29 ديسمبر، 2024 3:13 م

دراسة في مجموعة ( في درجة 45 مئوي ) للقاص محمد خضير

دراسة في مجموعة ( في درجة 45 مئوي ) للقاص محمد خضير

وقفة مبحثية مع قصة ( الحاج )
الفضاء الوصفي بين حياة الموصوف و بنية مواجهة الغياب
توطئة :
في سياق جملة تصعيد الشد الوصفي تباشرنا استنطاقات حالات الأشياء الموصوفة في جسد النص ، إذ تواجهنا زحمة ضغوطات الدليل الوصفي في حدود علاقات مكثفة من التسمية والاشارة و التدليل ، حتى تلامس مقدمات و مؤشرات إيمائية الاستجابة المكينة في معادلات و متواليات قبولات حضور عين الواصف الاستقرائية لحياة الموصوف في النص اختزالا كيفيا نحو تشكلات مساحة ذلك المحتمل في مواجهة دلالة المضمون الغيابي أو الفراقي أو الانفصالي في اعماق ما وراء القيد الانتقائي المرهون في صياغة تعددية المعنى في العلاقة النصية القصصية.

ـ مكانية سردية الواصف و عين الموصوف المتناقل .
أن عملية بناء الوصف النصي القصصي ، لربما هي قضية فنية غاية في التكثيف و التركيز الدلالي ، إذ أنها ترتبط في مجال كيفية إعطاء محددات من هوية النص ، ذلك بدءا من أولية دلالاته التكوينية و الإنشائية و النواتية ، وحتى مساحة مشكل و تشكيل محتواه التوسطي المتكون من عناصر عدة : ( العنوان ـ العتبة ـ الشكل ـ المتن ـ المضمون ـ الدليل ) وصولا إلى بؤرة المناط المدلولي الذي يستند عليه و فيه و من خلاله تفاعل النص إزاء استجاباته القرائية المتعددة في حيز التلقي و القراءة . بناءا على ذلك تواجهنا موجهات و مقدمات و مبنى قصة ( الحاج ) للقاص الأستاذ محمد خضير ، ضمن مساحة فضائية مختارة من رؤية المكان و أحواله و حالاته الشكلية و الصورية و البنيوية المحفوفة بحركية الوظيفة التصويرية الدقيقة . ففي مجال دلالات هذا النص ، نعثر على المبئر وصفا يتعدى مساحة الاحساس بالزمن و الشخوص شعورا استهلاكيا عابرا في جملة المقروء ، أي أن التشيؤ لحالات الأشياء فيه تأتي بموازاة الهاجس القرائي المعمق و الانطباع المدروس لموجودات ترسيمة الشخوص و حضورهم النسبي و الكلي في رؤية القص : ( تفاصيل ـ بعد أن أنتهوا من صلاة الفجر .. أوقد الحجاج نارا صغيرة في قطعة الحديقة المحاذية للنهر .. و تحلقوا حولها .. كانوا يرتدون العمائم البيض .. و لهم لحى طويلة متناثرة .. يزدادون اقترابا من النار .. و ينكمشون تحت جببهم الصوفية و سراويلهم الفضفاضة . / ص49 ) تتبين لنا مدى نسبية و كلية عاملية العناصر الشخوصية في النص ، و كأنهم أداة إيمائية / ظلية ، تسعى إلى توصيف و توثيق حالات الأشياء أو حالة الحادثة المنصوصة في نواة الدينامية الحكائية ، خضوعا منها إلى جملة تحولات هوية المكان و صفة زمنية مواقع القص . و إذا تأملنا المواضع الأخرى من النص ، لوجدنا ضمير الجماعة العائد للشخوص ، عبارة عن كيانات عاملة كمؤثثات شكلية في بناء النص ( تفاصيل ـ أحيانا يلتفون خلفهم إلى النهر و أحيانا إلى الرصيف الذي تفصله الحديقة عن النهر .. حيث ما يزال حجاج آخرون ينامون بكامل أرديتهم في كتلة واحدة أو يتفرقون في كتل متقاربة مبهمة تحت أغطية خفيفة . / ص49) قد تخضع محفزات الوصف الوضعية في النص ، إلى مكونات سببية من شأنها النهوض بالتسلسل و التتابع لحركات و هيئات أجساد الشخوص المتقاربة في أشكالها و هويتها و توجهاتها . فعلى سبيل المثال ، نعاين تمظهر مشهد الحجاج بالقرب من مكان مجرى النهر ، مما يدلل على أنهم على موعد للرحيل عبر سفينة من الخشب إلى مكة المكرمة ، كما و أن نموذج التوحد في حركاتهم المنتظمة ما يعبر عن تحرر كلا منهم من أفغان و شوائب النفس و الأهواء ، أنصياعا منهم إلى سكينة المقام المكرم صعودا . و تتمثل عامليات عديدة في سلوك و صفات و أفعال الحجاج ، على أنها تبدو كفواعل حاضرة في وظيفتي المراقبة / المراقب : ( تفاصيل ـ كان لهم جميعا تلك الهيئة الزاهدة المميزة للحجاج الهنود و البلوش و الأفغان و الأتراك اللذين يمرون من هنا في مثل هذا الوقت من كل عام .. و يمكثون يوما أو بعض يوم .. بانتظار تأشيرات المرور إلى مكة .. غادر أربعة منهم الحديقة إلى الرصيف .. و ساروا بمحاذاة سياج المقهى .. ثم دخلوا الساحة الخالية من الكراسي .. الواحد خلف الآخر .. و استندوا إلى حاجز المقهى المطل على النهر.. بمواجهة الفجر الذي ينبثق من وسط النهر .. من بيضة ضخمة طافية .. متحولا إلى ضباب خفيف و نسيم قارس و مويجات عريضة بطيئة تختفي في الضباب .. كما تختفي القوارب و أوتادها و بعض الزيت و النوارس . / ص50 ) و لا يمكن في تقديرنا القرائي ، إدراك أعمق و أدق و أبهى من قدرات هذه الآلهة الساحرة التي تدفعنا إلى قراءة ثبات و تحول و زوال مكونات الطبيعة ، و بكل هذا القدر من فاعلية الوصف و اشتغال ديناميت ( فضاء الواصف ) عبر مؤثرات شاشة عرضه الموصوف بمتابعة تغطية متخيله بهذا المقدار من باعث الحياة داخل أفق زمن الموصوف القصصي .

