوس افعى
#يدحرجني عناد صخرة ..
# أراقص احتفالات عري النجوم
# أبيع نفث قيلولتي
# ألتهم دروباً أفعوانات
# فجر مبتلع
# مجنونا عاد إلينا
# يلبس وشاح
# يقص رأس شمس الوئام
# ينتحر صبح الندى
# بلابل صهيود محتفلة

وكان التشبيه موظفاً في مكانه المناسب في عدة مقاطع:
# أن أكونَ بعضاً من حَطبِ الحُطمة : تشبيه تمثيلي , شبه الشاعر نفسه أنهم أرادوه  مثل قطعة حطب في جهنم
# أحتمي ببيت أوهن من بيت العنكبوت : تشبيه
# يبقى رأسي مشتعلاً بنار براكين القلق: تشبيه بليغ
# عاد بقسوة كواسج

الكناية :
# خلجاناً : كناية عن التجاعيد
# وجه القمر : كناية عن نور وجه الأم
ثالثاً : الموضوع  أو المضمون في قصيدة / لوحة نجاة/
وبعد السجال الجميل الذي دار بيني وبين جمهورجماليات القصيدة من شواخص حية والتمتع بالجنائن البصرية للنص، وتفحص جميع الزهور، وشم روائحها المختلفة ، عدت لإطاعة الذوق البراغماتيكي الذي تعمد النظرية ، احترام الشكل بدرجة المضمون فلا تلجا لكسر أي شيء فيه، فالشاعر الكبير الأستاذ شلال العنوز جعل التوازي في تلك القصيدة سباقاً، للعدو بين الشكل والمضمون ، مرة يغلب الشكل والأخرى يتفوق المضمون، فكل شيء في النص لا يستحق  الكسر، بل يستحق الاحترام والاهتمام والثناء، لذلك اعتمدت النظرية البراغماتية في تحليل هذا النص, وارتأيت الدخول فيها إلى المضمون من خلال المداخل العلمية التالية :

_ المدخل الاستنباطي Inference  and  Empathy  Theory :

أتقمص فيها شخصية الشاعر, باحثة عن المفاهيم والدلالات العقلية مكان حكمة وموعظة فلسفية واجتماعية وإنسانية, وأملك المقدرة على ذلك , كوني أملك  تجارب سابقة وحالية مشابهة لتجارب الشاعر, وقد جرّبت الحالة النفسية والانفعالية التي مرّ بها الشاعر وهو يكتب القصيدة, فأنا قد عايشت في بلدي ماعايشه الشاعر في بلده, من طغيان الظلم ,والحروب الغبية, والمتاجرة بالطائفية والأديان,  وانعدام الأمن , ووأد الحريات, واستفحال الفساد, وتكميم الأفواه , سيادة الجهل والتخلف, الخوف الذي عشش في العقول, والقسوة التي رانت على القلوب, والعزلة التي كانت المهرب خوفاً من الوقوع بالفتنة …
وما زلنا إلى الآن نتحسر على زمن غادَر …ونعيش زمناً مغادِراً… ونخاف من زمن آتٍ…
_ المدخل العقلاني  Mentalism  Theory:
مدخل الدلالات الفكرية المتباينة مع الأفكار الخارجية التي تحتل أيديولوجيات فكرية لفلاسفة أو كتاب كلاسيك, لهم تجارب إنسانية وأدبية متوارثة, وتكون بوابة التناص Texuality لتحديد الدلالات والبحث عن قرائنها , ومفاهيمها الخارجية المتوازية .لقد تناص الشاعر مع القرآن الكريم بمقاطع عديدة :
من حَطبِ الحُطمة- ساجرا- غياهب جب- أوهن من بيت العنكبوت –نذرا-القارعة –لا يفقهون- سرابيل )
تناص الشاعر أيضاً مع قصص الأساطير الإغريقية والسومرية والآشورية والبابلية ( زيوس – سيزيف –كاكامش – عشتار )….
كما تناص مع العديد من الشعراء العراقيين المعاصرين من بلده, والذين تغنوا بآلهة الحضارات القديمة التي سكنت بلاد الرافدين …..

