سيناريو المشهد المرجعي و شعرية ما وراء الدال المروي
الفصل الثاني ـ المبحث ( 1 )
توطئة :
الشعر في أسفار و ملحمة مشروع قصائد ( هواجس أصحاب الحسين ) ليس أمرا استهلاكيا للتفاعل الحقيقي في أشتغالات منتج الرؤية الشعرية لدى الشاعر علي الإمارة ، بل أنها تأسيسات تفردية و متفردة في الصور و التخييل و التركيز الدلالي المنتج في معرض القابلية اللغوية التواصلية و وجهات تحاور جميع مراكز منطقة (الخطاب=الدال=مساحة الفاعل المنفذ) وبهذا الصدد وجدنا العملية المرجعية للحادثة المروية في نص الشاعر ، وكأنها حقيقة واقعة في مجال فاعلية التأسيس وصولا إلى وظيفة جديدة من التخييل و الإضافة التفاضلية المنبعثة من باطن علاقة اللامعلوم من جهة المصدر التأريخ إلى المعلوم من جهة مقولة الشاعر و القصيدة . إذن نحن إزاء خصوصية ما في ماهية علاقة الأثر المؤول بمحمول النص الملفوظ ، على هذا النحو نعاين استثنائية وحدات الدلالة الشعرية ، وهي تستقدم عيناتها المرجعية ، دون أن تتوقف بوصف حالات من الحادثة المروية ، كحقيقة وثائقية في أبعادها المقولة ، بل أن مبدعها الكبير الإمارة ، جعل منها مستحدثات في متون طليقة من سفر المتخيل و فاعلية ما وراء الدال المروي . نقرأ ما جاءت به قصيدة المشهد الأول ( مسلم بن عقيل ) عليه السلام ، وهو في طريقه إلى مدينة الكوفة :
يلوحُ على الأفق وجهُكِ
حلماً بعيداً
و أرنو إلى نخلِكِ المشرئبِ
فأسمع همسَ الرمالْ
و ألمحُ فوق بيوتِك أزمنةً تتعرى
و لهفةَ عشقٍ قديمٍ
و أدعيةً…
و سؤالْ . / ص9 المشهد الأول : مسلم بن عقيل
القصيدة و منذ بدايتها المقطعية تمارس طقوس مخطوطتها الذاكراتية و بالمحفوف الحسي المركز ، حتى تصل بالمقاربة الشاهدية المكانية (الكوفة) إلى منطقة الحلمية المتفاعلة و أفق جملة البدء ( يلوح على الأفق وجهك .. حلما بعيدا ) وتزامنا مع حدود هذه الجملة نعاين بأن ضمير الروي ينتقل إلى ضمير النموذج في سياق المتن ، ليظهر من خلال الملفوظ سردا أحواليا واصفا ، لمستحضرات الأمكنة في مدينة الكوفة ، وعبر فعالية تشخيصية خاصة في جمل المقاطع ( و أرنو إلى نخلك المشرئب .. فأسمع همس الرمال .. و ألمح فوق بيوتك أزمنة تتعرى .. و لهفة عشق قديم .. و أدعية .. و سؤال ) فالظاهر الموضوعي في هذه التمفصلات المقطعية من أحوال الجمل ، تكشف لنا حال المروي بات ملازما إلى آنوية ( مسلم بن عقيل ) ذاته ، فمن خلال شواهدية و علامة النص ، نتلقى قصدية الاشتغال النصي المتناوب عليه من قبل لوحة القصيدة من جهة و متن الدلالة المرجعية من جهة أخرى أكثر وصولا بالمروي على لسان حال النموذج ذاته .
ـ مؤولات النص تكشف عن محنة الصورة التأريخية .