ـ الزمن الفاصل و متواليات رحلة الغياب المفترضة .

1ـ العمق التشكيلي في محاور حكاية المكان :
و تكتسب مقادير ( السارد العليم ) اشتغالات متنوعة من حيثيات المكان في النص ، و بذلك الوازع التصوري و التصويري ، حيث يعيد السارد حركات و تنقلات و نظرات الشخوص الحجاج في أرجاء المرسى القديم ، و في سياق من توظيفات خاصية علاقة المكان بمحاور الشخوص ، نعاين مؤطرات المادة المكانية ، و كأنها علامة تشكيلية بمقصدية الأبعاد الأيقونية القابعة في خزائن الزمن الامتدادي في النص : ( تفاصيل ـ ينظر الحاج على اليسار إلى شاحنة غاطسة و إلى رافعات حديدية معطلة و إلى جسر خشبي يمتد إلى مسافة على أعمدة في النهر .. ربطت في نهايته قوارب .. و ينظر الحاجان الآخران إلى النوارس و هي تتقدم و تتراجع .. هنالك دخان بعيد يتصاعد من نقطة مجهولة .. و عين خضراء تومض و تنطفىء في رأس فنار بعيد .. و تعلق نظرة الحاج الفتى بالقوارب المشدودة في نهاية الجسر . / ص50) هكذا تتابعا تتصرف المعادلة الشيئية المؤنسنة في أخيلة الناظر إلى المكان ، كما و تستخلص علاقتها الوجودية من أتون قصدية ( ينظر الحاجان الآخران إلى النوارس ـ تتقدم و تتراجع ) و في الجانب الآخر تتم مظاهر الرمزية المحققة في هواجس الحاجان ( دخان بعيد يتصاعد من نقطة مجهولة ) أرتباطا إلى جانب وحدة (ينظر الحاج الفتى بالقوارب المشدودة في نهاية الجسر ـ تتأرجح ) كما و بالمقابل من كل هذا تواجهنا علاقة التجاور مع حال شخصية الفتى في حادث غرق الجزيرة ( كانوا يتابعون كذلك أخييلة نحيفة في قوام القطن .. جرداء و مجنحة معتدلة و محدودبة ينجلي عنها الضباب .. فتنهض ماشية فوق سطح الماء .. ثم تغيب . / ص50 ) و تتضاعف رؤية المراقب و المراقبة في عين الواصف ، لتقدم بانوراما صورية ، تستهدي بواسطتها مرسلة الخطاب المسرود و تندرج ضمن أفقها التحويلي القرائن الأحوالية في مدار الموضوعة ( أبواب تفتح و تتهاوى بصمت فتتقاطر منها أفيلة الكهنة إلى شوارع بنارس .. و تتقافز القردة بين أمتعة المسافرين في ميناء بومباي . / ص50 ) .