البؤرة الاساسية الثابتة للنص(static core):
من صفات النص الرصين المتكامل للشروط النصية البنائية والجمالية، احتوائه على إستاتيكية وديناميكية التنصيص(texualization motion) في الأفكار والأيديولوجيات الإنسانية وحتى في الشكل البصري، فتلمس تلك محطة البؤرة الثابتة للنص(Static Core)، أيديولوجية الكاتب الأدبية والفكرية, ونظرته نحو مجتمعه، وتلك رسالة إنسانية يتميز بها الأدباء ، وبالخصوص، الكبار منهم، حيث تشكل تلك النقطة مرتكزاً ثابتاً، و بؤرة لا يمكن تغيرها أو التلاعب فيها نقدياً، فهناك من يكتب للفقراء وهناك من يلاحق الظلم وهكذا، وعلى الناقد المتمكن أن يثبت تلك المحطة ويقف عندها, ومحاكاتها وإبرازها بشكل يستحق, وقد تمركز الشاعر في نصه ( لوحة نجاة ) على رسالة إنسانية تشير إلى بشاعة الفتن الطائفية, وتدعو إلى الترفع عن الخوض في غمارها, لأن أوارها سيحرق الجميع, والاعتكاف والعزلة حتى يتبدّل الزمان والظرف, وهو بذلك يتبع قول الرسول الكريم :”إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم, وخفت أماناتهم , وكانوا هكذا: وشبك بين أصابعه, قال (الراوي): فقمت إليه فقلت له : كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك ؟ قال : ألزم بيتك , واملك عليك لسانك , وخذ ما تعرف, ودع ما تنكر, وعليك بأمر خاصة نفسك, ودع عنك أمر العامة “. وصدق رسول الله, هذه كانت البؤرة الثابتة للنص, ومنها سينطلق نحو التنوع في مخبوءات النص ودلالاته السيميائية والرمزية, وتفصيلاته الأخرى، التي تقع تحت المتغيرات المتحركة وهي المحطة التالية:

الاحتمالات المتحركة في النص(Dynamic Possibilities):
ومن تلك المحطة ، ينطلق الناقد المتبصر بمجريات النص الداخلية وملاحقة حلقات الأفكار المتصلة فيما بينها بالتحليل, وجمع الأفكار(Assess)، واللهاث خلف الدلالات والرموز والأفكار المتعاقبة والمكملة لبعضها ، فيسلك سلوك صياد اللؤلؤ، كلما غاص عميقاً كان صيده وفيراً ودسماً، لذلك يعثر على الأفكار المتدرجة, والتي لا تفضي للتناقض كما يظنها دريدا، فلو كان الأديب صاحياً لما يكتب رمزياً من دلالات فحتمية الوعي النصي تقتضي ألا يقع في شرك التناقض في الأفكار في نص واحد داخلياً، بل يكون التلاحق النصي يسير بين مسلكين متوازيين و بحبكتين كما يحدث في النصوص المدروسة رمزياً، الحبكة الأولى، إخبار صريح، والأخرى، دلالية مخبوءة، وهذا معنى ما يقصده دريدا، كسر التوازي بين الحبكتين يقود نحو التصادم الفكري فيما بينهما، ونحن نسميه بالتناقض الفكري، فالاستمرار بتحليل جزئيات النص يقود نحو الخروج من النص نحو صحراء العدم، وهذا شيء مناقض للواقع العلمي المادي  ودخوله في ميتافيزيقيا الأشياء، اعتبارياً، فالنص شيء من تلك الأشياء, فلا شيء يفضي إلى العدم ولا شيء يخلق من العدم، وإنما ممكن أن تتغير الأشياء, وتتحول من حالة إلى أخرى، وبإختصار وبعد قيام الناقد بتحليلاته الداخلية لمفاصل النص, وصيد ما تيسر من الأفكار، التي لم تكن حتى في ذهن الكاتب و المتلقي، يقوم بتقييم تلك المعلومات ودراستها (Evaluate), ويوظفها بشكل مرتب حسب تفاصيل النص، وكأن الناقد يكتب النص من جديد بأفكار جديدة، وهذا ما نعني به نقدياً بالاحتمالات الديناميكية (Dynamic Possibilities), أي العثور على أفكار تتوالد بشكل تلقائي، من عقلانية وتكامل النص وتلاقح أفكاره, وتلك السمة التي تسمى بالرصانة أو الحبك في التنصيص، لذلك يسمى الكاتب المُجيد لتلك الظاهرة النصية بالنصّاص، وهو نعت يضع الكاتب بمكانة سامية في التعبير الأدبي الرصين….
وهنا ألقيت بدلوي, وجاهدت ليبلغ القاع, بدأ الكاتب القصيدة بعنوان ( لوحة نجاة ), من تتبع القصيدة من العنوان سهل عليه اقتفاء أثر الأفكار التي توالدت في قصيدة الشاعر, لنتفق أنها لوحة ستكثر فيها الخطوط والألوان والظلال, وتبدأ خطوطاً أولية أو رئيسية, بقلم رصاص بدرجة باهتة, رسم فيه ظلال الفتنة وقراره الحكيم بالاعتزال, ثم انساب القلم مع انسياب عاطفته وتداعي أفكاره, وغياب وعيه في ذاكرته المثقوبة بأزاميل الزمان, يلمح وجه أمه القمري وقد نحتت سيول دموع الحزن  فيه أخاديد, تبدأ عواطف الشاعر بالاشتعال غضباً, فينحّي قلم الرصاص, ويستل قلماً بلون ناري, يتوهج كتوهج تنور أمه , يشعل بداخله ناراً, ينفث دخانها زفيراً محرقاً, يلعن بحنق وندم ما فات من أزمان لهو وغفلة, حال جميع البشر العصاة يوم لا مفر , ولات حين مندم, يوم يغرق الإنسان في شح عمله, لا زاد ولا زوادة, ويعود الإنسان إلى غربته, لا أنيس ولا وليف, يقتات برد الوحدة, و يحصي سياط الغدر في دنيا الحيرة والغفلة, يبدل الشاعر القلم , يأخد قلماً برأس رفيع جداً, ولون دخاني يرسم فيه الهروب و الخوف والغباء, هروب إلى ملجأ واهٍ , مكشوف ضعيف البنية, بلا دعائم , اوهن من بيت العنكبوت, هي نفسه وذاته الضئيلة, التي ما تغذّت إلا على الهوان, وما تنفّست إلا رائحة العوز والخيبات, هناك في مواطن الفقر ومنازل الصرائف, هناك يسكن الجوع والفقر والقهر والعنف  والهزيمة , ويستبد بالشاعر الشعور بأنه منفي, رغم كثرة أشباه الناس, أصحاب البلادة, ومن حصد الصمت أصواتهم, كما يحصد الجذام طوابير البشر, ثم يرسم الشاعر جبلاً, في أسفله صخرة, وعلى سيزيف أن يدحرج الصخرة صعودأ حتى يصل القمة, وهناك تتدحرج إلى الوادي وعليه بحكم العقوبة التي فرضها عليه الإله زيوس أن يعيد رفعها إلى القمة, إن من يتجرأ على على خداع إله الموت ثاناتوس, يعاقب إلى الأبد, إشارة واضحة إلى العقوبة المؤبدة التي ينالها من يتحدى السلطة, السلطة الطاغية هي فقط من يحق لها أن تحكم بالموت على كل الرعية, وليس لأحد من الرعية أن يتحداها, لذلك .. يرائيها وينافقها كل من خافها, هي أفعى تغني فحيحاً, وعلى الرعية أن تهتز طرباً, وتشهق إعجاباً !! لا أدري هل هذا نفاق أم تقية ؟
سؤال يجيبنا عليه الشاعر, تقية, بل أيضاً يحضر نفسه لتقديم قربان إن لزم الأمر, والأرجح أن يلزم, يذكرني ذلك بمثل دارج مفاده ( إن أردت أن تتقي عضة كلب مسعور, ارمِ له قطعة عظم يلتهي بها عنك ), كل ذلك حتى يبقى الرأس بمنأى عن صدور حكم ممهور بحكم آلهة السلطة, بقطعه, وليبقى هذا الرأس هائجاً ببراكين القلق, مصلوباً بعذابات الانتظار والترقب والبؤس, وإلى قيام الساعة,  ينتقل الشاعر إلى زاوية أخرى من اللوحة, زاوية ملونة بكل ألوان الطبيعة البكر, يرسم عليها صور الأحلام , بساتين الرمان ينشد فيها قصائده, مرايا تعكس المواسم بألوانها, يتنقل فيها محلقاً في فضاء يرسمه بلون البنفسج,والبنفسج زهر جميل فيه حميمية حزينة . يقترب من كوكبة الدب الأكبر, وهنا  يدخل الشاعر تأثيراً صوتياً على المشهد المرسوم بالألوان, صوت عزف موسيقي وحركة حيّة صاخبة , رقص واحتفلات تقيمها النجوم …
و يعود من حلمه, تعتصره الحسرة ليؤكد أنه شاعر, غريب كغربة الأنبياء في جهالة قومهم, لا يعقلون أن الشعر رسالة يبلّغها الشعراء, كما يبلّغ الأنبياء رسالات الله .