من خلال وجه هذا المفصل نكتشف بأن وحدات القصيدة ومؤولاتها تضعنا إزاء فواصل و مدارات من المساحة الجديدة في الرؤية إلى واقعة و حادثة النموذج مسلم أبن عقيل ، وذلك عند دخوله إلى مدينة الكوفة ، في حين أننا في مقرر المصدر التأريخي ، لا نعاين سوى محنة كبيرة في مساحة الفعل و التفاعل البيني في موضوعة وعلاقات الحادثة . و بقدر ما تغنينا الوثيقة التأريخية من هوية الحقيقة ، إلا أنها لا توفر لنا تلك المساحة المرادة و الأشباعية من الملامح الجادة في رؤية الحقيقة ذاتها ، ولكننا عندما نطالع تقنيات الخطاب المشهدي و الدلالي في مركبات قصيدة الشاعر ، تنكشف لنا مؤولات شيقة و زوايا أكثر إشراقا و تواصلية في سيرة و هوية الموضوعة الخاصة في النموذج التمثل بمسلم بن عقيل ، و على النحو الذي يقودنا على مستوى علاقة تفاعلية حميمة مع روح التغييرات في شكل أزمنة و خلفية حادثة النص . لنقرأ هذا الجزء من مقاطع القصيدة إلحاقا :
أتيتكِ يا كوفةَ لبوعدِ
يصحبني قمرٌ نازفٌ بالحنين
و يداهمُني منكِ ليلٌ ثقيلٌ
كأن الوصولَ اليكِ محالْ .. / ص9 المشهد الأول : مسلم بن عقيل
الحس المنادى ( يا كوفة الوعد ) يفتح السياق الشعري على ذاتية الموضوعة و على الذي ينقله إلينا المستوى المشهدي في حدود الحيرة و الترقب و الشوق و الإثارة في آن معا ( أتيتك يا كوفة .. يصحبني قمر نازف بالحنين ) حيث تمسح ذهنية الشاهد في الوقت نفسه ، على استقرائية ملامح مخالفات و متوافقات هذه المدينة الضد منه ( و يداهمني منك ليل ثقيل ) أي أن حالة قد تبدو خروجا عكسيا على ما قدم به الشاهد بدءا ، عندما كان يحمل في صدره لها آمال و أشواق لاهبة ، إذ أن الراوي يكشف لنا عن ما يحمله ليل هذه المدينة من خفايا مكر و غدر و شرور و معارك و شقاق أهلها إليه ( و أطوي المدى مثقلا بالرسالة و الرفض ) و تأخذ العين الشاهدة وعد مصيرها بمعيق إشكالي يضعنا في فضاء من المعطى الإقراري المثقل بأصطدامية المبدأ و العقيدة الرافضة و المصارعة لأجل تحطيم أصفاد الطغاة ( كأن الوصول إليك محال / أحمل في داخلي فورة .. و اشتعال .. تعانقني في الخفاء أياديك .. تهفو الدروب إلى قدمي .. و يهتف بي نبض قلبك .. هذا دمي .. فتعال ) .
ـ الانفتاح على الخارج ثم إقفاله في مقولة المصير .
بعد أن تبلغ الصورة المرجعية بالنموذج مسلم بن عقيل أشد عنفوانها نعاين علامات المشهد الثاني الذي يتمثل بأحتماء مسلم بن عقيل من بطش طغاة أهل الكوفة في دار امرأة تدعى (طوعة) في مدينة الكوفة ، حيث نتعرف من خلال هذا المشهد على جملة مؤثرة من إدائية التحول بالنموذج مسلم بن عقيل وهو في قعر دار تلك المرأة :
تدورُ عليكَ الدوائرُ
حتى يضيقَ الزمانْ
لماذا تداعى جدارُ الولاءِ
و أين اختفتْ كلُ هذي الحشود
فيا أيها الركبانْ
انزلا السرجَ من فوق ظهرِ الزمانْ
وبيعا حصاني
وقولا لفجركِما
أن يعودْ
فالمدى هاهنا
نهارٌ كسيحٌ
و ليلٌ جبانْ . / ص11 المشهد الثاني :: مسلم يحاصر في دار بالكوفة
أداة التحول في مصير النموذج ،راحت تقدم المزيد من جدل فاعلية المصدر و المتخيل الذات و الآخر المشاهد و الخبروي ، الخارج و الداخل ، و بهذا التركيز الدلالي يتوقف النموذج الدال في متن و دلالة الصفة الاستيعابية الجادة في مواجهة الآخر ، بما يعادل المعادلة الحجاجية التي تمتحن مواقف النموذج إزاء شرور جهة الآخر من الموقف و المصير (لماذا تداعى جدار الولاء .. و أين اختفت كل هذي الحشود ) فالخطاب هنا حالة من الاشارة من جهة النموذج إلى مدى انشقاق و انسحاب الناس من الصلاة و الولاء في مظهر التوحيد ، و يوغل التساؤل نحو أقصى حالاته عمقا و تكثيفا في جمل ( فيا أيا الراكبان .. أنزلا من فوق ظهر الزمان .. و قولا لفجركما .. أن يعود ) ولا شك أن دلالة الاحتمال ب (الراكبان ) إلى موضع وجود الملائكة الحفظة فوق أكتاف النموذج حرزا إليه من شياطين الأنس ، ولكن الاستجابة من النموذج غدت بإيعاز الرحيل و العودة لهم عن هذا الزمان ، إقرارا بخراب و فساد الزمان في مقرر جملة ( وقولا لفجركما .. أن يعود ) و بهذا التمثل من المعطى لدى النموذج ، نتعرف بالتجربة الروحية و العرفانية بما يباشرنا فيه بالقول المحقق من خراب هذا الزمان و فساد أهله : ( فالمدى هاهنا.. نهار كسيح .. وليل جبان .. ألنا فبلة أم لنا قبلتان ؟ .. رأيت النخيل يصلي ورائي .. رأيت على كل باب .. بريق عيون الذئاب ) و إذا ما استجابت الخلائق العاصية للولاء و النور ، فلا شك أن من يقوم بفرائض العبادة استجابة للخالق الحق ، كل نباتات الأرض و الدواب ، و يتمثل جدل الشقاق في جملة الاستفهام ( ألنا قبلة أم لنا قبلتان ) و تبلغ الاداة الاستفهامية مبلغها في علامة الملفوظ في النص ، تحقيقا لإستجابة دوالية مقنعة و ظاهرة في عنفوانها و ثورتها الكبرى في المواضع الأخيرة من القصيدة : ( سمعت نشيج الدروب أنين القيود .. يبوح بأن : .. لا أمان لكم .. لا أمان ! ) و على هذا الحيز من انتاج المكون المشهدي و التعقيد في فكرة محاصرة النموذج عند واقعة تكالب أهل الكوفة عليه في دار المرأة ، نشاهد عبر محاور المشهد الثالث كيفية توقف مسلم بن عقيل مكبلا بالقيود فوق سطح قصر الإمارة ، قبل طعنه من قبل عبيد الله بن زياد و يرمي بجثته من فوق القصر ، و في هذه اللحظات الفاصلة و الواصلة ما بين مسافة الطعن و السقوط من أعلى القصر ، أخذ مسلم بن عقيل ينظر إلى الناس أسفل القصر ، قائلا على لسان حال قصيدة الشاعر :
أرى في الوجوهِ ملامحَ قد
مسحتْها الرياحْ
تواريخَ بعثرَها الحقدُ
تحت ظلالِ الرماحْ
أرى في الوجوهِ
مواسمَ من ندمٍ و بقايا صياحْ./ص13المشهد الثالث:مسلم فوق قصرالامارة
و أمام هذه المواجهة الملحمية المزلزلة ، والتي تحملنا نحو النظر بمأساوية قصوى إلى درجة المظلومية و القهر في ملامح النموذج التمثيلي ـ مسلم بن عقيل ـ فيما تؤكد من جهة ما القابلية الشعرية لدى الشاعر ، على حجم ذاتية الموضوعة و مقصديتها المؤثرة في فضاء المنتج القولي : (التصدير الذاتي ــــــــــــ أرى في الوجوه / : ـ التصدير الغيري ـــــــــــــــــ مواسم ندم .. وبقايا صياح / : ـ تواريخ بعثرها الحقد .. تحت ظلال الرماح ـــــــــــــــــ الإشكالية المتمحورة في صورة الآخر ) فيما تكتنز المواجهة المصيرية من قبل النموذج الشعري إلى مساحة لا حدود لها في بياض التأويل : ( سأهوي عليكم شهابا قتيلا .. يدا حاولت أن تلم الصباح ) ثمة علاقة مسندة إلى دال ( الصباح ) توحي إلى أن النموذج كان بمثابة الوحي الذي حاول جمع شتات القوم أو بصورة أدق من أنقاذهم من جحيم كفرهم و ظلماء غدرهم ، مثلما كان بدرجة ما يسعى إلى الكشف عن ظلماء القلوب الظالة بنور الحق ( سأهوي عليكم شهابا قتيلا ) و بمعنى ما يبدو بلوغه عليهم إحقاقا و حقا : ( و أبصر خلف ملامحكم .. زمنا من نواح .. و ) و تتمثل واو المضاف بالاشارة الخفية أو هي من ضمن جملة مبنى المحذوف المضاف الذي غدا في مقام لغة المسكوت عنه :
الحسينُ هنا
والحسينُ هناك
و ما بيننا
أفقٌ من جراحْ ./ ص13
تتبين من هنا أن قضية أصحاب الحسين ، هي المركزية المجانبة لأقصى درجات معاضدة كفاحات الحسين و بلوغاتها المصيرية العظيمة في العلامة الكونية المنتفضة في وجه أشرس أساطين عروش الطغاة و تواريخهم الزائلة .
ـ تعليق القراءة :
لا يكتفي الفاعل الشعري في مبحث دراستنا حول مجموعة ( هواجس أصحاب الحسين ) ، بعملية الإداء النسبي في متن دلالة القصيدة ، بل أن فاعليته أضحت لنا مضاعفة بمثابة دور و مقام ثورة الإمام الحسين عليه السلام . أما شعريا فبات أمر مشروعية هذا المنجز الرائد ، يعد بمثابة التماثلية المتفردة في عوالم شاعرنا علي الإمارة ، فذا المنجز بذاته يظهر المنظومة المتكاملة في حسية هذا الشاعر التصويرية الواثقة ، حتى ليبدو لنا نصه الشعري شكلا من أشكال فنونه القولية الخاصة والمخصوصة في صياغة رؤيتها و استجاباتها لأكثر و أبرز حضورية الفضاء الشعري الذي راح يزاوج ما بين سيناريو المشهد التأريخي للحادثة المرجعية و مؤولات مساحة الانطلاقة الموضوعية الموفقة في أحوال و دلالات شعرية ما وراء الدال المروى من قبل الرواة و أصحاب السير و التحقيقات التأريخية .