2ـ الوحدات السردية بين ضمنية العلاقة و إيحائية المصير :
تشكل الوحدات الوصفية في قصة ( الحاج ) علاقة متبادلة ما بين بعضها البعض ، فهي تبدو في أقسام من النص ، عبارة عن محمولات صورية منقوشة في وحدات مستقلة على جدران و أبواب سفينة الحجاج المتجه إلى مكة المكرمة ، ومنها ما يبدو عليه أمرها كعلاقة وظيفية مشحونة بمحاور التقابل و التفاعل في نمو مستحدثات الشخوص في موجهات المكان و الزمان ، إقترانا لها مع جهة أخرى من وحدات النص في موضوع البحث ، إذ يتبين لنا بأن الحجاج الثلاثة قد تفقدوا غياب رفيقهم الفتى من صفهم ، ذاهبا هذا الأخير بالقارب نحو جهة غير معروفة من النهر : ( في نقطة من النهر كفى الحاج عن التجذيف .. و ألتفت إلى الخلف فشاهد رفاقه يقفون خلف حاجز المقهى .. كان تيار بطيء يدفع القارب .. فلم يعاود التجذيف / كان الحجاج يلتحفون بأوشحتهم و عباءاتهم على ظهر السفينة المبحرة على خط الهند ـ البحرين ـ البصرة ، و عندما ساقت ظلمات البحر الهندي المدمدمة أفراس ريح باردة . / ص51 ) قد نتوخى من فاعلية المقاربة هذه ، العلاقة ما بين منظر الحجاج فوق ظهر السفينة المبحرة وسط زوابع ظلمات رياح البحر و أهوال استثمارات القاص الاستعارية ، المتمثلة في حال هذه الوحدة السردية : ( الريح رعاة سماويون يسوقون أبقارا هندوسية في سهوب السماء ) و بالمقابل من هذه الوحدات الواصفة للحجاج في غرف السفينة ، نواجه مصير الحاج الفتى عند شاطىء الجزيرة الغاطسة ، وما لاقاه من مماثلة ضياعية تقارب ما واجهه الحجاج في غرف الفينة : ( تفاصيل ـ تحطم القارب بشظايا النهر القاذفة بلمعان شديد .. بعيدا عن الجزيرة التي أفلت منها خلال صلاة الحاج .. ونظر الحاج حوله ثم إلى السماء في محاولة إنقاذ يائسة . / ص53 ) .

ـ تعليق القراءة :
أن أهمية فكرة و موضوعة قصة ( الحاج ) لا تتوقف منا على دراسة أحداثها و تكاثرها النوعي و الكمي ، بل أننا كنا قد قصدنا في محور مباحثنا ، الاستشهاد بذلك التكثيف و الطاقة الخارقة في أداة الوصف و عبر علائقها في المسرود النصي ، كما يمكننا التنويه على أن فن القصة القصيرة لدى عوالم أستاذنا المبدع الرائد محمد خضير تحديدا ، لا تشغل محاورها متتاليات الأحداث ، بقدر ما يعنيها استخلاص و توظيف الوعي الرمزي البناء ارتباطا و أداة المغايرة الوصفية الجادة و الجديدة في مواطن النص القصصي في العالم العربي . و حتى الوحدات الأخيرة من القصة ، تساورنا التساؤلات حول مصير ذلك الفتى الحاج التائه في أحراش أمواج النهر و أعشاب أرض الجزيرة الرخوة ، بعد أن فارقه القارب مدفوعا عنه بعيدا تحت تلك ( السماء سوى منفذ يؤدي إلى مكان مجهول . / ص53 ) غير أن الفضاء الوصفي في حياة الموصوف غدا في موجهات النص القصصي بنية مواجهة تنازع غرق الجزيرة أثر تصاعد الأمواج النهرية على أرضها ، فبدا من خلالها الحاج غيابا ما بين أرض تغطس بجريان الأمواج فوقها ، وسماء تبتعد في مساحة مظلمة من الانفصال الوصفي الرصين .