يعود الشاعر في الجزء الثاني من قصيدته, إلى هذا الزمن المغادر ليخبرنا ما كان يفعل في ماضيه القريب وحاضره الحالي, حياة الشقاء الإنساني   يتغابى , يتغافل, يصمت, لأن الكلام جريمة يعاقب عليها قانون التكميم , شبهة مردية, تطحن فيها الحياة, وهو شاعر يعشق الحياة, فكيف لا يصمت؟ وهي عبقري الفؤاد , تحيا في قلبه الحياة بأحلام كلكامش , وعشق عشتار, إن نطق, نطق كالمذبوح, ينشد أغانٍ كلغو السكارى, غير مسؤول وغير موزون,  لا وقت للراحة, وقت القيلولة يشتريه شقاء الظهيرة , لقمة العيش التي يجري عليها طوال النهار والليل , خوفاً من مخالب الفقر والعوز, يلتوي في طريقها سالكاً كل السبل, إن كان له أن يدوّن التاريخ لأرّخ للكثير من جرائم السبي والاغتصاب , ولمسح وصمة العار عن  كل عاهر, بفرشاة مؤجلة , لحين اقتراب انبلاج فجر أمل ابتلعه الليل طويلاً, يشير إلى انتفاضة  أطاحت بطاغية, ولكن الزمن  المغادر لم يغادر, بل عاد مرة أخرى, شيطان  تدثر بأثواب ودروع  موت , بقيت السلطة أفعى , فقط غيرت جلدها, و لون دماء ضحاياها, كان الدم أحمر قانياً, يخص عروق صاحبه, الذي يُقتل مُعزّزاً بفرديته, لكن السلطة الجديدة غيّرت اللون إلى الأحمر الداكن , قتل جماعي , ذبح لا يراعى فيه الذبح الحلال , فتختنق الحياة في العروق الغضة, بسكاكين تحملها وحوش خرجت عن جنس البشر, عاد الزمن يرتدي سواد الفتنة الطائفية, تجتز رأس الوئام بتطرّف أعمى , لتبور الأرض, وينتعش اليباس, حروب غبية , لا منتصر فيها إلا الجوع والموت, موت الضمير في الأقاصي ،لا يحتفل فيها إلا بني صهيون, هناك من جزرالشتات و اليأس والقنوط , بدأت بلابلهم  تغرّد لحن أمل بوطن منشود!  من رحم الوجع جنين ينظر المخاض , يراقبها مشدوهاً وهي تلتقط حبات مسبحة أمه المفروطة لترسم منها لوحة نجاة !
الله ! انفرطت مسبحة أمة العرب, تساقطت بلدانها حبة حبة, وانقضت عليها طيور صهيود ,مناقيرها الصغيرة تستطيع التقاط الحبات المنفرطة, لتصنع منها لوحة نجاة بأمل منشود, قارب اليأس والقنوط , ومن يرى ذلك ؟! جنين في رحم الوجع ينتظر مخاض أمة أنهكها الأنين ..والجنين من الأطهار , وإلى الآن لم يولد الأطهار , هم عالقون بعنق رحم تقلّص في مخاض طال ..طال كثيراً , الطاهر في خطر كبير , لوحة النجاة ليست لنا !!!هي لعدونا المشترك الذي غفلنا عنه, والذي نما كمستعمرة سرطانية, لا أحد بالوقت الحالي يستطيع التكهن بإمكانية استئصالها ..تحذير مخبوء .
سأكتفي  بما اصطدت من الأفكار في صيدي هذا, وأترك الباقي للماورائيات، فالأهم أن يبلغ كمية من الاحتمالات الأيديولوجية الرسالية، التي أبرز فيها النص وأختلف فيها مع الآخرين من النقاد والمتلقين، تحسب معها شكلانية النص, وهذا يكفي أن نضع النص نقدياً في تدرج الفائدة الإنسانية ….

الخلفية الأخلاقية للنص أو الثيمة :Theme or Moral Background وتمتاز كل النصوص و الأعمال الأدبية الرصينة برمتها على موضوع خاص يبنى عليه النص بشكل كامل، كأن يكون سياسي أو اجتماعي أو إنساني، يلاحق السلبيات ويثبت القوائم الأخلاقية في المجتمع, وذلك هو واجب الأدب والأديب الحقيقي الرصين، ويشترط أن يلتزم الأديب بقوائم الأخلاق والمثل الإنسانية العليا، ولا يحق له التعرض لمنظومة الأخلاق العامة, والأديان والأعراف والقوانين بشكل هدام، حيث يشترط أن ينضوي الأديب الرصين تحت خيمة الالتزام الأخلاقي, ويخضع لمقومات مذهب التعويض الأدبي (Doctrine of Compensation) , وهذا المبدأ يفرض على الأديب الالتزام بالقواعد الأخلاقية المنظمة في المنظومة الأخلاقية العالمية، ولا يسمح -على سبيل المثال- أن يشيع في نهاية عمله الأدبي نفاذاً للمجرم من العقاب, أو ينزلق من طائلة القانون مهما كانت شدة ذكائه، أو يؤيد مصطلح الجريمة الكاملة، بذلك يساهم الأدب بإشاعة الفوضى والإرهاب في المجتمعات، وهذا منافي تماماً لأهداف الأدب الإنسانية السامية، بل يبحث عن ثغرة ليجعل الرجحان دائماً لكفة العدالة، ولا يجوز أن يتعرض نص من النصوص  لكاتب في أقصى الشرق لعرف يحكم، ولو مجموعة صغيرة من الناس تسكن في أقصى الغرب من المعمورة، لذلك يجب أن يكون النقد هو الحارس الأمين لتلك التجاوزات الأدبية الهدامة، التي تخترق بنية الأعراف والقوانين والأخلاق لعالمنا بكل طوائفه وأجناسه, ولا يعد أدبياً من يخترق منظومة الأخلاق والأجناس والطائفية، وينشر العداء والفرقة  بين الناس…

لا أبالغ إن قلت أن المضمون هو الهدف الأساسي الذي ينظر إليه الناقد، ويستعجل الخطوات باتجاهه, فهو يتلهف لمعرفة أيديولوجية الشاعر, و استراتيجيته الفكرية , واستشفاف رسالته الإنسانية, حيث أن القيمة الخالدة للنص الأدبي, وبالتالي قيمة الأديب , تحددها الأفكار والرسالة الإنسانية والمجتمعية التي يحملها النص, ومدى قدرة  المعنى على تقديم معرفة جديدة إلى مداركنا,  بالإضافة إلى قوة تأثيرهذا المعنى في نفوسنا …
ولا غلو إن قلنا أن الشعر الذي يخلو من فكرة قيّمة في مضامينه, لا يعد شعراً, لا ينبغي غلى الناقد تناوله بنقد, لأنه شعر تافه…

ومن خلال استعراض الأفكار الجزئية التي بثّها الشاعر في نصه , والتي ترابطت فيما بينها لتكوين الفكرة الكلية التي قامت عليها القصيدة
والشاعر في هذه القصيدة كان شاعراً رسالياً وجدانياً بامتياز ملحوظ , شاعر وإنسان بحق, يندد بكل الجرائم المرتكبة بحق الإنسانية, هذا بالعموم , أما بالخصوص فهو شاعر  وطني مجتمعي , يوجعه حال وطنه , وما آل إليه حال مجتمعه, التناحر والحروب الطائفية الغبية التي حرقت كل الطوائف بلا استثناء, فكان هو المتنحي الحزين , والمعتزل الحكيم الذي التزم بوحدته اتقاءً للفتنة …

حركة المعاني في المضمون : تأخذ المعاني في المضمون النصي للعمل الأدبي , وفي دواخل النص اتجاهات مختلفة تحددها مقاييس محدد’ كما يلي :

-1مقياس الصحة والخطأ :
لم يورد الشاعر في قصيدته أي معلومة خاطئة, سواء أكانت تاريخية أم لغوية أم علمية,أم أسطورية, وليس ذلك بمستغرب من شاعر يملك إشهارات وشهادات كثيرة في مجالات ثقافية عديدة …
-أختبئ …
عن قسوةِ سُعار
حَرِّ التِّيهِ
ببيتٍ أوهنَ
مِن بيتِ
العنكبوت
-يُدحرجني عِناد
صخرة (سيزيف )
-أدنو من عَزف
لألاءِ  (بنات نعش)
-كي لا يغضب
ظلُّ الآلهة
بفرمانٍ يحمل
مَهر (زيوس)
-2مقياس الجدة والابتكار :
قد أختلف مع غيري من النقاد الذين قد يرون أن الشاعر في هذه القصيدة قد صاغ معان شعرية معروفة سبقه إليها الكثيرون , ولكني بالحقيقة أراه قد أتانا بمعان شعرية طريفة, وهيئة الطرافة فيها أنه أتانا بها مجتمعة في لوحة واحدة !! زخم من المعاني , قد يكفي بعضها لتنضيد قصيدة أوأكثر , ولكنها هنا منضدة في قصيدة واحدة ..كانت آخر ضربة فرشاة فيها مفاجئة وصادمة …!
في  أنحاء قصيّة
من جُزُر القُنوط
بلابلُ صَيهود  مُحتفلةً
تغرّد أنشودة أمل
سَيعود
من رحم
أنين الوَجع
كنت أُراقبها
مبهوراً
وهي تلتقطُ
بمناقيرها الصغيرة
حبّاتِ
مسبحة أمّي
المفقودة
لترسم منها
لوحةً نجاة
-3مقياس العمق والسطحية :
المعنى العميق هو المعنى المُساق بدلالات رمزية ومعنوية عالية التأثير, تجعل الخواطر والأفكار تتداعى في عقل الناقد , مُثارة بالأعمدة والرموز السيميائية التي يستشفها الناقد من موجودات ومخبوءات النص, يستمد الشاعر عمق معانيه من موهبته وتميزه, داعماً هذه الموهبة بالثقافة المكتسبة, والملكة الذهنية والفكرية التي اجتهد على تنميتها ومدّها بالعلم والمعرفة, والمطلع على أعمال الشاعر شلال العنوز لابد أنه لمس ذلك …
تكون الأبيات عميقة المعنى إذا اعتمدت على الحكمة, التي تمثل اختزال قدر كبير من التجربة الإنسانية, وتقديمها في عبارات موجزة بليغة, ولنا في الأمثلة التالية خير دليل على حكمة الشاعر وعمق معانيه:
*عندما أرادوني
ذات يومٍ
في زمن مُغادرٍ
أن أكونَ بعضاً
من حَطبِ الحُطمة
أغلقتُ النوافذَ
عانقتُ يُتمَ وِحدتي
ألتَحفتُ عباءةَ وقتٍ
يَتمَطّى مهزوماً
حكمة الانعزال في زمن الفتنة ..وانتظار الوقت المناسب للنهوض…

*المُصيبةُ أني شاعرٌ
ومن حولي لايفقهون
سِرَّ نبوءة الشعر
وإلى الآن لايفقهون
الإعراض عن الجاهلين …
*في زمن مُغادِرٍ
كنتُ أفتعل
غَباءَ التّغافُل
كي لا أقول
ففي الكلام
تكمُن  شبُهاتٌ
في الشبُهات
مطحنة نهاية
الحذر من قول أو كلام في زمن  ومكان غير مناسبين, تكون نتيجته الموت قتلاً.
-التجربة الإبداعية في القصيدة :
إن الانفعالات  والعواطف التي اعتملت في صدرالشاعر , و نقلها لنا الشاعر في قالب شعري هي هذه القصيدة, والتي نلمس جدّيّة عمقها وصدقها و وضوحها , هي مختصر لكل ما يبتغيه الناقد الذي يروم الغوص في أعماق القصيدة بغية نقدها, والسؤال الحاسم والقاطع الذي يرتئيه الناقد مقياساً لتقييم إبداع الشاعر, هو : هل أضاف هذا النص شيئاً جديداً إلى مخزوننا الأدبي المبدع الذي تزخر به مكتبتنا الأدبية العربية التي تصطف على رفوفها روائع  امرؤ القيس والفرزدق  وجرير والمتنبي والخنساء والجواهري وأحمد شوقي ونزار قباني و محمود درويش , نازك الملائكة وأحمد مطر و…. غيرهم من عمالقة الشعر ؟
لنكن أكثر تحديداً, هل لنصنا هذا صوته المتفرّد بين النصوص المميزة لشعراء معاصرين ؟
أقول, وبكل حيادية وبلا محاباة, نعم …
ألمح عند شاعرنا إضافة جديدة متفرّدة تعلن حقاً أن الإبداع لا حدود له …
– درجة العاطفة في القصيدة :
إن من يقرأ هذه القصيدة,  سينفعل أمامها وجدانياً, فإما أن يميل إليها أو ينصرف عنها و تبعاً لما يحب أو يكره , وأظن أن قلة يمكن أن تعزف عنها, وخوفاً من أن تسود مزاجية الناقد في الحكم على العاطفة في أي قصيدة , كان لزاماً أن تكون هناك مقاييس نقد خاصة بالعاطفة يستخدمها الناقد ليبني حكماً عادلاً, وهذه المقاييس هي :
-1مقياس الصدق والكذب :
وهذا يتبع الدافع الذي دفع الشاعر إلى كتابة قصيدته, فإن كان حقيقياً فالعاطفة صادقة , والمحفز في هذه القصيدة حقيقي, فرضه حقيقة وضع المجتمع الذي يعيش فيه الشاعر , كما فرضته التجارب الشخصية والمواقف الحقيقية التي عاشها الشاعر أثناء إبداع القصيدة .
لذا فالعاطفة في هذه القصيدة صادقة .
-2مقياس القوة والضعف :
هذا المقياس يعتمد على مدى تاثير هذه القصيدة في نفس قارئها, إن هزت وجدانه , كانت عاطفتها قوية , وإن لا فهي ضعيفة, لذلك فإن قوة العاطفة, تتبع أمزجة وطبائع الناس وأمزجتهم, هناك من يتأثر بالرثاء وهناك من يتاثر بالغزل, وهناك من يتأثر بالفخر والمدح وغير ذلك …لا يشترط أن يكون المعنى بطولياً, ولا أن تكون الألفاظ قوية, حتى تكون العاطفة قوية, على العكس نجد أن بعض الموضوعات الحنين والحزن والألم  يعبر عنها بكلمات دافئة ورقيقة, وقد وجدت ذلك واضحاً في هذه القصيدة, هي قصيدة حزينة فيها أسى وحسرة, وحنين إلى زمن جميل, يقارنه الشاعر بزمن مغادر يناوشه بكل مغارز الغدر والظلم .
(يتم وحدتي – وجه القمر – رائحة الخذلان …..
وتقسو ألفاظه عندما يغضب (ساجراً بالزفير – يلعن قرصنة أزمنة التسكع –عنف القهر – جناية الانكسار……)
وقد هزتني هذه القصيدة فعلاً وزلزلت المستقر من وجداني .
– الموسيقى الشعرية الداخلية :
هذةه قصيدة نثرية, لذا لن أبحث فيها عن الأوزان الخليلية, ولا التفعيلة, بل فقط الموسيقى الداخلية .
وتتأتى الموسيقى الداخلية من ذلك النغم الخفي الذي تحسه النفس عند قراءة النص النثري ,وهو ما ترتكس له النفس بإحساسات متباينة,  فهناك نغم يبعث على الحماس، وآخر يبعث على الكآبة والحزن, وثالث قد يثير فينا الحنين, ولو بحثنا عن مصدر هذا النغم لوجدناه في حسن اختيار الأديب لكلماته, وحسن تنضيده لها, انسيابية حروفها بدون تنافر, بحيث يسهل النطق بها, وتنتظم بجريان نهر ثابت السرعة بدون عوائق أو كسور , ولا يتمكن من ذلك إلا شاعر ذو ثقافة واسعة, وذوق فني راقٍ , لديه معجم لغوي ثري جداً.
إن القصيدة هي من الشعر النثري الغنائي الوجداني, الذي كثرت في حروف المد, كون حقل الحزن هو الغالب ( أرادوني  – مغادراً- وحدتي – غياهب –سعار – بلادة – فحيح- انكسار- خاسرة- جنائز- سعار- العنكبوت- مثقوبة ……)
وقد عمد الشاعر إلى تكرار بعض الألفاظ  بغرض نظم الموسيقى , عدا عن أنه يساعد الأديب على التوسع في المعنى , كذلك التكرار يساهم بقوة في إحداث نغم الموسيقى الداخلية للنص …( في زمن مغادر – تكمن شبهات في الشبهات –أنا شاعر – أشهق …أشهق )
التقييم الرقمي الساند : Supporting digital analysis
وليتسنى للناقد إسناد تحليله على جدار نقدي علمي قوي، عليه أن يختبر(test) تحليله بجمع جميع الدلالات الحسية، والأعمدة الرمزية وتحليلها، ثم حسابها رقمياً، ليثبت رجاحة الدلالات وموازنتها، مع بعضها البعض وتحديد درجة الميل لكل واحدة منها، بذلك يكون قد أسند آراءه النقدية رقمياً وحسابياً بأحكام رقمية بحتة لا تقبل الشك, وتزرع اليقين لدى كل متلق أو ناقد,
قمت بجمع الدلالات الحسية بعد تحليل الأعمدة الرمزية وحسابها

دلالات حسية إيجابية :

احتفالات ( فرح )  : 4
شدو وغناء : 4
حلم :5
عشق :2
حياة : 2
شهيق :  3
أمل :2
جمال: 2
أمي: 2

المجموع : 26  وحدة حسية إيجابية

تقابلها دلالات حسية سلبية :

حزن : 2
يتم : 1
غربة :2
موت :7
زفير : 1
غضب :2
غدر : 1
حيرة ومتاهة : 3
استبداد وقهر : 5
فقر : 4
جوع : 2
هزيمة :4
خوف:3
أفعى :4
عتمة : 3
دم و ذبح :7
يأس :3
نار : 7

مجموع الدلالات الحسية السلبية :61
بعملية طرح حسابية بسيطة:
61-26=35
النتيجة غلبة للدلالات الحسية السلبية على الدلالات الحسية الإيجابية بنسبة عالية , ما يشير إلى أن الشاعر في هذا النص مستقر في حقل تشاؤمي بكل دلالاته.
دلالات  الحكمة والفلسفة :
اعتزال ووحدة :4
زمن :4
آلهة : 2
الآخرة : 2
أوهن بيت : 1
تغافل : 2
لا يفقهون : 2
صمت : 3
المجموع : 20
ويذلك نحكم أن الشاعر وجداني  متشائم من الواقع في ماضيه القريب و الحالي , يميل إلى الحكمة والفلسفة, والقصيدة وجدانية حزينة يغشيها الهم الإنساني والتشاؤم والحسرة والحيرة, توشيها الفلسفة بخيوط من الحكمة الوعظية, ورسالة إنسانية تدعو إلى نبذ الظلم و الحروب الطائفية البغيضة التي ابتليت بها البلدان العربية, بجهل من أنظمتها الاستبدادية المتخلفة, ولا يجد منتصراً في هذه الحروب الغبية إلا الكيان الصهيوني الذي يتجدد فيه أمله المنشود في وطن بأرض الميعاد, تندرج القصيدة تحت نظرية الفن للمجتمع.
رابعاً: النهاية:
أنهي دراستي هذه , وأنا على يقين من أنني كنت أستطيع أن أخوض فيها أكثر, فالقصيدة غنية بالكثير من المعاني والصور, وقد قضت النظرية البراغماتية التي أعمل وفقها, أن نولي القشرة الجمالية للنص الأدبي العربي ما تستحقه من اهتمام, وعندما ننتهي من التمعن في جمالها وأناقتها, ننتقل إلى المضمون لسبر أغواره وكشف مخبوءاته, ونحرص حينها على رفع هذه القشرة بحذر شديد, وكأننا نرفع ورقة غلاف زينة عن هدية, نبتعد عن همجية كسرها كما يفعل داريدا, لأننا نحن  العرب نحب كل شيء جميل, ونحرص على الاحتفاظ  به, ننفد إلى المضمون بتحليل أولي ونكتفي بذلك, ونترك باقي الصيد للماورائيات, فنحن لا نروم التفكيك المستمر الذي يشظّي النص, بل ويخلق فيه الشروخ والتناقضات, وحاشى للنص العربي أن يصبح متناقضاً في ذاته ..
ومن هنا جاءت النظرية الذرائعية البراغماتية, تحفظ النص العربي بشكله ومضمونه, وتنأى به بعيدأ عن الشروخ والتناقض.
تحياتي إلى الشاعر المبدع الأستاذ شلال العنوز، الذي تألق في هذا النص كما في غيره, أتمنى أن أكون بدراستي هذه قد وفقت بتسليط الضوء على بؤر الإبداع الكثيرة التي سكنت هذه القصيدة.
كما أتوجه بالشكر والتقدير إلى المنظّر الأدبي القامة الأستاذ عبد الرزاق عوده الغالبي مؤلف النظرية البراغماتية التي اعتمدتها في دراستي التحليلية هذه.

الناقدة البراغماتية
د. عبير خالد يحيي

نص القصيدة النثرية :

لوحة نجاة
نص / شلال عنوز

(1)
عندما أرادوني
ذات يومٍ
في زمن مُغادرٍ
أن أكونَ بعضاً
من حَطبِ الحُطمة
أغلقتُ النوافذَ
عانقتُ يُتمَ وِحدتي
ألتَحفتُ عباءةَ وقتٍ
يَتمَطّى مهزوماً
ألمُّ خَطوي
مُتمرِّداً
في طُرقٍ
مثقوبة الذاكرة
أرقبُ دموعَ
حُزنِ أمّي
تَرسم خِلجاناً
على وجه القمر
يُشعلني تنّورُها
ساجراً بالزفير
يَلعنُ قرصنة
أزمنة التسكّع
أغرقُ في غياهبِ
جُبِّ القَحَط
أبتلعُ غُربةَ الحَمام
في مُدنِ
الصّقيع
أُحصي لَسعات
مَغارز الغدرٍ
على سفوح
متاهاتٍ
مستبدّة الأشواك
أختبئُ …
عن قسوةِ سُعار
حَرِّ التِّيهِ
ببيتٍ أوهنَ
مِن بيتِ
العنكبوت
أستنشقُ رائحة
الخُذلان
عند بوّابات
منازل الطينِ
صرائف القَصبِ
فأراها حاسرةً
تنامُ  في جَفنِ
جوع  الانكسار
عُنفِ القهر
جنايةِ الفَقر
يستفرِدُ بي
سُعالُ المَنفى
رغمَ كثرة
أشباحٍ
مُكتظّةٍ بالبَلادة
حَولي
وطوابير من موتى
جُذام الصمت
يُدحرجني عِناد
صخرة (سيزيف )
أُنادمُ فحيحَ
طقوس أفعى
أشهقُ …أشهقُ
حتى ينثرَني عُتوُّ
ضَباب العَتمة
على مَحاريث
مآتم اليَباب
لكنّي لا أُخفيكم
سِرّاً
كنتُ أُهيّءُ
ساقيَّ الاثنَين
أو أحدَيهِما
نَذراً
كي لا يغضب
ظلُّ الآلهة
بفرمانٍ يحمل
مَهر (زيوس)
ليبقى رأسي
مشتعلاً
بنار براكين
القلق
مُبحراً أظلُّ
في مَشاحيف
بُؤس انتظارٍ
مصلوبٍ
على حافّاتِ
مياهِ التَشظّي
رُبّما الى أن
تأذن (القارِعة)
كنتُ أروم التّسلّلَ
إلى احتفالات
بساتين الرّمّان
أشدو أهازيج القصيد
في مرايا المواسم
أطوف في عَبثيَّة الحُلْم
أُحلّقُ مَسحوراً
في فضاءات تواشيح
دُنياً بنفسج
أدنو من عَزف
لألاءِ  (بنات نعش)
أُراقِص احتفالات
عُري النجوم
المُصيبةُ انّي شاعرٌ
ومن حولي لايفقهون
سِرَّ نبوءة الشعر
والى الآن لايفقهون
(2)
في زمن مُغادِرٍ
كنتُ أفتعل
غَباءَ التّغافُل
كي لا أقول
ففي الكلام
تكمُن  شبُهاتٌ
في الشبُهات
مطحنة نهاية
وأنا شاعر
أعشق الحياة
بلا حدود
أحمل في قلبي
أسرارَ وادي (عبقر )
احتدامَ حُلْم (كلكامش)
صَبابة عشق ( عشتار)
أنشد مذبوحاً
في طرقات لَغوِ
السُّكارى
أبيع نفثَ  قَيلولتي
لشقاءِ الظهيرة
حَذراً من سطوة
مخالب الغيلان
نائماً يقظاً أظلُّ
ألتهم دروباً
أُفعواناتٍ
كي لا ينطلق
شهيقٌ محذور
فيُصادره صدى
ملوّثٌ بالدم
أُدوّنُ تاريخ
مَخاضٍ يائسٍ
بحبر أجنحة
فراشات مَسبيّة
أمسحُ …
وَشمَ  مأساة
عاهر
بفرشاة انتظارِ
فجر مُبتلَع
لكنّ  الزمن
المُغادر
عاد تارة
أُخرى
بنكهة شيطانيّة
بسرابيل موت
مغيّراً جِلده
بلونٍ
داكن الحُمرة
بعدما كان لونهُ
القديم
أحمرَ قانياً
عاد بقسوة كواسِج
تماسيح
أفاعٍ
يُقطّع بسكّين
باتِرة
عُنق شريان
الصباح
يلتهمُ …
طراوة الأسماك
يُصادرُ …
رَفيف الطيور
مجنوناً عاد إلينا
يلبس وِشاح
فِتنة  ليل
يقصُّ رأس
شمس الوئام
بمناجلِ
تَطرّفٍ أعمى
كي ينتحر
صُبحُ الندى
ويشتدَّ
أوارُ اليَباس
عاد محمولاً
على أكتافِ
قهرٍ مُريع
حروبٍ خاسرة
أفواهِ مجاعات
يمتهنُ …
شهوةَ توديع الجنائز
قتلَ زهو الجمال
موتَ عِفّة  الضمير
في  أنحاء قصيّة
من جُزُر القُنوط
بلابلُ صَيهود  مُحتفلةً
تغرّد أنشودة أمل
سَيعود
من رحم
أنين الوَجع
كنت أُراقبها
مبهوراً
وهي تلتقطُ
بمناقيرها الصغيرة
حبّاتِ
مسبحة أمّي
المفقودة
لترسم منها

لوحةَ نجاة